الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرجل الذي فقد صوته

ابتسام يوسف الطاهر

2006 / 3 / 17
الادب والفن


قصة قصيرة
لقد اعتاد الحوار مع الذات بصمت. لكنه اليوم وفي هذا الوقت المبكر من الصباح، احتوته رغبة ان يرفع صوته. فخرج الى حيث لن يتهمه احد بالجنون ، فليس هناك سوى حفيف اوراق الاشجار والريح تداعبها.
لكنه شعر فجأة بالكلمات تتعثر وهو يحاور نفسه، كأن هناك هوة سحيقة تبتلع صوته. فتحولت تلك الرغبة، الى حاجة مُلّحة.. تطلع حوله بشئ من القلق، المكان خال في هذه الساعة المبكرة، اذن ليصيح.. ليسمع صوته. فتح فمه محاولا ان يقول شئ ما.. او ليدندن لحنا من الالحان التي كان يرددها في الشارع، في الحمام، او وهو في طريقه للعمل.. كان يضحك من اعتراض اولاده عليه، وهم يشعرون بالحرج حين يسمعونه يغني بصوت مسموع في الشارع. حاول ان يشرح لهم حاجته تلك، واحساسه بالاختناق لو قمع تلك الرغبة. يعرف ان صوته ليس جميلا، لكنها اشبه بحاجة للبكاء لخيبة ما، او اشبه بالحاجة للضحك لموقف طريف، او ربما هي حالة الحلم بالفرح او الرغبة بالصراخ..
لم يفهموه، فتجنبوا السير معه تدريجيا! هاهم اختفوا وتضاءلت زياراتهم، حتى اتصالاتهم التلفونية تلاشت هي الاخرى.
فكر ان يسأل احد المارة، يسأل عن شئ ما. فقط ليسمع صوته، ليتأكد انه مازال قادرا على الحديث، مازال حيوان ناطق! فكر باشياء عديدة.. منها ان يسأل عن الوقت، عن محطة ما. استوقف شابا كان يسير مع فتاة جميلة تتهادي بسيرها. أشار لهما بيده مبتسما، لم يسمعا تحيته على مايبدو, فقد بدا على ابتسامتهما الحيرة والتساؤل:
ـ نعم، هل انت بحاجة لشئ ما ؟ كيف نستطيع مساعدتك؟
تطلع لهما بعيون حيرى متوسلة، بذل جهده لاستخراج السؤال من بين شفتيه اللتين جففهما الارتباك. ظنّا انه اخرس، او اطرش، فصاروا يحاولون سؤاله بالاشارة!
إحتار كيف يوصل لهم انه يسمعهم، والسؤال فقط ليشعره انه مازال له صوت وانه لم يفقده هو الاخر! ثم اشار بيده لهما شاكرا مبتعدا بسرعة قبل اكتشاف دمعته.
ـ أما مجنون او غبي..
سمع تعليق الفتاة ولم يسمع اعتراض الشاب عليها.
ارتمى على اقرب اريكة من الارائك المنتشرة في حديقة الهايد بارك. فاجأه الصوت الذي اعتقد انه اختفى, ليهمس بتشفي من بين اغصان الشجرة التي يتضلل بها، او كأنه يهبط مع أحدى الوريقات الصفراء الخريفية التي تتطاير من الاغصان.
"انت غبي.. واناني" قالتها قبل عشرون عام ومازالت طرية تتجدد كتلك الاوراق.
اعتقد في بدايات حياتهم ان مجئ الاولاد مبكرا، سيمنحها دفء الامومة ويطهر روحها من نزعات التلاعب بمشاعره... لذا أصر على الاحتفاظ بعلاقتهما بالرغم من توسلاتها, في بادئ الامر، ثم اصرارها الوقح على التخلي عنه، بعد ان لاحظت تهرب الاخر منها..
اصرت على قتل الحب الذي توهمه قويا, بعد نموه لسنوات قبل الزواج! لكنه عاند كرامته والاحساس بمرارة الخيبة، وراهن على حبه لها بالرغم من انتقاد الجميع له!
لماذا أحبَّها؟ بعد كل تلك السنين مازال ذلك السؤال يعذبه.. وبالرغم من ابتعادها ورحيلها عنه منذ زمن.
نهض متثاقلا وسار بلا اتجاه، وضع يديه بجيبي معطفه الداكن، منحنيا يتدلي رأسه المثقل بالحيرة والاسئلة. يتأمل قدميه وهي تهرس اوراق الخريف الجافة، منحه ذلك ابتسامة ازاحت بعض من غيوم ذلك الكابوس. تذكر ابنه الاصغر حين كانا يتسابقان ليدوسا الاوراق الاكثر جفافا فيأنسا للصوت الذي يشبه قروطة الكرسب ـ شرائح البطاطا الرقيقة المقلية ـ كما يعلق ابنه بفرح.
اين هو الان؟ انقطعت مكالماته هو الاخر، حتى رسائله صارت شحيحة.
باغتته فكرة تحمس لها، لم يبق امامه الا ان يتصل باحدهم، ليسمع صوته! فهو بعد ان اتعبته قوائم التلفون، حيث صار كلما تراكمت في دواخله الحوارات والاسئلة بالسياسة او الادب ، اتصل باحدهم، فتطول الحوارات معهم بالساعات. اراد اختبار اهتماهم به وسؤالهم عنه! فرمي دفتر العناوين..وجعل خط التلفون للاستقبال فقط، ليسمع اولاده على الاقل، لكنهم هم ايضا انقطعوا تدريجيا. لابد انها نجحت بتحويل مشاعرهم عنه، بطريقتها الذكية البارعة باختلاق كذبات عن كرهه للاصدقاء، عن بخله وانانيته! عن عنفه وقسوته معها او مع الاولاد؟ كل ذلك لتبرر سلوكها, الذي حاول ان يكتمه ولا يخبرهم بشئ لالا تتشوه صورتها بنظرهم.
وصل احدى كابينات التلفون العمومي، حاول ان يتذكر اي من الارقام التي كان يحفظها، لم يتذكر سوى رقم احدها "لابد انه رقم تلفون ابنه الاصغر" ، الذي كان اقربهم اليه واكثرهم حميمية.
هلل للفكرة، فضرب الارقام، شعر ان قلبه هو الذي ينبض باصابعه..
لم يرن سوى مرة واحدة.. فجاءه الصوت حادا قويا، عرفه توا، انه صوتها... تدلت السماعة من يده. خرج مسرعا من الكابينة, وهو يسمع صوتها بعيدا كأنه آت من هوة سحيقة.
"...الو ..نعم ..غريب ..الخط مفتوح.. من ياتري..."


لندن تموز 2001








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال


.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا




.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو