الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذبابة والميتافيزيق

مصلح كناعنة

2018 / 5 / 11
الادب والفن


ذبابة حطت على الحائط الخارصيني الأملس في الحمام. رأيتها فاستغربتُ وقوفها وحيدةً هناك ووجهها إلى الحائط النقي النظيف اللامع، ولكني تركتها في حالها كي أرى ماذا ستفعل وكم من الوقت ستظل واقفة هناك.

كان ذلك في المساء، وفي صباح اليوم التالي فوجئت بأنها لا تزال هناك، في نفس الموضع تماماً، لم تتحرك لها قائمة ولم يرف لها جناح.
وفي المساء وجدتها على حالها بالضبط، لم تتحرك قيد أنملة...
ثلاثة أيام والذبابة تقف ساكنة سكون الأموات على حائط الحمام الخارصيني الأبيض الصقيل اللامع، لا يتحرك فيها شيء ولا تتحرك من موضعها ولو بمقدار ذرة واحدة...

غبتُ عن البيت أسبوعاً وعدت، وفي طريقي إلى الحمام تذكرتُ الذبابة وكنتُ قد نسيتها كلياً. وفغرتُ فاهي من هول المفاجأة حين دخلت الحمام ورأيتها لا تزال كما تركتها بالضبط، لم تبرح مكانها ولم تتحرك من موضعها ولو حتى بأبعاد مجهرية. هل هي ميتة؟!
قلت في نفسي: لو كانت ميتة لسقطت منذ أيام.

كنت أود أن ألمسها كي أتأكد من أنها لا تزال حية، ولكني تركتها في حالها كي لا أتدخل في خطتها الغامضة ولا أجهض مشروعها الذي لا أعرفه ولا أفهمه ولا يمكنني أن أستوعب ماذا يمكن أن يكون.
إنها لا تأكل ولا تشرب، وأؤكد لكم أنه ليس هناك على ذاك الحائط الخارصيني الناصع الأملس أية قاذورات يمكنها أن تعتاش عليها، وهي لا تفتقد أبناء وبنات جنسها ولا يبدو أنها تحتاجهم في شيء... ولا تضع بيضاً كي تحافظ على نوعها، ولا تلتفت إلى أي شيء في الوجود، لا ماضٍ ولا مستقبل ولا حاضر... كل ما يحيط كيانها ويقع عليه بصرها مجرد حائط لامع أملس...
هل تنتظر أن ينفتح الحائط على فراغ فتطير؟!
أم تنتظر أن ينشق هذا الشيء فتخترقه إلى العالم الذي تعرفه؟!
أم هي تعرف أن هذا الحائط حاجز صلب تريد بمحض إرادتها أن تسكن إليه وحيدة متوحدة منعزلة عن الكون الذي لم يعد يعنيها في شيء؟!
أم أنها انتحارية قررت أن تُضرِب عن الحياة حتى تموت في المكان الذي اختارته لنهايتها؟!
أم أنها رأت نفسها في لمعان الحائط الخارصيني الصقيل فوقعت في حب ذاتها وأصابها ما أصاب ناركيسوس الفتى الإلهي اليوناني الذي رأى صورته في البحيرة فعشق ذاته وقفز إلى الماء ليحتضنها إلى الأبد؟! أم أنها رأت صورتها لأول مرة فعرفت حقيقتها كذبابة قذرة لا تستحق أن تعيش؟!

دخلتُ إلى الحمام في صباح الأمس وبعد مرور اثني عشر يوماً على بدء مشروع الذبابة، فصعقتني المفاجأة! لقد طارت الذبابة لمسافة لا تزيد على نصف متر وحطت على بقعة أخرى من نفس الحائط الخارصيني الأبيض الناصع، بنفس الوضعية والاتجاه!!
إنها حية إذاً!! لقد تأكد هذا بما لا يقبل الشك.
فما الذي حدث؟!
هل كان هذا جزءاً من الخطة منذ أن بدأت؟
أم أنه قرار طارئ اتخذته بفعل أمر استجَدّ؟! وما عساه يكون ذاك الأمر الذي استجَدَّ على ذبابة تبحلق اثني عشر يوماً في نفس البقعة من حائط أبيض صقيل أملس؟!
إن ذلك يذكرني بمعضلة الإله الأبدي الذي ظل وحيداً بلا كون ولا وجود منذ اللانهاية التي ليس لها بداية، وفجأة خلق الكون. لماذا؟ ما الذي استجَدَّ عليه في تلك اللحظة بالذات فجعله يقرر أن يخلق الكون، ولم يكن هناك شيء أو ظرف أو حالة من خارجه يمكن أن تؤثر عليه؟!!... لم يكن هناك أي شيء عداه، فمن أين استجَدَّ ما جعله يخرج عن سكونه الأبدي كي يخلق كوناً يوجع به رأسه ويطلب منه أن يُسبِّحه ويَعبده فتقبَل منه أجزاء وتتمرد على مشيئته أجزاء؟! وإذا كان خلق الإله للكون لم يكن قراراً مُستجدّاً نابعاً من أمر استجَدّ، وإنما جزءاً من خطة مُعَدَّة مُسبقاً، فمتى وُضِعت هذه الخطة في زمن أبدي لانهائي ليس فيه "متى"؟! وكيف عُيِّنَت في تلك الخطة لحظة الخلق وليس في الزمن الأبدي اللانهائي لحظات؟! فما لا يبدأ ولا ينتهي لا يقبل التجزئة، لأن ما لا تُحَدَّد بدايته ونهايته، لا تحدد أية جزئية فيه... لا جزئيات له... لا يقبل التجزيء.

أكتب هذا النص في هذا الصباح، بعد أن عدتُ من الحمام ووجدتُ أن الذبابة لا تزال في مكانها الجديد على الحائط الخارصيني الأبيض اللامع الصقيل...
لم تتحرك من مكانها ولو حتى مجهرياً، لا تأكل ولا تشرب ولا تبيض، لا تهتم بأي شيء في الوجود، ولا تحاول أن تفعل أي شيء في الحياة... ويبدو أن مخططها أو مشروعها لم يصل إلى نهايته بعد... أو أنه غير موجود من أساسه!!

إنني في مأزق فعلي لا أعرف كيف أخرج منه!
ماذا عليّ أن أفعل؟
هل أقتلها وأستريح منها؟
أم أنتظرها حتى أكتشف ماذا ستكون النهاية؟
أم أتجاهلها وأمضي في شؤون حياتي، ولا أعتقد أنني قادر على ذلك؟!

إن للذبابة عمر قصير، وعاجلاً أو آجلاً سينتهي عمرها وتموت، وحينئذ ستسقط على مسطبة الحمام، وسأكنسها بمكنستي وأرميها في حاوي قمامة التاريخ إلى غير رجعة...
ولكن إذا كان ذلك ما سيحدث، فإنني سأقضي حياتي مفكراً؛ هل كان للذبابة خطة لم تنجح في تنفيذها؟ هل كان لها مشروع ماتت دون أن تحققه؟! أم أنها مجرد ذبابة، حشرة حقيرة قذرة تافهة لا يأتي منها إلا الضرر؟!
أم أنني أنا الذبابة تقف طوال العمر على حائط اللامعنى ثم تموت؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل