الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قمع -المفطرين- .. بين المجتمع والدولة

يوسف بلحاج رحومة

2018 / 5 / 12
مواضيع وابحاث سياسية



كل سنة، مع حلول شهر رمضان، تنتشر ظاهرة قمع المفطرين والتهجم عليهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم قضائيا ومجتمعيا... هذه المسألة تثير ردود فعل متشنجة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
التهجّمات تأخذ بعدا مجتمعيا / اجتماعيا بمضامين دينية أخلاقية، والمحاكمات تأخذ بعدا قضائيا / سياسيا بمضامين تشريعية قانونية.
هذه المسألة التي تتداخل فيها الجوانب الدينية والأخلاقية والمجتمعية مع الجوانب القانونية والقضائية والأمنية ، قد تبدو مجرد ظاهرة تافهة أو زوبعة في فنجان. ولكن.. تناولها من جوانبها المتعددة يحيلنا إلى عدة استنتاجات.
من الوهلة الأولى تتبادر إلى الأذهان تلك الصورة النمطية عن الإنسان المسلم الذي يعتقد أنه "يدافع" عن دينه من خلال التهجم على المفطرين والدعوة إلى معاقبتهم. وفي هذه النقطة بالإمكان الإشارة إلى صنفين من المسلمين :
الصنف الأول يتمثل في المسلم الملتزم بقواعد الإسلام ومظاهره النمطية (صلاة /حجاب / اجتناب الخمر ...إلخ ). هذا الصنف يتهجم على المفطرين لأنه يعتقد غريزيا أن ذلك يدخل في إطار الدفاع عن الإسلام والأخلاق. هذا إضافة إلى السعي الفطري للحفاظ على ما يسمى "التقاليد الموروثة" التي أجمع العديد من علماء الاجتماع على أنها مكون ضروري ل"روح الأمة" أو "الروح القومية" . فهذه التقاليد تلعب دورا رئيسيا في الحفاظ على تماسك الكيانات البشرية التي ما زالت تعيش مرحلة الجماعة ولم ترتقي إلى مرحلة المجتمع. ومن ناحية أخرى يمكن اعتبار هذا السلوك ضربا من الاستعراض الذي يمارس داخل المجتمع حتى يظهر الفرد في ثوب الحريص على الدين والثوابت والأخلاق والتقاليد ..إلخ... وبالتالي يرتفع سهمه ويحصل على مكانه اجتماعية تضمن له نوعا من الوقار والبريستيج بما يخدم مصالحه الاقتصادية والاجتماعية.
الصنف الثاني يتمثل في المسلم غير الملتزم ( شارب خمر / تارك صلاة/ غير محجبة / متبرجة .. إلخ ...). هذا الصنف يتقاطع مع المسلم الملتزم في عدة نقاط. ولكن لديه دوافع أخرى تجعله يمارس التهجم على المفطرين بطريقة قد تكون أكثر شراسة باعتباره يتميز بالشعور بالذنب سواء عن وعي أو لاوعي. فهو يشعر أنه ليس مسلما كما ينبغي، لذلك يسعى إلى تعويض ذلك النقص من خلال سلوك هو أشبه بالتزلف والتملق والاستعراض الموجه نحو المجتمع ونحو ربه. فأكثر الأشخاص حرصا على استعراض الصيام والتشهير بالمفطرين ولعنهم، هم أشخاص غير ملتزمين بالصلاة، يشربون الخمر طيلة السنة وينقطعون عن شربه في شهر رمضان. هؤلاء هم في الواقع مسلمون يشعرون أنهم مزيفون، قد يخشون أربابهم في العمل أو أعوان الأمن، لكنهم لا يخشون ربهم باعتبارهم يتركون الصلاة التي تمثل عماد الدين والفاصل بين الكفر والإيمان...
ونشير كذلك إلى الذين "يفطرون" خلسة .. لكنهم يستعرضون تهجّمهم على "المفطرين" جهرا ...
هذا الحرص على التكثيف من الاستعراضات الإيمانية والتعبدية الذي نراه لدى هؤلاء المسلمين غير الملتزمين قد لا نراه لدى المسلمين الملتزمين. وهذا السلوك هو في الواقع رد فعل سيكولوجي لمواجهة عقدة الذنب الكامنة في الوعي / اللاوعي ، فيقع ُإسقاط ذلك الذنب على الغير من خلال استعراضات تعبدية / إيمانية تقوم على استعراض الصوم وتحقير وشتم المفطرين. وهذا السلوك ينمّ عن رغبة في الحفاظ على الصورة المجتمعية من خلال إبراز التشبث بالدين وإسقاط التقصير في القيام بالواجبات الدينية على طرف آخر يقع تقديمه على أنه المقصّر الحقيقي و"المنسلخ" الحقيقي و"العاصي" الحقيقي ...
هؤلاء السلمون الذين يستبطنون عقدة الذنب يعتقدون أنهم بهذا السلوك يُرسلون رسالة مشفرة إلى المجتمع حتى لا ينظر إليهم على أنهم "متفسخون" أخلاقيا، باعتبار الربط المجتمعي النمطي الوثيق بين الدين ومظاهره السلوكية والشعائرية وبين الأخلاق. فالمتبرجة وغير المحجبة مثلا تسعى إلى تبرئة نفسها، وشارب الخمر كذلك يسعى إلى تبرئة نفسه. ومن جهة ثانية يعتقد هؤلاء المسلمون غير الملتزمين أنهم يرسلون رسالة مشفرة إلى ربهم بأنهم يحرصون على الالتزام وأنهم لا يترددون في القيام بالواجب للدفاع عن الدين وشتم المقصّرين فيه. وهم في وعيهم / لا وعيهم يعتقدون أن هذا السلوك سيمتعهم بعفو تشريعي عام / خاص يوم الحساب، فينجون من النار ويفوزون بالجنة بأيسر السّبل.
بالإضافة إلى التعامل المجتمعي كان للدولة دور في هذه المسألة باعتبار الإيقافات والمحاكمات التي مورست على بعض المفطرين. فما تقوم به الدولة قد يراه الكثيرون تعديا على الحريات والدستور . وهذا الطرح طيب ومقبول، لكنه في حاجة إلى كشف المضامين الحقيقية التي اتخذت غلافات دينية وأخلاقوية وقانونية. هذا الإجراء هو في الواقع سياسي وليس ديني. وبمعنى أصح هو ترهيب سياسي يهدف إلى الحفاظ على مصالح المتنفذين السياسيين والإجتماعيين والإقتصاديين. وهذا الترهيب هو رد فعل باهت، لكنه جذري ومؤثر، لفاشية اجتماعية تبلورت سياسيا فأمنيا فقضائيا. وبتعبير آخر، هذا السلوك يدخل في إطار رد فعل غريزي للحفاظ على بيروقراطية الدولة من خلال اللعب على المزاج العام والبارادايم الأخلاقوي السائد لدى الأفراد والمجتمع. فمن الأساليب التي تستعملها الأنظمة في المجتمعات المتخلفة للحفاظ على مشروعيتها ولحماية مصالح الفئات المتنفذة، التظاهر الشعبوي بالحفاظ على "الأخلاق" بما يساهم في تحويل وجهة التناقضات و إيجاد تعاطف غريزي ولاشعوري لكتلة اجتماعية واسعة مع النظام مهما كان فاسدا... وهذا حال المجتمعات المتخلفة.
هذه العملية أثبتت لنا سقوط الأغلبية من أدعياء الدفاع عن الحريات والديمقراطية في هذا الإختبار الصعب باعتبار الحساسية المجتمعية و"الأخلاقية" لمثل هذه المطبات رغم تفاهتها ( مواطن يأكل ويشرب دون المساس بحرية غيره). وهذا يعود إلى غياب الرهان السياسي والإجتماعي في هذه القضية.فهناك من يخشى فقدان رصيده الإنتخابي وهناك من يخشى فقدان مصالحه وهناك من يخشى المساس من صورته في المجتمع ... ولو وقع استبيان للرأي العام حول هذه العملية لنادى أكثر من 90% من التونسيين، بما في ذلك أدعياء الحداثة والديمقراطية والحرية، بسجن المفطرين وتسليط أقسى العقوبات عليهم ولما لا جلدهم أو صلبهم (كل حسب درجة الداعشية الكائنة في أعماقه).
على عكس الفكرة النمطية التي يقع تسويقها. الاختبار الحقيقي للديمقراطية والحريات لا يكون بفرض المزاج العام.
هذه المسألة وإن تبدو تافهة إلا أنها أثبتت أن التونسيين ما زالوا يتعاملون بمنطق القبيلة والجماعة (ليس المجتمع) في إطار حداثة صورية...
هذه المسألة أثبتت أيضا أن المجتمع التونسي يبدو متدينا جدا .. لكنّه يعيش الرياء والنفاق وتعدّد الوجوه ... وهذا يطرح نقطة استفهام حول العلاقة بين مظاهر التديّن و"الأخلاق" ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟