الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكارمُ الأخلاقِ - قيمةٌ العدلِ أُنموذجًا -

عامر عبد زيد

2018 / 5 / 11
الادب والفن


التمهيد:
في ظلِّ التحولات الراهنة تُعَدُّ الأخلاقُ ركنًا من أركانِ الإصلاحِ المعنويّ الذي يمنحُ الفردَ أو الجماعةَ موجهاتٍ معنويّةٍ يمكنُ أن تجعلَ منهم أفرادًا صالحينَ يحققونَ الإصلاحَ الاجتماعيَّ، والنجاةَ في حياتهم الدنيويَّة والأخرويَّة ، فهي أخلاقٌ غير مرتبطةٌ بحضارة معينةٍ ، أو دينٍ معينٍ ، إذ إنَّ عمرَ العلاقةِ بينَ الدينِ والأخلاقِ يمتدُّ إلى عمرِ البشريَّةِ ، وهذا يعني أنَّ له حضورًا راسخًا في الثقافةِ البشريَّة.
فبالأخلاقِ تعلو الأممُ وتنهضُ وتزدهرُ وتتقدّم ، وهي دليلٌ على بقاء الحضارات وتقدّم شعوبِها ورفعتِهم ؛ فيقلّ مُعدّلُ الجريمةِ والانحطاطِ والاستغلالِ، ولا يصعد الأغنياءُ والأقوياءُ على حِساب الفقراءِ والضُّعفاء. وهذا أيضا يجعل الأخلاقَ متفاوتةً بين النّاسِ ؛ نظراً لاختلاف البيئاتِ الثقافيَّةِ والدينيَّةِ التي ترعرعوا فيها ؛ ونظراً أيضًا لاختلاف أهمّيتها عند النّاس ، فقسمٌ النّاس يضربون بها عرض الحائطِ ويعدُّونها معيقاً للطموحِ والتقدّمِ والنّجاح ، وهم بذلك يدوسونَ على إنسانيتهم وعلى مَن حولَهم ؛ حتى يستطيعوا الوصولَ إلى أهدافهم وغاياتهم الدّنيئةِ الرّخيصة ، والتي ستسبّب لهم ولِمَن حولَهُم الهلاكَ والخسرانَ ؛ وبهذا هم يساهمون في إقرارِ مصيرِهم .
ومن ناحيةٍ ثانيةٍ نجد أنَّ طبيعةَ الأخلاق طبيعةً تراكميّةً بامتياز ، متنوّعةٌ مصادرها ، فقد يستمدُ النّاسُ أخلاقَهم من العاداتِ والتقاليدِ والأعرافِ المتّبعةِ ، وقد يقوِّمُ الدّينُ أخلاقَ النّاسِ ، بتأكيدِ الأخلاقِ الحميدةِ ، ومحو الأخلاقِ السّيئةِ التي نشأوا عليها ؛ لهذا فالأديانُ ضروريَّةٌ جداً للنواحي الأخلاقيّةِ ، إضافةً إلى وظيفتها الرّئيسةِ الأخرى والمتمحورة حولَ تعريفِ النّاسِ بخالقِهم وربِّهم المعبود.
ومن هنا يأتي الرِّهانُ الباعِثُ على تناولِ المشكلةِ وما تمثِلُهُ من راهنيَّةٍ في حياةِ الناسِ ومعاشِهم ، فيما يحتاجون إليه من تمثِّلٍ للقيم التي تُعَمِّقٌ التعايشَ وتحقِّقُ السلوكَ القويمَ في علاقةِ الإنسان بربِّهِ وعلاقتِهِ بأخيهِ الإنسانِ الآخرِ في تمثُّلِ القيم التي تحقِّقُ تَمثُّلَ القيمِ واستيعابَ أَثرِها الروحيّ، والعمل على تمثُّلِ السلوكِ الفاضلِ الذي نَجِدُهُ متمثلًا في سلوكِ الكثيرِ من الشخصياتِ الفاضلةِ في تاريخِ الاسلامِ، وهي تمثِّلُ الكارزمةَ الدينيَّةَ التي تقومُ على قيمِ السماحةِ والفضيلةِ، كما عبّرَ عن اهميتها "ماكس فيبر ". وهي تبدو راهنيَّةً غائبةً نحاول استحضارَها في الأقوالِ على صعيد النصِّ المقدَّسِ، أو على صعيد استعراضِ نماذجَ مِن السيرةِ من خلالِ عرضِ أقوالٍ تَحُثُّ على مكارمِ الأخلاقِ ، بوصفها نماذج قِيميَّة قابل للتمثُّلِ والمحاكاةِ على صعيدِ الفردِ والجماعةِ، أو نماذج في التربية والتعليم والإرشاد الاخلاقيّ ؛ حتى يتحوَّلَ إلى باعثٍ نفسيٍّ داخليّ يُحرِّضُ الإنسانَ على اتباعِ الأخلاقِ النابعةِ من نفسٍ طَيبِّةٍ، وإرادةٍ خالصة ؛ لأنَّ الأفعالَ التي تصدرُ عن تكلفٍ، لا خيرَ فيها. ولكنَّها إنْ كانت أصيلةً في بواعِثِها فإنَّها تبدو كالدستورُ الذي ينطوي على قواعدِ السلوك الذي يستندُ في تقييمه إلى الخير والشر بكل بواعثهما القِيَمِيَّة سواء كانت من الدين أم من المجتمع .
إنَّ أُطروحةَ البحثِ تمثِّلُ الموقفَ الذي ننطلقُ مِنْهُ في مقاربةِ موضوعِنا، وهي راهنيّةُ الأخلاقِ وأثرُها في إقامةِ السلوك وتقويمه، وبَعْثِ قيمِ العدلِ والفضيلةِ من خلال تأصيلها في النصِّ الدينيّ؛ لما يمثلُهُ من مركزيَّة ثقافيَّة ووجدانيَّة في ضمير الناس. ولعل هذا يتحقق من خلال تناول قيم مكارم الأخلاق وهي تمثِّلُ رأسَ مالٍ مشترك بين المسلمين . وقد قسَّمنا البحثَ إلى وحداتٍ معنويَّة تقومُ على تأصيل مكارم الأخلاق وربطها بينَ النصِّ والقيمِ الأخلاقيَّة التي يُنشَدُ تحققُها في سلوكِ المسلمين وصولًا إلى تحقُّقِ السلوكِ القويمِ . ثم بحثنا في بواعثِ السلوكِ حُسْنًا أو قُبْحًا، فهل بواعثُهُ نصيَّةٌ أو عقليَّة من زاوية عقائديَّة في المدارسِ الكلاميَّة الثلاثة الأشعريَّة والاعتزاليَّة والشيعيَّة وموقف كلٍّ منها من قيم العدل .
المبحث الأول
مكارم الأخلاق في الفعل

أوَّلًا : تعريف مكارم الأخلاق في اللغة :
إنَّ الحفرَ في دلالة معنى الأخلاق في اللغة أمرٌ ضروريٌّ ؛لأنَّ اللغةَ هي خزينُ تجاربِ الأممِ، التي أُودعتْ فيها، ودلالة " مكارم الأخلاق " في اللغة بوصفها جمعَ خُلُقٍ تظهر لنا من خلال الآتي :
مَكَارمُ : جمع مَكْرُمَة ، (كرم) اسم جامع لكل ما يُحْمَد ، فالله عز وجل كريم حميد الفِعال ورب العرش الكريم العظيم . الكَرَم نقيض اللُّؤْم يكون في الرجل بنفسه ، وإن لم يكن له آباء ، ويستعمل في الخيل والإبل والشجر وغيرها من الجواهر إذا عنوا العِتْق ، وأَصله في الناس .( )
الأخلاق : جمع خُلُق - بضم اللام وسكونها -: الدين والطبع والسجية، ( )( ) وحقيقته كما يقول ابن منظور - ويتكرر هذا المعنى في القواميس - : الخلق : الدين والطبع والسجية ،"أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخَلقِ لصورته الظاهرة".( ) وذهبَ ابنُ الأثيرِ الى المعنى نفسِهِ ، بقوله : وحقيقته انه لصورة الإنسان الباطن ، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها ولها أوصاف حسنة وقبيحة ( ).وهذا ما نجده في قول الجرجاني كذلك (الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة الى فكر ورؤيا فان كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا وان كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقا سيئا) ( ). وهو ما أكَّدَهُ الغزالي أنَّ الخلقَ عبارةٌ عن هيئةٍ في النَّفس راسخة، وقال : "إن الألفة ثمرة حسن الخلق ؛ والتفرقة ثمرة سوء الخلق "( ) بمعنى أنَّ هناك باعثًا نفسيًّا داخليًّا يحرِّضُ الإنسانَ على اتباع الأخلاقِ النابعة من نَفْسٍ طيِّبةٍ، وإرادة خالصة، أمَّا الأفعال التي تصدر عن تكلُّفٍ، فلا خير فيها.
وهذا ما جعل بعض أهل العلم الدينيّ يؤكدون أنَّ ما أسرَّ عبدٌ سريرةَ خيرٍ، إلا ألبسهُ اللهُ رداءها، ولا أسرَّ سريرةَ شرٍّ قط، إلا ألبسهُ اللهُ رداءها . وفي النتيجة تبدو الأخلاقُ كالدستورِ الذي ينطوي على قواعدِ السلوك الذي يستندُ في تقييمِهِ على الخير والشر ؛ ولكنَّه يظهر أنَّ تلك التعريفات تشير إلى أنَّ الأخلاقّ لها جانبان، احدهما : نفسيٌّ باطنيّ ، والآخر : سلوكيٌّ ظاهريّ، أي إنَّ الأخلاقَ نفسيَّةً أو معنوية منظرها الخارجيّ هو ما نسميه المعاملةَ أو السلوكَ فالأخلاق مصدر والسلوك مظهر( ).
ثانيا : الأخلاقُ في الاصطلاح :
يُعرَّفُ عِلْمُ الأخلاقِ بوصفهِ العلمَ الذي "يبحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، مع بيان الواجبات التي يلتزم بها الإنسان " ( ) فالأخلاق هي " حال للنفس داعية الى أفعالها من غير فكر أو رويّة وهذه الحال تنقسم إلى قسمين، منها: ما يكون طبيعيا من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ومنها: ما يكون مستفادا بالعادة والرويّة ويكون مبدوءاً بالفكر ثم يستمر عليه شيئًا فشيئًا حتى يصير ملكا وخلقا "( ) ويبدو أنَّ هذا التعريف يوظِّفُ المعنى اللغوي السابق ، في تاكيد حكم أخلاقيّ يقوم أو يصف سلوك الفرد أو الجماعة والحكم عليه مستندًا على قيمتين؛ هما: الجمال والقبح، وهما مرهونان بالمصدرِ الذي يحكم عليهما، وفي الإسلام: "الجميلُ ما جمَّله الشرع، والقبيحُ ما لا يرضاه ولا يقرُّه الشرع." ولعل حاكمية الشرح حاضرة هنا في توصيف "مكارم الأخلاق " وهي الجنبة العملية التي تعتمد على الأوامر والنواهي الشرعية في النص سواء كان القرآنَ أم نصَّ المعصوم ، ومن هنا جاء " مفهوم مكارم الأخلاق " : هي مجموعةٌ من العادات والسُّلوكيّات والتّصرّفات والأقوال والأفعال التي تنبع من ذات الإنسان وضميره وقناعته ؛ فالخير والشّر داخله في صراعٍ دائمٍ، فمتى غلب خيرُه شرَّه أصبح صاحب خُلُقٍ عظيمٍ، وجزءٌ من الأخلاق تُكتسب بالتّربية الصّالحة والاعتياد على سلوك الأوائل من ذوي الأخلاق الحميدة، وهذا الجزء يقع على عاتق كلّ وليّ أمر من الوالدين والمدرسة والمعلّمين والمجتمع. فالتعريف كأنَّهُ يراعي الأبعادَ الأربع : الجانب العقليّ الواعي القائم على التأمل في مورد النص ، والثاني: الجانب النفسيّ الذي يكون عليه الفرد أو الجماعة والثالث : الجانب الاجتماعيّ وما يحمل المجتمع من موروثٍ اجتماعيّ، والرابع: الجانب التكويني للفرد . وهذا ما يمكنُ أن نستلهمَهُ من التعريف اللغويّ إذ نجد مفهوم الأخلاق يتحدد في جانبين ،هما: الأخلاق والآداب التي حثَّ عليها الإسلام وذُكِرت في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة اقتداءً بالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي هو أكمل البشر خلقا لقول الله سبحانه عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ، فمكارمُ الأخلاقِ أفضلُ الدّرجات في كلّ خُلُقٍ؛ فالأمانة خُلُقٌ كريمٌ ومن اتّصف بكمالِ الأمانةِ فقد وصل إلى مرحلة المكارمِ في هذا الخُلُق، كما كان يُوصف الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالصّادق الأمين ، وهذا يعني أنَّ الأخلاقَ فيها جنبةٌ دينيَّةٌ مهيمنةٌ تتمثَّل بأوامر ونواهٍ إلاهيَّة ؛ ولهذا فان السّبب في اجتماع الأخلاق الحميدة مع التديّن الصّادق والعميق، هو أنّ المتديّن يسعى للوصول إلى الكمال المطلق، وكلما ارتقى أكثرَ في تديّنِهِ ومعرفته بالله كلما عظمت أخلاقُهُ؛ ولهذا كله فالرّسل هم أعظم البشر أخلاقاً؛ لأنّهم أعرف النّاس بالله. وهناك أحاديثُ تدعو إلى حسن الخلق، وأَنَّ أساس هذا الدّين العظيم هو مكارم الأخلاق ومحاسنها؛ فقد روى البيهقي أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - قال:" إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق "، وإنّ كلمة البرّ هي الجامعة لمعاني الدّين، قال عنه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:" البرّ حسن الخلق "، رواه مسلم. وقد اتصف النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - بما وصفه به الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بحسن الخلق، فقال جلّ وعلا:" وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ "، القلم/4
وقد تتنوع الأخلاق لتشمل العديد من الشّمائل الحميدة ، مثل الصّدق، والأمانة، وحبّ الغير، والحرص على النّاس، وعلى أموالهم، وحياتهم، وممتلكاتهم، وأعراضهم، كما تشمل أيضاً الابتعاد عن الغيبة والكلام الفاحش، والإخلاص في العمل، والنّزاهة، قال الإمام الصادق (عليه السلام) "خف لببه كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه ، فإنه يراك ، و إن كنت ترى انه لا يراك ، فقد كفرت ، و ان كنت تعلم أنه يراك ، ثم برزت له بالمعصية ، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك ."( ) .
وأعظم البشر أخلاقاً على الإطلاق هم الأنبياء والرسل - عليهم السّلام - فهم حازوا عليها وجمعوا الأخلاق الحسنة و ابتعدوا عن الأخلاق السّيئة. يليهم المتديّنون بصدق والعارفون بالله، وأصحاب الأرواح العظيمة .
ومن سمات هذه الاخلاق أنَّها أخلاقٌ عمليَّةٌ تختلفُ عن الأخلاق النظريَّة ؛ لأنَّها أخلاق إسلامية مصدرها الوحي؛ ولذلك هي قيمٌ ثابتةٌ ومُثُلٌ عليا صالحة لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعِهِ ، أَمَّا مصدرُ الأخلاق النظريَّة فهو العقل البشريّ المحدود أو ما يتفق عليه الناس في المجتمع " العرف " ؛ ولذلك فهي متغيرة من مجتمع لآخر ومن مفكر لآخر.
ومصدر الإلزام في الأخلاق الإسلامية هو شعور الإنسان بمراقبة الله عز وجل له، أَمَّا مصدرُ الإلزام في الأخلاق النظرية فهو الضمير المجرد أو الإحساس بالواجب أو القوانين الملزمة.
وإذا أردنا أن نحدد "مكانة الأخلاق في الإسلام " ، فهي مِن أهمِّ المقاصدِ لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس: قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ) (الجمعة: 2).
فَيَمُنُّ اللهُ على المؤمنين بأنَّهُ أرسلَ رسولَهُ لتعليمهم القرآنَ وتزكيتِهم، والتزكية بمعنى تطهير القلب من الشرك والأخلاق الرديئة كالغل والحسد وتطهير الأقوال والأفعال من الأخلاق والعادات السيئة. فَمِن أَهمِّ أسبابِ البعثةِ الرقي والسمو بأخلاق الفرد والمجتمع.
إنَّ الأخلاقَ جزءٌ وثيقٌ مِن الإيمان ؛ للاعتقاد بأنَّ إتمام الأخلاق من أهم مقاصد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولمَّا سُئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ المؤمنين أفضل إيمانا ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أحسنهم أخلاقا" . وقد سمى اللهُ الإيمان براً، فقال تعالى: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ).(البقرة :177) والبِرٌّ اسمٌ جامعٌ لأنواع الخير من الأخلاق والأقوال والأفعال؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "البر حسن الخلق" . ويظهر الأمر بجلاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" .
وهي تجمع بين الفعل والعبادة ايضا؛ لأنَّ الأخلاقَ مرتبطةٌ بأنواع العبادة كلِّها : فلا تجد الله يأمر بعبادة إلا وينبه إلى مقصدها الأخلاقي أو أثرها على النفس والمجتمع، وأمثلة هذا كثيرة، منها:
(فالصلاة ) ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ).و (الزكاة ) (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ ) فمع أن حقيقة الزكاة إحسان للناس ومواساتهم فهي كذلك تهذب النفس وتزكيها من الأخلاق السيئة.و ( الصيام ) ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فالمقصد هو تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وقال ابو الباقر (عليه السلام) :" ليس من عبد مؤمن ، إلَّا وفي قلبِهِ نوران ، نورُ خِيفَةٍ و نورُ رجاء ، لو وزن هذا ، لم يزد على هذا )( ) وقالَ الامام الهادي(ع):( الحَسَدُ ماحقُ الحسنات ، والزَّهوُ جالبُ المَقْتِ ، والعُجْبُ صارفٌ عن طلبِ العلمِ داعٌ الي الغمْطِ والبُخْلِ اَذَمُّ الاخلاق والطمَعُ سَجيةٌ سيِّئة)( ).
في كل هذه النصوص التي تؤكد على الجانب العملي للفعل الاخلاقي ضمن خانة مكارم الاخلاق ؛ ولكنَّ ( البعض ينظر إلى الاخلاق من زاوية العبادات اللفظية ، فينتقل من ورد الى ورد ، وكأن العبد يتحول إلى عالم الملكوت في ليلةٍ واحدة بورد معين ).( ) بمعنى من الضرورة بمكان التأكيد على ضرورة تحول العبادة من بعدها اللفظيّ إلى اقترانها بالفعل الأخلاقيّ الواقعيّ ، فتجد ترجمتها في حاجة الأخلاق إلى العبادة في تقويم السلوك على صعيد الفرد والجماعة ، وكل هذا مقترن بالإيمان؛ لأنَّ تدينَ المرءِ وتمسكه بالشريعة، من وسائل اكتساب الأخلاق السليمة (سلامة العقيدة ) و (الدعاء) اذ الدعاءُ بابٌ عظيم، (المجاهدة ) ذلك أنَّ الخلق الحسن نوعٌ من الهدايةِ يحصلُ عليه المرء بالمجاهدة، قال - عز وجل -: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت : 69)، وايضا (المحاسبة) وذلك بنقدِ النفس إذا ارتكبت أخلاقًا ذميمة، وايضا (التفكر في الآثار ) فإنَّ معرفة ثمرات الأشياء، من أكبر الدَّواعي إلى فعلِها وتمثلها، وايضا (النظر في عواقبِ سوء الخلق) و(الحذر من اليأسِ من إصلاح النفس) و(علو الهمة)، فعلوُّ الهمةِ يستلزم الجد والإباء، ونشدان المعالي، وتطلاب الكمال، والترفع عن الدنايا، والصغائر، و(الصبر) فالصبرُ من الأسسِ الأخلاقية التي يقومُ عليها الخلق الحسن، و(العفة) التي تحملُ على اجتنابِ الرذائل والقبائح من القولِ والفعل، وتحمل على الحياء ، وهذا يتطلب (الشجاعة) التي تحملُ على عزةِ النفس، وإباء الضيم، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذلِ. وهذا يتحقق من خلال"بناء أمرك على عدم المسامحة والمماهلة في جزئي و لا كلي ، فكل ما تعلمه راجحاً من الأمور المعلومة الرجحان اجعل همك في فعله ، و لو كان جزئياً حقيراً في نظرك ، وكل ما تعلمه بعدم الرجحان من الأمور فاجعل همك في تركه واجتنابه ، و إن كان جزئياً حقيراً في نظرك . ( ) وهذا يتطلب ضبط النفس والانضباط الشخصي بمعنى عدم الاستسلام للنزوات ، وإنما من الضروري أن يتحلَّى المؤمن صاحب الأخلاق بالتحكم بميوله ورغباته، وهذا يتحقق من خلال جعل تدينك يُمَثِّلُ فلسفةَ حياةٍ شاملة لكل جوانب حياتك ومستوعبة ثناياها كافةً، ويحقق له أيضا النجاة في الآخرة .( فكان تأهل العباد لتلك السعادة الأبدية بهذه الأعمال الدنيوية ) .( )
ومن الزاوية نفسِها يُمكنُ النظرُ إلى احد أفعال الأخلاق وهو( العدل ) ، فهو يحمل على اعتدالِ الأخلاق ، وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط و(تكلف البِشر والطلاقة، وتجنب العبوس والتقطيب) ، فالعدل يحتاج إلى العلم والعمل معًا؛ إذ ( لا نفع للعلم بدون العمل ، ولكنَّ العبدَ مأمورٌ بكلٍ منهما ، وكل واحد منهما يؤكد صاحبه ويقويه ) ( ) كـ(التغاضي والتغافل) و (الحلم ) فالحلمُ من أشرفِ الأخلاق، و الإعراضُ عن الجاهلين ، كما جاء في القران ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) (الأعراف : 199).وهذا يتطلب صفة أُخرى (الترفع عن السِّباب) و(الاستهانة بالمسيء) و (نسيان الأذية) و (العفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان) و (السخاء) و ( نسيان المعروف والإحسان إلى النَّاس) و( الرضا بالقليل من النَّاس، وترك مطالبتهم بالمثل)، قال - تعالى -: وفي مجال العفو( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ-- إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) ( الاعراف : 7.) يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (ليس في القرآن آية اجمع لمكارم الأخلاق منها)( )
و(تجنب الجدال) و ( التواصي بحسن الخلق): ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (العصر : 3). وهذا يتطلب رؤيةً تقومُ على التسامحِ واستيعابِ هفواتِ الآخرين واتساعِ شفقةِ المتديِّنِ وصفحِهِ؛ عملًا بقوله تعالى :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134 :ال عمران :3) فهذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونجد نصًّا للشيخ المفيد هو " ....فإذا تمكن الإنسان إنكار المنكر بيده و أمن في الحال ومستقبلها من الخوف بذلك على النفس و الدين والمؤمنين ، وجب عليه الإنكار بالقلب و اليد و اللسان . و إن عجز عن ذلك ، أو خاف في الحال أو المستقبل من فساد بالإنكار باليد اقتصر فيه على القلب و اللسان ، و إن خاف من الإنكار باللسان اقتصر على الإنكار بالقلب الذي لا يسع أحداً تركه على كل حال ..." ( )
المبحث الثاني : تيارات الكلامية في الأخلاق "قيم العدل انموذجا "
يمكن أن نَنْظرَ الى احدى القيم في الأخلاق الإسلامية وهي " العدل "عند أبرزِ علماءِ الكلامِ مِن الأشاعرةِ والمعتزلةِ والشيعةِ ، وقد تناولنا هذه المسألة من ثلاثةِ جوانب ، أوَّلُها: أَنَّ الحُسْن هو ملاءمةُ الطبعِ ، والقُبْح هو منافرته كقولنا : إنقاذ الغريقِ حَسَنٌ ، وإتهام البريء قبيح. الجانب الثاني: أَنَّ الحُسْنَ هو الكمال ، والقُبْح هو النقص كقولنا : العلمُ حَسَنٌ ، والجهل قبيح. الجانب الثالث: يقوم على مقاربة الأمرِ من كون ، الحُسْن هو استحقاق الثواب والمدح ، والقُبْح استحقاق العقاب والذم.
وتناولنا مقاربةَ هذه المسألة في المدارس الكلاميَّة الثلاثة : الأشاعرة والمعتزلة والشيعة .
أوَلًا : الأشاعرة :
قالت الأشاعرة إنَّ الحسن والقبح شرعيَّان، و إنَّ الحسنَ ما حسَّنَهُ الشارعُ و أمرَ به و القبح ما قبَّحَهُ الشارعُ ونهى عنه ، فالأخلاق تستمد مقوماتها من الشرع لا من العقل ، فالأصالة للشرع أو الوحي أولا ، و إلا فيستلزم تقييد حرية الله وإرادته وهو محال .( ) ومن ثَمَّ كان الحسن والقبح مجردَ صفاتٍ اعتبارية لجميع الأفعال؛ لأن الأفعال كلها سواسية ليس شيء منها في نفسه حسنا أو قبيحا حيثُ يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذمَّ فاعله وعقابه، وإنَّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها. ( ) فجاء جواب الأشاعرة على السؤال الآتي :
هل يستطيع العقل من صميم ذاته، ومن دون الرجوع إلى الشرع أن يدرك ويكشف حسن الأفعال وقبحها ، أم أنه لا يستطيع ذلك إلا بمساعدة الشرع ؟ أنَّ العقل لا يستطيع ذلك أبدا ، ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها. ( ) والسؤال الثاني : هل الأوامر والنواهي من الشرع هي السبب والموجب لحسن الأفعال وقبحها ، أم هناك أفعال لها حسن وقبح ذاتيان حيثُ يكون تحسين الشارع وتقبيحه لها وسيلة للكشف عن الحسن والقبح الذي تتصف به بذاتها ؟ فقالَ الأشاعرة : الأمر والنهي عندنا من موجبات الحسن والقبح لجميع الأفعال بمعنى: أن الفعل أُمر به فحَسُن، ونُهي عنه فقَبُح. ( )
وخلاصة القول: ( أن حُسْنَ الأشياءِ وقُبْحَها ، والثوابَ عليها والعقابَ يعرف من جهة الشرع .)
ثانيا : رأي المعتزلة في الأخلاق:
قول المعتزلة في ذلك يضادُّ قولَ الأشاعرة ، إذ قالت : إنَّ الحُسْن والقُبْح يستوي في معرفتهما الملحد والموحِّد ؛ فالملاحدة يعرفون قُبْح الظلم ولا مستند لهم إلا محض العقل فالملاحدة لا يعرفون النَّهي والنَّاهي، وقالت المعتزلة أيضاً : لو لم يكن الحكم بالحُسْن والقُبْح إلا بالشرع لحَسُن من الله كلُّ شيء فحَسُن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، ولو حسن منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمتنبئ ، وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع. فالمعتزلة يقدمون الأخلاق على الحقوق ، والأشاعرة يقدمون الحقوق على الأخلاق . لا قضية "التحسين والتقبيح " وهي من المسائل الكلاميَّة ، التي ارتبطت بمفهوم " العدل الإلهي " ، وقد ذهب المعتزلة إلى القول بالحسن والقبح العقليينِ بخلاف الأشاعرة الذين قالوا بالحسن والقبح الشرعيين ، والحكم بأن الله عز وجل. عادل بموجب حكم العقل. ( ) وفي هذا يقول الإيجي:(...العقـل عنـد الأشـاعرة لا يحسن ولا يقبح، فلا ثبوت ولا عقاب قبل ورود الشرع في حين آمنـت المعتزلـة بالحسـن والقـبح العقليـين، كمـا أن الماتريديـَّة اقتربـت مـن المعتزلـة في هـذا الصـدد بقـدر مـا ابتعـدت عـن الأشـعرية في منهجهـا الشـرعي للحسـن والقبح العقليين)( ) . و أوَّل من بحث هذه المسألة من أهل الكلام هو الجهمُ بنُ صـفوان ، حـين وضـع قاعدته المشهورة (إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع ). وأخذَ بهذا القول المعتزلـة وبنو عليه أصلهم، ووافقهم عليه الكراميَّة . ( )
ثالثا : رد الأشاعرة :
كان ردُّهم نفيُ قولِ المعتزلة القائم على أنَّ التحسين و التقبيح عقليين ، مستدلِّين بالأدلَّة الآتية :
الدليل الأوّل: الله مالك كلِّ شيء يفعل في ملكه ما يشاء ، استدل الأشعري على مقالته بقوله: " والدّليل على أنَّ كل ما فعله فله فعله ، أنَّه المالك ، القاهر، الذي ليس بمملوك ، و لا فوقه مبيح ، و لا آمر ، و لا زاجر، و لا حاظر ، و لا مَن رَسَمَ له الرسوم ، و حدّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا ، لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنَّما يقبح منّا ، لأنَّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا ، و أتينا ما لم نملك إتيانه. فلمَّا لم يكن الباري مملوكاً و لا تحت آمر، لم يقبح منه شيء .
الدليل الثاني: لو كان التحسين و التقبيح ضروريَّينِ لما وقع الاختلاف، فقالو: لو كان العلم بحسن الإِحسان و قبح العُدوان ضرورياً لما وقع التَّفاوت بينه و بين العِلْم بأنَّ الواحد نصف الاثنين ، ولكنَّ التالي باطل بالوجدان. وأجاب عنه المحقق الطّوسي بقوله : ( يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور).( )
الدليل الثالث : لو كان الحُسن والقُبح عقليين لما تغيرا إِنَّ الحُسنَ والقُبحَ لو كانا عقليين لما اختلفا ، أي لما حَسُن القبيح و لما قَبُح الحسن ، و التَّالي باطل ، فإنَّ الكَذِبَ قد يَحْسُن والصِّدْقَ قد يَقْبُح ؛ و ذلك فيما إذا تضمن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك ، و الصدق إهلاكه. فلو كان الكذب قبيحًا لذاته لما كان واجبًا ولا حسنَا حين استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله.( )
ثالثا :الأخلاق عند الإماميَّة :
1- التأصيلُ الاخلاقي في الفكر الإمامي :
لابد من تأصيلِ خطابِ الأخلاقِ حيثُ ترجع مصادرهم الاخلاقيَّة الى : " القرآن الكريم "، الذي فيه الكثير من الآيات التي تأمر بمكارم الأخلاق وتدعو إلى التَّمسُّكِ بالقيم العظيمة مثل الصبر والإيثار والعفو وبر الوالدين(إن القران الكريم قدم تصورا كونيا عن الخلق والغاية منه وبهذا تظهر غاية الله من الخلق ومن هنا يأتي التعبير عن المبادئ التي قامت عليها نظرة الإسلام الى الإنسان والحياة) ( ).
و تأتي "السنة النبويَّة الشريفة" التي تحمل كل ما يتعلق بجوانب الحياة الإنسانية بالنسبة للفرد والأسرة والمجتمع والعلاقات التي يمكن أن تكون بين الأفراد داخل المجتمع وبين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى غير الإسلامية .
ثم " أخلاق أهل البيت عليهم السلام " التي تُمثِّلُ المصدرَ الأصيلَ للسنة النبويَّة ، وقد كان لهذه المرجعيات أثرُها في أتباع من مدرسة أهل البيت (إن الالتحاق والاهتداء بهدي أهل البيت ليتزن سلوكنا ويحسن تعاملنا ولنعرف إننا مسؤولون عن مهمات ومكلفون بواجبات لم نترك بلا رعاية حتى نسمح للآخرين بالتجارة بأخلاقنا ومبادئنا). ( ).فقد رسموا ملامح حركة التغير (الاخلاقية بقاعدتين هما : الالتزام الحرفي بالرسالة الإسلامية وعدم التفريط بمطلب من مطاليبها في الأخلاق .ثانيا: مراعاة الظروف القائمة في الأمة من الناحية السياسية والاجتماعية والعقلية وتبني الطريقة المثلى التي تكفل خدمة الرسالة والأمة على ضوئها). ( ) .
وهذا ما يظهر واضحًا في مصنفات "مكارم الأخلاق" عند الشيعة، من القدماء كأبي محمد الحسن بن عليّ بن الحسن بن شعبة الحراني(رضي الله عنه)( ) من علماء المئة الثالثة الذي صنّف كتاب "تحف العقول" فيما جاء في الحكم والمواعظ ومكارم الأخلاق عن آل الرسول وهو كتاب جليل لم يصنّف مثله، وقد اعتمده شيوخ علماء الشيعة كالشيخ المفيدـ ـونقل عنه ابن المعلّم ( ) ، وهو أيضاً ينسبه بقوله : روي :" لا تنظر الى الذنب وصغره ولكن انظر من تعصي به ، فانه الله العلي العظيم( ). ومن كتاب الإمام علي إلى ابنه الحسن (عليهما السلام) يقول :"فاني أوصيك بتقوى الله أي بني ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله قد كفاك أهل التجارب بغيته وتربته فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت عن علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنا تأتيه واستبان لك منه ما ربما أظلم علينا فيه ( ) ، ومن آدابه (ع) لصحابته، وهي أربعمائة باب للدين والدنيا يذكر منها : أيها الناس كفوا ألسنتكم وسلموا تسليما، أدوا الأمانات ولو الى قتلة الأنبياء. وقد صنَّفَ علي بن أحمد الكوفي (القرن الثالث ـ 352 هـ) كتاب "الآداب"، وكتاب "مكارم الأخلاق"( ) فهو أيضاً ساهم في تصنيف العلوم والآداب الأخلاقية لدى أهل البيت عليهم السلام . و صنّف عليُّ بن مسكويه ايضًا كتاب ( تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)( ) يشتمل على ست مقالات لم يصنّف مثله على التحقيق، وقد ذكرت في الأصل طبقات من أئمة هذا العلم ومن صنّفوا فيه. ولكنَّ الفردَ في ضوء القضاء المرجئ قادرٌ على أن يعيد ترسم حياته وتصميمها وتغيير ما يعد مصير محتوم عليه؛ فهو يمكن أن يغيِّر مصيرَهُ على وفق ذلك التصور العقائديّ ويخرجه من الجبرية إلى الحرية في الأمور التي نستطيع أن نقول فيها إنَّ الله جعل المصير مرجى خاضع فيه إلى سلوكيات البر التي يمكنُ أن تجعل الفرد قادرًا على أن يخلق مصيرًا جديدًا على مستوى التزامه بالقيم والإرشادات التي نقول عنها "مكارم الاخلاق "اذ تُعدُّ الأخلاق هي الضّامن الوحيد لاستمراريّة الحياة على سطح الكرة الأرضيّة بسلام ومودّة ومحبّة، وهي الضّامن أيضاً لاستمرار النّهضة، فانعدامها يعني الدّمار والخيبة والخسران، ليس على الإنسان فقط، بل تنعكس آثارها السّلبية على المجتمع، بل تؤدّي إلى تضرّر جميع المخلوقات والكائنات وأشكال الحياة أيضاً.
ويمكن تبيان هذا ايضا في تلك البحوث التي استعرضنا منها مواقف الأشاعرة والمعتزلة وهنا نحاول أن نتبينَها في العدليَّة التي تحاول تبيان موقف الله سبحانه من قيم العدل ، لدى المتكلمين من الشيعة ، وهم يقاربون تلك الأسئلة نفسها التي عرضننا لها سابقا وهي: هل إنَّ للأفعال حسنًا أو قبحًا ذاتيًا، أم إنَّ الحسن والقبح مجرد صفات اعتبارية لكل الأفعال، حيثُ توجد هذه الصفات حينَ يتم الاتفاق عليها وتنعدم حينَ يزول هذا الاتفاق؟ "رأي العدلية" هنا : ( إنَّ من الأفعال ما هي حسنة في ذاتها، وإنَّ من الأفعال ما هي قبيحة في ذاتها، ويكون الشارع عند تحسينه أو تقبيحه لهذه الأفعال كاشفا لحسنها أو قبحها لا موجبا وسببا لها). ( ) وفي السؤال الثاني الذي يقول : هل يستطيع العقل من صميم ذاته، ومن دون الرجوع إلى الشرع أن يدرك حسن الأفعال وقبحها ويكشف عنها ، أم إنَّه لا يستطيع ذلك إلا بمساعدة الشرع؟ يأتي الجواب : ( إنَّ للعقل إدراكَ حسن الأفعال وقبحها في موارد: أولا، يدرك العقل حسن الأفعال وقبح بعضها بالضرورة والبداهة، ومثاله: حسن العدل وشكر المنعم، وقبح الظلم وكفران المنعم . والثاني ، يدرك العقل حسن بعض الأفعال وقبحها بالتفكر والتأمل، ومثاله: حسن فعل أمر الشرائع وقبح تركها. والثالث ، لا يدرك العقل حسن جملة من الأفعال وقبحها لا ضرورة ولا بالتفكر والتأمل، فلا يكون للعقل سبيل لمعرفة هذا الحسن والقبح إلاّ عن طريق تحسين الشارع وتقبيحه لها . ( ) و مجال الاختلاف هل الأوامر والنواهي من الشرع هي السبب والموجب لحسن الأفعال وقبحها ، أم توجد أفعال لها حسن وقبح ذاتيان حيث يكون تحسين الشارع أو تقبيحه لها وسيلة للكشف عن الحسن والقبح الذي تتصف به بذاتها؟ رأي العدلية في هذا ( أنَّ بعض الأفعال لها حسن وقبح ذاتيان، فلا يكون أمر الشارع بها ونهيه عنها (موجبا وسببا) لحسنها وقبحها، وإنَّما يكون أمر الشرع بها ونهيه عنها (كاشفا ومبينا) لحسنها وقبحها الذاتيين، أي إنَّ الفعل حسن بذاته، فلهذا أُمر به لا لأنَّهُ أُمر به فأصبح حسنا، وكذلك الحال في الفعل القبيح.) ( )
الخاتمة : ما يمكن أن نستنتجه من دلالة مفهوم " مكارم الأخلاق " في اللغة أنَّها جمع خلق ظهرت من خلال المعاني " مَكَارمُ " جمع مَكْرُمُ ، إذ الكَرَم نقيض اللُّؤْم ، أمَّا "الخُلْقُ فهو الدين والطبع والسجية، إنَّه صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخَلقِ لصورته الظاهرة.من خلال التركيز على الباعث النفسي الداخلي يحرض الإنسان على اتباع الأخلاقِ النابعة من نفسٍ طيبة، وإرادة خالصة، حتى تبدو الأخلاق بمثابة الدستورُ الذي ينطوي على قواعدِ السلوك الذي يستندُ في تقييمه إلى الخير والشر .لأنَّ " مفهوم مكارم الاخلاق " هو مجموعةٌ من العادات والسُّلوكيّات والتّصرّفات والأقوال والأفعال التي تنبع من ذات الإنسان وضميره وقناعته.
والاستنتاج يقودنا إلى أنَّ مكارم الأخلاق تراعي أربعةَ جوانب في الإنسان هي: الجانب العقليّ الواعي القائم على التأمل في مورد النص ، والثاني: الجانب النفسيّ الذي يكون عليه الفرد أو الجماعة والثالث: هو الجانب الاجتماعيّ وما يحمل المجتمع من موروث اجتماعي والرابع: الجانب التكويني للفرد .
إنَّ الأخلاق فيها جنبة دينيَّة مهيمنة تمثِّلُ أوامرَ ونواهيَ إلهية؛ ولهذا فإنَّ السّبب في اجتماع الأخلاق الحميدة مع التديّن الصّادق والعميق، هو أنّ المتديّن يسعى للوصول إلى الكمال المطلق، وكلما ارتقى أكثر في تديّنه ومعرفته بالله كلما عظمت أخلاقه ، مثل الصّدق، والأمانة، وحبّ الغير، والحرص على النّاس، وعلى أموالهم، وحياتهم، وممتلكاتهم، وأعراضهم، كما تشمل أيضاً الابتعاد عن الغيبة والكلام الفاحش، والإخلاص في العمل، والنّزاهة.
إنَّ الأخلاق جزء وثيق من الإيمان والاعتقاد ، ويمكن النظر إلى أحد مصاديق الأخلاق وهو( العدل ) ، فهو يحمل على اعتدالِ الأخلاق ، وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط ، فالعدل يحتاج إلى العلم والعمل معا . وقد تناول هذا المفهوم علماء الكلام من الأشاعرة والمعتزلة والشيعة :
فذهبت الأشاعرة إلى أنَّ الحسن والقبح شرعيين و أنَّ الحسن ما حسنه الشارع و أمر به و القبيح ما قبحه الشارع ونهي عنه ، فالأخلاق تستمد مقوماتها من الشرع لا من العقل ، فالأصالة للشرع أو الوحي أولا ، و إلا فيستلزم تقييد حرية الله وإرادته وهو محال.
أمَّا المعتزلة فذهبت إلى أنَّ الحُسْن والقُبْح يستوي في معرفتهما الملحد والموحِّد ؛ فالملاحدة يعرفون قُبْح الظلم ولا مستند لهم إلا محض العقل، والملاحدة لا يعرفون النَّهي والنَّاهي، ولوكان الحكم بالحُسْن والقُبْح لا يكون إلا بالشرع لحَسُن من الله كلُّ شيء فحَسُن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، ولو حسن منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمتنبئ ، وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع؛ فالمعتزلة يقدمون الأخلاق على الحقوق ، والأشاعرة يقدمون الحقوق على الأخلاق . وقضية "التحسين والتقبيح " هي من المسائل الكلامية ، التي ارتبطت بمفهو " العدل الإلهي "
أمَّا لدى المتكلمين الشيعة فإنَّ من الأفعال ما هي حسنة في ذاتها، وإنَّ من الأفعال ما هي قبيحة في ذاتها، ويكون الشارع عند تحسينه أو تقبيحه لهذه الأفعال كاشفا لحسنها أو قبحها لا موجبا لها وسببا فيها، أمَّا استطاعة العقل من عدمها فانَّهم يذهبون إلى أنَّ للعقل إدراكَ حسن الأفعال وقبحها في موارد: أولا، يدرك العقل حسن بعض الأفعال وقبحها بالضرورة والبداهة، ومثاله: حسن العدل وشكر المنعم، وقبح الظلم وكفران المنعم . والثاني ، يدرك العقل حسن بعض الأفعال وقبحها بالتفكر والتأمل، ومثاله: حسن فعل أمر الشرائع وقبح تركها. والأمر الثالث: لا يدرك العقل حسن جملة من الأفعال وقبحها لا ضرورة ولا بالتفكر والتأمل، فلا يكون للعقل سبيل لمعرفة هذا الحسن والقبح إلاّ عن طريق تحسين الشارع وتقبيحه لها.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع