الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عملية أريحا وسلطة محمود عباس: جريمة مَن التي لا تُغتفر؟

صبحي حديدي

2006 / 3 / 18
القضية الفلسطينية


في وصف هجوم الجيش الإسرائيلي على سجن أريحا، واقتحامه بقوّة الدبابة والجرّافة، وتهديم جدرانه وأسواره ومهاجعه، ثمّ اعتقال الأمين العام لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ورفاقه، وقبل هذا ممارسة ألوان من الإهانة ضدّ حرّلس السجن والسجناء الفلسطينيين (لم يكن إخراجهم عراة إلا المشهد العلني، أو الإعلاني ربما، وما خفي كان أعظم!)... في وصف هذا كلّه قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس: "جريمة لا يمكن أن تغتفر"، و"إهانة للفلسطينيين"، و"خرق فاضح للاتفاقات". لكنه، وهو العائد من زيارة أوروبية انقطعت بفعل الحدث، أعاد التشديد على أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية سوف تواصل التمسك بالرعاية الدولية للاتفاقات الموقعة مع الدولة العبرية، بل أضاف لا فضّ فوه: " لن نتراجع، وسنواصل العمل"!
والحال أنّ تمسّك السلطة بالاتفاقات لا يقدّم ولا يؤخرّ كما يعرف عباس نفسه، ربما أفضل ممّا يحدس ابناء الشعب الفلسطيني الذي يعانون الأمرّين جرّاء تلك الاتفاقات، موقعة كانت في العلن وحدائق البيت الابيض وطابا والعقبة، أم مبرمة تحت جنح الظلام؛ خاضعة لرعاية الكبارفي واشنطن ولندن وموسكو وستراسبورغ، أم متفق عليها مع الصغار وحدهم. الجانب الإسرائيلي هو الذي يخرق ـ أو بالأحرى: ينسف ويقوّض ويهدم وينقض... ـ أيّ وكلّ اتفاق حينما يشاء، أينما اقتضت الضرورة، وكيفما كانت الوسائل. هذا بافتراض أنّ أياً من الاتفاقات تلك جرى تطبيقه على أي نحو ملموس، ليس كليّاً فحسب بل أيضاً في الحدّ الشكلي الأدنى.
ثمّ ما الذي يعنيه عباس بهذه العبارة العجيبة: "جريمة لا يمكن أن تغتفر"؟ هل يعقل انّ بعض جرائم الاحتلال، أيّ احتلال في الواقع، وهذا الاحتلال البربري الهمجي تحديداً، يمكن أن تُغتفر؟ ماذا مثلاً، إلا إذا كان القصد جريمة من نوع سحب بطاقة التجوّل الممتازة، الـ VIP، من أحد كبار أفراد السلطة الفلسطينية، بحيث تصبح سهراته وحلّه وترحاله مقيّدة مشروطة؟ وما الذي يمكن أن لا يكون "إهانة للفلسطينيين" في سلوك الاحتلال، كلّ سلوك الاحتلال؟ وما الذي التزمت به الدولة العبرية من قبل، في العهود كافة بعد كتابة مسوّدات أوسلو، وقبل سنوات طويلة من صعود أرييل شارون إلى السدّة الاعلى في هرم القرار الإسرائيلي، لكي يصبح الدوس على البروتوكول الخاص بسجن أحمد سعدات ورفاقه بمثابة "خرق فاضح للاتفاقات"؟ وهل ثمة "خرق فاضح"، وآخر غير فاضح: مهذّب، مؤدّب، محترم؟
ومن الإنصاف، والواقعية البسيطة كذلك، التفكير بأنّ قسطاً كبيراً من الإهانة التي يقول عباس إنها لحقت بالفلسطينيين، إنما لحق به هو أوّلاً وقبل أيّ من أبناء فلسطين، ولحق به شخصياً أوّلاً، وفي موقعه الإعتباري ثانياً أو بالتكافل والتضامن! ولا ندري ما ستتكشف عن الأيام من أسرار حول عملية أريحا، وما إذا كان توقيت شروع عباس في جولته الأوروبية يتزامن ـ ونقصد على النحو العملياتي الذي يتضمن تعطيل أواليات القرار العسكري والأمني الفلسطيني في المقام الأوّل ـ مع موعد العملية. ويستوي في هذا أن يكون صاحب الخديعة في واشنطن أو لندن أو ستراسبورغ أو تل أبيب أو رام الله، ما دامت العملية تمّت هكذا: خلال واحدة من أسفار عباس، الذي لا يسافر هذه الأيام كثيراً بالنظر إلى أنّ عواصم القرار توافقت على وضع السلطة الوطنية الفلسطينية في الثلاجة، ريثما تتضح الأمور على جبهة تشكيل الوزارة الجديدة وتولّي "حماس" مقاليد الأمور.
الأرجح، إذاً، أنّ شهر العسل بين عباس وعواصم القرار الدولي، واشنطن ولندن خصوصاً، قد ولّى ومضى، ليس إلى غير رجعة ربما (إذْ لا يمكن الاستغناء عن دور الرجل في المستقبل، مثلما لم يكن ممكناً الاستغناء عنه في الماضي)، بل حتى إشعار آخر مرهون مباشرة بما ستفعل "حماس"، أو... بما لن تفعل! يداه أوكفتا، هو وبطانته الفتحاوية، عرفاتية كانت أم عبّاسية قريعية رجوبية دحلانية، فاسدة كانت أم انتهازية أم تسلطية لستخباراتية عسكرتارية، وأفواههم نفخت بكلّ ما يجعل فوز "حماس" الكاسح تحصيل حاصل، وعاقبة منطقية، وعقاباً عادلاً. لماذا، والحال هذه، ينبغي أن تقدّم واشنطن ولندن طوق النجاة إلى هذا او ذاك من رجالات عهد بائس بغيض؟ بل ما الذي يمنع واشنطن ولندن، بالتشاور التامّ مع تل أبيب، من إسقاط القشّة التي تقصم بعير ما تبقى من هذه السلطة، والبادئ أظلم؟
وراهنوا أنّ الزمن لن يطول، أو هو على مرأى منّا هذه الأيام أيضاً، حين سينقلب شهر العسل إلى شهور ممضّة من التقريع والتأنيب والملامة ضدّ عباس وأجهزته، على نحو لن يفاجئنا إذا شابه ما فعل الرئيس الامريكي جورج بوش الابن مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وكان بوش، ومنذ الأسابيع الأولى لأدائه القسم وحلوله في المكتب البيضاوي، يريد من عرفات أن يتحلّى بمبدأ «القيادة»، وأن يثبت أنه «زعيم»، وأن يقتلع «الإرهاب الفلسطيني» من جذوره، وأن يبذل نسبة مئة في المئة من جهود ضبط «أعمال العنف»...
في المعاني الأوضح خلف هذه العبارات، كان بوش يريد من عرفات أن يتولّى دور الشرطي الداخلي المكلّف بالحفاظ على أمن الاحتلال الإسرائيلي؛ وأن يقامر باحتمال نشوب حرب أهلية فلسطينية ـ فلسطينية ليس بين السلطة الوطنية و«حماس» فحسب، بل أيضاً بين «فتح» أولى تقاوم الإحتلال و«فتح» ثانية تسهر على راحة الإحتلال؛ وأن «يسلّم الإرهاب أو يسلّم السلطة» كما كان يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو. وأفضل الأمثلة على الحال تلك التي أرادوها لعرفات هي التالية: كان نتنياهو هو الذي اضطرّ إلى إطلاق سراح الزعيم الروحي لحركة «حماس» الشيخ أحمد ياسين، بناء على ضغط من العاهل الأردني الراحل الملك حسين، وينبغي أن يكون عرفات، «زعيم» الفلسطينيين، هو الذي يعتقله أو يضعه قيد الإقامة الجبرية. في تمثيل ثانٍ للمعادلة الثانية: سلطة الإحتلال الإسرائيلي أُجبرت على إطلاق سراحه، والسلطة الوطنية الفلسطينية أُجبرت على إعادة اعتقاله، بحيث يقوم المستعمَر بأداء مهامّ المستعمِر إذا استخدمنا مصطلحات فرانز فانون! وضمن سياق هذا التمثيل، المفتوح إسرائيلياً كما يبدو، تمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بالنيابة إيهود أولمرت من بزّ نتنياهو في تطبيق المبدأ على أحمد سعدات، ولوّح أنه قد يطبقه أيضاً على رئيس الوزراء الفلسطيني المكلف اسماعيل هنية.
الأرجح، من جانب آخر، أنّ هوامش مناورة عباس أضيق بكثير ممّا توفّر لعرفات خلال سنوات احتجازه خلف جدران المقاطعة، وفرض العزل القسري عليه عربياً وإقليمياً ودولياً، إنْ لم يكن بسبب خصوصية المعطيات التي كانت انتفاضة القدس تفرضها على المشهد، شاء الجميع أم أبوا في الواقع، فعلى الأقلّ لأنّ سلطة عرفات الداخلية (فتحاوياً أوّلاً، ثمّ في الشارع الفلسطيني إجمالاً، وحتى في صفوف "حماس" ذاتها) ظلّت متقدّمة ومرنة وعالية المناورة، وذلك رغم أنّ شبكات الفساد والتسلّط والعربدة الأمنية والعسكرية لم تكن أقلّ شدّة بالضرورة، بل هي بدأت من ذلك العهد أصلاً: ذلك الغيم أتى بهذا الرشاش!
وكان عرفات يعرف، تماماً كما كان يعرف أفراد بطانته من الساسة ورجال الأمن الفلسطينيين الفاسدين دعاة وقف الإنتفاضة مجاناً (وكان عباس وقريع ورجوب في طليعتهم، للتذكير فقط!)، أنّ شارون لم يخرج من فتحة الدبابة الواسعة بل من شقّ صندوق الاقتراع الضيّق، بقرار من ناخب إسرائيلي يخشى السلام بالمعنى الوجودي للخشية، ولا يأنس إلا لجنرال سفّاح كي يترجم تلك الخشية إلى ظفر ومنعة وهيبة. ولهذا، كان عرفات يعرف أنّ شارون ـ بمساندة، صامتة أو حتى صاخبة، من بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ـ لن يقدّم له شيئاً من مظاهر "السلام" حتى تلك الرمزية، المخجلة، التافهة، القابلة في أية لحظة للقذف في البحر: طائرات هليكوبتر جديدة؟ تنفيذ توصيات لجنة ميتشل؟ مدرّج مطار جديد؟ زيارة البيت الأبيض؟ صفحة باهتة، أو سوداء ربما، في سجلات التاريخ؟
وما الذي كان سيتغيّر حقاً، أو سوف يتغيّر اليوم أيضاً، لو استجابت السلطة الوطنية الفلسطينية لمطالب شارون التعجيزية، التي هي مطالب أولمرت ـ بوش ـ بلير في حساب الراهن بعد فوز حماس؟ وكيف ستبقى هذه السلطة «وطنية» حقاً، وفلسطينية بأيّ معنى، إذا توجّب عليها تنفيذ التالي: حملة اعتقالات فعلية، شاملة، ساحقة، وماحقة؛ تجريد جميع «المنظمات الإرهابية» من أسلحتها، والدولة العبرية هي وحدها التي تعرّف الإرهاب والإرهابيين؛ جمع هذه الأسلحة وتدميرها بمعرفة المخابرات الإسرائيلية، أو عن طريق وسطاء أمريكيين؛ التعهد بعدم تكرار العمليات الإنتحارية، وضمان ذلك عن طريق خطة أمنية دائمة يكون الضباط الإسرائيليون جزءاً لا يتجزأ من هيكلية تنفيذها؛ إنهاء كلّ أشكال التحريض ضدّ الدولة العبرية، في المساجد ووسائل الإعلام كما في الكتب المدرسية وشاشات التلفزة المحلية والعربية الدولية؟
ولماذا تبدو السلطة الوطنية وكأنها، وحدها تقريباً، الطرف الذي ما يزال مؤمناً باتفاقات أوسلو، وما يزال مستعداً للمقامرة بكلّ شيء، بما في ذلك الوحدة الوطنية الفلسطينية، في سبيل الإبقاء على تلك الجثة الهامدة معروضة في عراء من الخراب والدماء؟ ألا يبدو واضحاً اليوم ـ وضوح الدماء والعربدة البربرية، في أريحا اليوم، وقبلها بالأمس في غزة وخان يونس وجنين... ـ أنّ أولمرت ليس سوى الظلّ الذي يعكس قامة شارون وينتضي سيفه؟ المعلّق يوسي فيرتر، في "هآرتس" الإسرائيلية، يكتب أمس: "الجمهور في إسرائيل يحبّ الزعماء الذين يُظهرون اعتدالاً دبلوماسياً وخشونة عسكرية، والذين يعيدون بعض الأرض للعرب لكي يقتلوا العرب. شارون اعتمد هذه القاعدة طيلة سنواته الخمس في الحكم، ووريثه إيهود أولمرت سوف يقتفي الدرب ذاته". ألم يكن شارون هو ذلك الجنرال الذي جاء خلفاً لجنرال آخر، وأنّ سلفه إيهود باراك لم يكن أقلّ سوءاً من بنيامين نتنياهو، وهذا الأخير لم يكن أكثر شراسة من شمعون بيريس (جزّار قانا) أو إسحق رابين (كاسر عظام الفلسطينيين أثناء انتفاضة 1987)؟
ومن الخير للرئيس الفلسطيني أن يضيف هذه الإهانة الجديدة، اقتحام سجن أريحا، إلى إهانات سابقات طعنت مباشرة في مصداقية سلطته، بل في معنى المنصب الذي يتقلّده أساساً. ولعلّ أحد ناصحيه يعيده إلى جريمة اغتيال عبد العزيز الرنتيسي أوسط نيسان (إبريل 2004)، واغتيال الشيخ أحمد ياسين قبله بشهر واحد فقط، حين لاح أنّ شارون زجّ حكومة عباس في موقف بالغ العجز أمام واشنطن، وبالغ التفريط أمام الشارع الفلسطيني، وبالغ الذيلية أمام «حماس». وكان شارون يذكّر، في المقام الثاني بأنه ما من هدنة أمريكية ـ فلسطينية، وما من ثمار عراقية ـ عربية، على حساب الدولة العبرية؛ وكان يعلن، عن طريق إراقة الدماء فقط، تفخيخ التخطيط الأمريكي لجداول تطبيق «خريطة الطريق» عن طريق دفع الإدارة إلى الوقوف مجدداً مع إسرائيل، غالبة هذه الأخيرة أم مغلوبة.
ومن الخير أن لا ينساق عباس إلى بلاغة الحديث عن "جريمة لا تغتفر"، ربما استبطاناً للقول المأثور المنسوب إلى لنهضوي الكبير أديب اسحق، هو الذي يعرف أن قتل الشعب الفلسطيني الآمن بأسره يظلّ، في عداد واشنطن ولندن وتل أبيب... مسألة فيها نظر!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فريق تركي ينجح في صناعة طائرات مسيرة لأغراض مدنية | #مراسلو_


.. انتخابات الرئاسة الأميركية..في انتظار مناظرة بايدن وترامب ال




.. المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين يزور إسرائيل لتجنب التصعيد مع


.. صاروخ استطلاع يستهدف مدنيين في رفح




.. ما أبرز ما تناولته الصحف العالمية بشأن الحرب في قطاع غزة؟