الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنة أولى تمرد

محمد دلومي

2006 / 3 / 18
حقوق الانسان


أذكر أني كنت في الصف السادس ابتدائي من عام خمسة و ثمانين تسع مائة وألف يوم افرغوا المدرسة كلها من تلاميذها ومعلميها وأخرجونا الى الطريق العام , لم نكن نعرف ماذا يحدث لكن كطفل في الثانية عشر من عمري كنت سعيد جدا لأني سأتخلص من حصة الحساب ومن الطرح والجمع والضرب والقسمة وباقي القسمة والمسائل التي يشتري فيها تاجر أمتار من قماش ليبيع جزء منها ونحسب نحن ما بقي كنت أخطئ في الحساب دائما وهذا ما جعلني عرضة للضرب على الرأس والطرح أرضا وتقسيم جسدي الى خرائط ملونة زرقاء وحمراء , ربما كنت اسعد التلاميذ في ذاك اليوم القائض من شهر ماي , وزعوا علينا باقة من الزهور وقصصات ورق , واالنجباء فينا وضعوا بين أحضانهم حمامات بيضاء وبما أني لم اكن من النجباء ولا من المميزين بل واحد من المتمردين الذين يثيرون الشغب فقد أخروني مع المؤخرين وأعطونا أعلاما صغيرة وقالوا لنا لوحوا بها عندما يمر موكب الرئيس من هنا , كنا فرحين لأننا سنرى فخامة الرئيس يمر من هنا وقد زادت فرحتنا عندما وعدونا أن الرئيس سيقدم هدايا للأطفال فقد حلمت بأن يقدم لي كرة مصنوعة من جلد بدلا من كرة البلاستيك التي كانت عندي وحلم اصدقائي بدرجات نارية وحلم الأخرون بالبسة جديدة يسلمها فخامته على الأطفال بعدما يحضنهم ويقبلهم مثل اطفاله تماما ’ أما زميلاتنا الصبايا فرحن يحلمن بدمى ذات شعور ذهبية وعيون زرقاء وفساتين أفراح وووو .... كانت أحلام الطفولة تكبر في أنفسنا , ومرت اللحظات ونحن ننتظر وبين الفينة والأخرى نلاحظ سيارة الإسعاف تنطلق بصفيرها الحاد ’ كان بعض الأطفال يتساقطون من شدة القيض والحر والوقوف الطويل فتحملهم سيارات الإسعاف الى المصح القريب , وبدا القلق يتسرب الى نفسي عندما استبد بي العطش والجوع ولم تعد الهدية تهمني ولا حتى الرئيس فقد تعبت وأكاد أهوى وامتزج العرق في يدي بقماش العلم فصار اللون الأخضر منه يقارب السواد أما الابيض اصفر لونه وذبل وانكمش بين يدي , حاولت المقاومة ولم استطع من شدة التعب وطال الإنتظار وما جاء الرئيس المنتظر وكلما حاولت الفرار أو التملص من بين الصفوف وجدت عيون المعلمة تطاردني وكأنها تقرا أفكاري ’ ولم أجد بد من الإعتراف لها بعطشي الشديد وتعبي وجوعي فنهرتني بقسوة وكادت تسحق أذني بين اصابعها وطلبت مني أن أصبر كما يصبر الجميع والا كنت عبرة للأخرين , مرت ساعتين على الوعد المحدد ولم يأتي الرئيس ’ أشعة الشمس تشوي الوجوه حتى الحر تحالف مع سيادة الرئيس والجوع والعطش ’ ولم تستوعب رأسي الصغيرة هذا الإنتظار للرئيس حاولت أن أفهم لما كل هذا ..؟ وهل يرضى الرئيس بتعب أطفال تحت القيض بلا أكل أو شرب ؟ اسئلة كثيرة بقيت عالقة في ذهني لم افك رموزها الا بعدما كبرت .. مرت ثلاث ساعات وبين لفينة والأخرى يخر تلميذ أو تلميذة مغما عليه بل حتى بعض المعلمات سقطن وأصبن بالدوار , لم أعد أحتمل وشعرت بأن ريقي قد جف من حلقي , كنت أحلم بكرة فصرت أحلم بكوب ماء ’ أحلام الطفولة اصبحت كلها شربة ماء وراحت الهدايا تتهاوى واحدة بعد الأخرى كلها في جرعة ماء أو قضمة خبز , ولم أعد أحتمل هذا الإنتظار الجائر ولم أعد شغوفا برؤية الرئيس وصرت أتمنى ان تبتلعه الارض قبل أن يصل أو تطوى به , نظرت شمالا.. نظرت يمينا وأطلقت الريح لساقاي , طائرا الى البيت وكلما إقتربت من بيتنا شعرت بالأمان ’ صارت أمي حلم وصار البيت حلم وصارت قطعة الخبز مع الجبن حلم أما شربة الماء فحلم الأحلام , وقفت أمام باب بيتنا دفعته بقوة ارادت أمي ان تصفعني لكن لما رأت حالتي المزرية وضعت يدها على فمها من الدهشة ’ وراحت تسقيني ماءا عذبا ببطئ شديد كأنها عثرت علي تائها في الصحراء الكبرى ولما عادت لي الروح قدمت لي كوبا من عصير وقطعا من لحم الدجاج كانت تلك أعظم هدية نلتها أخذت قسطا من الراحة في البيت ’ وأطفقت راجعا لأنتظر مع المنتظرين ولما وصلت علمت انهم دونوا إسمي مع الهاربين وأن المدير بنفسه سجل أسماء المتغيبين , كانت الساعة تشير الى الواحدة زوالا

عندما راحوا يوزعون على التلاميذ الماء والأكل استثنوني انا والجماعة المارقة التي هربت لم أهتم للأمر كثيرا فقد اخذت حصتي من الأكل في البيت ’ والأكل الذي قدموه كان رديئا ولا يثير حتى شهية الضفادع .

قبل الثانية زوالا سمعت صياحا وهتافا وضربا للدفوف وأناشيد إختلطت بالزغاريد .. ورحت أسمع هذه الكلمات لقد جاء جاء .... وما لاحضته أن الحمامات لم تستطع ان تطير فقد انهكها الإنتظار والعطش ومن يدري ربما مات بعضها

كنت أنظر الى الطريق فلا ارى شيئا وما هي الا لحظات حتى ظهرت في الافق سيارات شكلت طابور طويل عريض ’ لتمر أمامنا مر البرق مخلفة عواصف من غبار كانت سيارات رائعة على كل حال لم ارها من قبل زجاجها أسود , لم أهتم للرئيس قدر أهتمامي للسيارات , ومضى سيادة الرئيس وحاشيته في لمح البصر وأنا الذي كنت أعتقد أنه سيمر بنا راجلا يقبل هذا ويمازح ذاك ويأخذ معنا صورا للذكرى ويوزع عليناهدايا ’ ولما اطفقنا راجعين الى اقسامنا راح الكل يحكي عن الذي رآه فقد سمعت ان اصحاب الجهة اليمنى من الرصيف حصل لهم الشرف ورأوا يدالرئيس ا الكريمة تلوح لهم أما التعساء من الجهة اليسرى وكنت واحدا منهم فلم تتح لهم الفرصة لرؤية يده الكريمة .

في اليوم التالي أستدعيت الى مكتب المدير ودون أي مقدمات صفعني وركلني وراح يضربني بعصاه في أنحاء متفرقة في جسدي يضرب ويضرب بحقد ’ حتى أني لم أعد أقوى على البكاء , كان يضرب ويصرخ في وجهي قائلا : تريدون أن تتعلمون التمرد وأنتم في هذا السن تريدون الخروج عن النظام ’ كلمات لم أكن أفهم منها شيء .... تمرد ..... نظام مصطلحات أسمع بها لأول مرة في حياتي ’ كل ما كنت أعرفه اني لم أكن مخطئا فقد ما رست حريتي في المحافظة على حياتي , مارست حريتي في ان لا اقف مثل البهلوان والمهرج ينتظر عاصفة من غبار ’ كان الضرب قاسيا وقاسيا جدا ’ لكني أدركت من صغري أن الرئيس ليس كما يقدموه في نشرة الأخبار ’ تعلمت من لحظتها ان أحقد عل كل ما يرمز للنظام , صرت أكره حتى الأناشيد المدرسية التي تتغنى بالوطن والنضال صرت أكرهها ولما ننشد جماعيا كنت أشتم وأسب وكنت أرفع صوتي بالشتم كلما رفع التلاميذ اصواتهم بالنشيد ’ وهكذا تعلمت أولى خطوات التمرد , وكانت أول خطوات المقاومة لما نجحت في الشهادة الإبتدائية وتوجهنا نحن الذي مرحت على ظهورنا عصى المدير الى سيارته المهترئة ورجمناها حتى صارت حطاما

وكان ينظر الينا من نافذته يحاول ان يردعنا , وبين الفينة والأخرى يلوح لنا بالعصى فما كان علينا الا ان رجمنا زجاج مكتبه والمدرسة كلها , ولما سمعنا صفارات الشرطة تسربنا عبر الشوارع والأسواق منتظرين عامنا القادم لنلتحق بالصف السابع في المتوسطة والسنة أولى تمرد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قرارات المحكمة الجنائية الدولية وانعكاساتها على حرب غزة | #غ


.. كيف رد إسرائيل على طلب الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وغال




.. مدعي عام الجنائية الدولية لشبكتنا: تقدمنا بطلب مذكرات اعتقال


.. تعرف إلى إجراءات المحكمة الجنائية الدولية لإصدار وتنفيذ مذكر




.. بايدن ونتنياهو يعلقان على مذكرة المحكمة الجنائية الدولية