الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية/ لا يموت الصبار عطشا /حكايات من انتفاضة 1991 /الفصل الاول

ذياب فهد الطائي

2018 / 5 / 18
الادب والفن


لايموت الصبار عطشا
(من حكايات إنتفاضة آذار 1991 )
رواية

ذياب فهد الطائي



الفصل الأول







أغلق جهاز التلفاز، وقف وسط الغرفة يتطلع الى الجدران والى اللوحات المعلقة، اكتشف إن بعض اللوحات تبدو عليها مسحة من الحزن والغربه، بدأشعور حزين ومتوحد يتسرب الى روحه .
تطلع ثانيه الى التلفاز المغلق .
ـ سيدى
كان الرجل أصلعا رأسه مكورة لامعة تحت أضواء العدسات ،ترتفع يده اليمنى بورقه يتطلع نحوها ولكن من الواضح انه لا يقرأ ،انه يحفظ ما يقول ،أما يده اليسرى فقد استكانت الى جانبه وغطى كمها معظم كفه ،شعر الرجل باستخذاء وهو يحس بالأعين فى الصالة كلها معلقة به ،بدا واضحا انه يرتجف .
ـ سيدى .
ـ نعم
. كان الصوت مواربا نافذ الصبر ومتهكما.
ـ رغم أنى اعرف جواب سؤالى إلا أنى أود ان اسمعه من سيادتكم...........
إن ما يقوله شخصكم العظيم المحبوب ،سيكون قطعاالحقيقه المطلقه التى يركن اليها شعبنا العظيم الذى يستمع الان كله الى ما يدور في اجتماعنا هذا معكم
صمت لحظه ثم تابع
ـ سيدى هل يمكن ان ينال ألأعداء من شعبنا وأرضنا.
ـ اسمع!
التفت نحو" المسؤول"الذي الى جانبه ووشوشه ثم تابع
ـ يا عبد الامير لقد أمرت بإجراء هذا اللقاء بكم لأن لدى رساله واضحه ومحددة أود توجيهها الى شعبنا العظيم ولابناء امتنا العربية المجيدة ...نحن منتصرون ...لا أشك بذلك ولو واحد بالمليون ...ما أطلبه هو ان تعمل أنت ورفاقك على توعيه الجماهير بان يقفلوا على الهدف....الى الجنود فى الجبهة بان يتمسكوا بالأض .
ـ نعم سيدي
ـ اسمع....
بدا صوته الرخو خطيرا مهددا وعدوانيا
ـ اسمع...
صمت الرجل وهو يتضاءل تحت سترته البيج الواسعه وأ حس با لحرج هل يجلس ام يظل واقفا ....بدأت قطرات من العرق تتجمع على قمة رأسه المكورة ولم يجرؤ على مسحها .
ـ نحن مسلمون ....
كان ينتظر ردا ولكن الرجل كان مستخذيا تحت وطأة العينين المهددتين والصوت الخطير
ـ أليس كذلك ياعبد الأمير ...؟
ـ نعم سيدى
ـ حسنا وتؤمن بالله وبالقران الكريم... انه الكتاب الذى اوحى به الله سبحانه وتعالى الى نبيه محمدا"ص" وانه حق وصدق لا ياتيه الباطل من قبل ومن بعد ...
ـ قطعا سيدى
ـ ماذا يقول كتاب الله؟
احتار الرجل فعن ماذا يقصد ...أى الآيات أو أى السور .....
ـ حسنا أنت لا تعرف ياعبد الأمير ....وانا أقول لك وليسمع كل العراقيين والشرفاء من ابناء امتنا المجيدة ...انه يقول ان المسلم بعشرة من الكفار ...ماذا يعنى هذا بلغة الأرقام التى نستحضرها للمعركه ؟
صمت قليلا وتطلع الى القاعه متنقلا بعينيه المتوعد تين يتصفح وجوه الحاضرين وتابع ،
ـ لدينا مليون جندى ...هذا يعني انهم عشرة ملايين ...لدينا خمسمائة طائرة ...اى خمسة الاف....وهكذا بالنسبه لبقية الاسلحه والامكانات المتاحه ...إذا ماذا سيفعل المعتدون ؟
ـ حقا سيدى ان جندك وهم يستذكرون كتاب الله العظيم وسير أبطال المسلمين فانهم يستلهمون القوة والعزيمه منك سيدي.
ـ والان الامر واضح ونحن على بعد يومين من إنذار بوش اللعين.
أغلق الجهاز ...لم يستطع الاستمرار بالاستماع ...كان يجادل أصدقائه بأن الحرب قادمه وكان أغلبهم لايصدق ذلك،لا يمكن ، كانوا يرددون .... القياده تدرك مخاطر الحرب،ومايجرى فى الخليج وعلى الحدود ما هو إلا استعراض قوه ..سينتهى كل شيء قبل أن يبدأ لأن امريكا لن تحارب ،هى لاتزال تستشعر مراره حرب فيتنام، ....حسنا..ولكن كل المعطيات على الأرض قد تغيرت وامريكا نفسها تغيرت والموازنا ت التى كانت تحكم العالم لم تعد قائمه ....الجيش العراقى يعانى من مشاكل خطيره ,الان فقط ادرك ،ليست الحرب وحدها هى القادمه ولكن مآس لا حصر لها قادمه أيضا، وانه لا يمكن لمثل هذا الجنون ان يقدر ما سيقع .
قطع الغرفه ذهابا وأيابا مستغرقا فى التفكير .....لن تبقى عا ئلته فى بغداد ولن يستمع لاحتجاجات زوجته .
السيارات النازله جنوبا تزدحم على الشارع ، كرنفالا بهيجا غا بت عنه مظاهر الخوف ،السيارات مليئه بالركاب ...حزمت الأمتعه والفرش على السقوف ، يتبادل السائقون النكات ويتسامحون فى حالات التجاوز.
كان صباحا شتائيا تأ لقت فيه أشعه الشمس على سعف النخيل الممتدعلى جانبى الطريق فيما تضوعت رائحة البرتقال تشيع فى الجو بهجة وعذوبة .
ـ كم سنبقى ؟...قالت ناديه
لا أدرى ....ننتظر الخبر من أبيك , ردت امها بفتور فقد كان ذهنها مشغولا، تترك زوجها وحيدا.!!.شعرت بشيء من التوبيخ ،كيف سيتدبر أمره اذا وقعت الحرب؟.واذا....!! ترددت فى الانسياق وراء تفكيرها،عادت ثانية، واذا اخطأ ت قذيفة طريقها لتقع في بيتهم ,العياذ بالله لا لن يكون الامر على هذا
النحو ،بيتهم لايوجد بالقرب منه معسكر أو حتى رشاش على السطح ، كان جارهم بالمخابرات وقد شاهدته ينظف رشاشا صغيرا قال احمد انه كلاشنكوف،
تذكرت اغنيه من ايام القتال فى عمان ,كلاشنكوفى يسابكنى ينير دروبى ...ولكن كيف سينير هذا الكلاشنكوف ؟؟ قال زوجها, الكلاشنكوف!! انه لعبه للصغار
قال احمد :ـ ماما
استدار نحوها
ـ لاتلتفت...اتبه للطريق , ماذا تريد؟
ـ هل تعتقدين ان أبى سيلحق بنا ؟ بيت فاضل بالكاد يكفى عائلتهم فكيف سنتدبر امرنا؟
ـ الله كريم....
حسمت الاستمرار بالحديث ، إن ما يقوله صحيح.....
ـ ولكن هل ستطول مده غلق الجامعه ؟
لم يك يوجه سؤاله الى امه أو اخته ، كان يتساءل , الجامعه ليست الدراسه فقط، ولكن (آما ل) أيضا.. بدأ يفكر بها منذ عده اشهر، وظل اياما يبحث عن طريقه للحديث معها ، لقد تاخرت عن محاضرة التاريخ الحديث هل استطيع أ ن استعير دفترك رجاء ؟ شعرت انه يحاول التواصل معها، ربما تأخر عن المحاضره عمدا
ليعطى لنفسه مبررا معقولا!! اعطته الدفتر ، حينما عاد الى غرفته كان يتطلع الى الدفتر كشيء عزيز ، قريب الى نفسه , الخطوط المتعرجه على ا لصفحات بدت سواق معشبه تمرح فوقها عصافير ملونه ، لامس الصفحات والاسطر برقه وشعر بأن كل ذلك يغفو فوق صدره.
ـ انتبه للطريق احمد!!
قالت نا ديه ذلك بصوت قلق
ـ آسف لقد سرحت وأنا أفكر بالجامعه..
ـ وبا لدفتر ذي الغلاف الجلدى البنى على ما أعتقد !.
قالتها بنبرة خافته ...كان صوتها مناورا
ـ لاتكوني ذكية الى هذا الحد
ـ ماما !
تطلعت فاتن الى صف النخيل , كانت خضرة السعف زاهية ، خالجها شيء من السرور وهى تستمع الى مشاكستهما .
ـ ناديه اصمتى ,الطريق مزدحم وقيادة السيارة متعبه , كفّى عن هذا الهذ ر وناوليني بعض الشاى ،ثلاث ملاعق سكر وبالكوب البلاستك رجاء
ـ لماذا لا نتوقف على جانب الطريق ،الصباح رائع والشمس دافئه ، قد لا نستطيع الاستمتاع بالصباحات القادمه!!
ـ فأ ل الله ولا فألك . قالت فاتن
مساء اتصل احمد بأبيه بواسطة هاتف البريد
قال أبوه ـ لاجديد ,كل شيء ممكن، اعتن بأمك واختك ورتّب أموركم مع فاضل، اعتقد ان ما يهمه هو ان تتولوا أمر الوجبات ،سيتضح كل شيىء الليله بعد انتهاء مهله الإنذار ، قد أحضر اليكم وقد نذهب الى مكان اخراذا ما تأزمت الأمور.
فهم من حديث أبيه أنه قلق ، غير واثق من الشكل الذى سيأخذه مجرى الاحداث، سبب له هذا شعورا متشائما ولكنه حاول الا ينقل انطباعاته الى أي من امه او اخته .
نا ديه كانت لجوجه : هل سيحضر أبى ؟....سأكلمه غدا لانى أحتاج المذياع الصغير, لقد نسيته ,آمل ان لا نبقى طويلا فانا لا استطيع النوم مع الاخرين
ـ الاخرون !! أنا وأمك فقط
ـ وبالغرفه المجاوره العم فاضل وخاله خديجه والبنات , لقد جربت ذلك مره ،أسمع تنفسهم , نحن ننام جميعا بصا له معزوله بالكارتون.
ـ ناديه لاتبدأي ،لاالمكان ولا الموقف يسمحان ....نحتاج فقط ان نطمئن على حياتنا، لقد اقلقنى حديث أبى ، بدا غير واثق وبشكل اكثر وضوحا بدا لى خائفا.
ـ لماذا لم يحضر معنا...اسمع ....غير الموضوع الوالده قادمه
ـ عن ماذا تتحدثان ؟ ناديه اذهبى لمساعده خالتك فى المطبخ وأنت لماذا لا تحاول الاستفاده من الوقت ، افتح كتابا...
تذكرت عام 1963 كانت طائرة تحلق فى سماء بغداد ثم تنقض على وزاره الدفاع ويدوى صوت انفجار هائل ...فى الشارع ،وأمام القسم الداخلى للبنات فى الوزيريه كانت دبابه تحرث الاسفلت متوجهة الى باب المعظم ... مواجهات دمويه في منطقة الميدان ...كان ايضا صباحا شتويا مشمسا ...فكرت بخالد...الفتيات تجمعن فى غرفه المشرفه وهن يصرخن من الخوف ...قد يقتل ...كان معتقلا وانقطعت اخباره ...فى مثل هذه الفوضى تصفى حسابات عديده فى الغالب....فى اليوم التالى جاءها الى القسم الداخلى ليرتب امر عودتها الى البصره ...كان مجهدا عيناه تدوران بقلق .
ـ ما هذا ؟
ـ كتاب الاحصاء ...خرجت امس ...ساعود الى الجامعه وماده الاحصاء هى الوحيده التى تقلقنى ولهذا استعرت الكتاب ...لن استطيع العوده الى البصره، سابقى فى بغداد ...اذا هدأت الامور عودى ....
اليوم هو أيضا لايستطيع مغادره بغداد... .ناديه تشبهه ...احمد !!!عليها ان تلاحقه ليراجع مواد دراسته ...حينما تنشغل أو تضطر للسفر فان ما يظل يؤرقها هو مذاكرة احمد ...حينما ترفع سماعه الهاتف كانت تسأل اين وصل احمد بالمذاكره.
ـ ماما عدت ثانيه للسفر! نحن هنا ،بالتاكيد سأقرأولكن لا اليوم ولا غدا ،ارتاحى.
كان صوته يعبر عن نزق صبيانى ،
فى الصاله المفروشة على الطريقه العربيه ، بسط ملونه مما يصنع في قرى السماوه ووسائد طوال على الأركان , صوت المذياع يردداغنية تضج بحماسة مفتعله ، تغالى بالتمجيد وتتوعد بالعقاب ...كان المنشدون يرغبون الايحاء باقصى درجات العزم .
قالت ناديه : كيف يمكنهم أن يصرخوا طوال خمس عشره دقيقه!! حينما كانت تشاهدهم على التلفزيون كانت تبتسم مشفقة ،النسوة ينتصبن تعويضا عن مظهرهن الانثوي الذى لا يتنا سب وكلمات النشيد.
خيّل لها إ ن احدى المنشدا ت لامباليه تزم شفتيها بشيء من الإسترخاء الملول.
: هل سيريحنا الله من هذا ؟
ـ لا اعتقد فقدر المجد وقدر الخوف مكتوب لنا!!!!
مسحت رغوه الصابون عن يديها.
قال فا ضل ـ ناديه يا ابنتى كونى اكثر ايمانا ، قدرة الله لاحدود لها
ـ ستتوقف عند أبواب القصر الجمهورى
ـ أستغفر الله ‍‍‍‍‍‍!!
ـ ولكن فكر معى ياعم ،انها ايضا قدره الله ،رجل واحد يحرك الاحداث والناس والاشجار ، اعنى....
قاطعها فا ضل بعصبية -على اية حال خالتك ام سراب حذرتني من المناقشه معك، عودي لاكمال غسل الصحون وبعدها سنعمل جولة مطاردات شعرية فاستعدى لذلك جيدا .
كان احمد يقف عند الباب يجاذب شابين الحديث .
ـ تذهب الى الكليه بالسياره ؟
ـ نعم
ـ ولديك اجازة سوق حقيقيه
ـ بالطبع وهل هناك اجازة سوق مزيفه !!
ـ لا اعنى انك نجحت بالامتحان ....يقال ان امتحان القياده صعب , نحن نذهب الى الكليه على الدراجات،لا شرطة مرور ولا تجديد الرخصه.
ـ اسهل ، وفى اية كليه انتما
ـ أنا فى كلية الاداب وزميلى حسن فى التربيه، يقال ان بغداد قد أخليت!!
نادت ناديه ـ احمد.....كلّم ماما
ـ اسمحا لى و سنلتقى قريبا
تجاوزت الساعه السابعه مساء , الليل يخيم سريعا ، فى الخارج الاضاءه بالكاد تساعد على الرؤيه ،بعض المصابيح هشمها الصغار وهم يعودون من المدارس ، فى الصا له تحلقوا أمام التلفزيون ... كان المذيع يجرى حورا سريعا ومباشرا فى الشوا رع ، يسأ ل الناس عن رأيهم فى الحرب, ظل الجواب يكرر نفسه , منتصرون.....علق أحدهم بتخا بث يسأ ل المذيع "أليس كذلك" انتقلت الكاميرا الى مواقع عسكريه فى الكويت وعلى الحدود , وقف جندى يلقى قصيده شعبيه ثم أهزوجه " أنت أسمك هز امريكا ", الجنود يدورون ضاربين على الارض الترابيه بأحذيتهم مثيرين موجة من الغبار فيما راحوا يلقون بأغطية الرأس العسكريه فى الهواء .
فى العاشره توزعوا على الغرفتين فى الدار ...فى الثانيه والنصف كانت المدينة تهتز تحت وطأة القصف الصاروخى.
*****
حين عاد من العمل كانت الساعة الخامسة والنصف ، فى بغداد يبدأ الليل الشتائى مبكرا ، أحس بموجه برد وهو يفتح الباب فاسرع الى المدفاه الغازيه لتتوهج مرسلة لهبا احمرا أشاع الدفء ،.فتح المذياع ...كانت مونت كارلو تذيع تحليلا عسكريا عن الموقف تحاور ثلاثه خبراء فى الشؤون العسكريه ،ليس من السهل البحث عن أوهام تفضى الى استبعاد الحرب ،لم يدخل الى غرفه النوم ليغير ثيابه ...تناول المنامه والروب من الشماعه واتجه الى المطبخ، كانت فاتن قد أعدت ثلاث وجبات احتياطا ، وضع القدر على الطباخ الغازى وانتظر وهو يتابع الاستماع الى المذياع .
ارتمى على الاريكه ممددا رجليه على المنضده, تملكته وحشةغامرة وعصر قلبه حزن مرير ...زوجته ...أحمد ...نا ديه الرقيقه المشاكسه , هل سيلتقى بهم ؟ لم يجد بنفسه رغبة لرفع سماعة الهاتف ليكلم بعض أصدقائه علّ ذلك يخفف شيئا من لوعته.
ماذا سيحصل وماهى النتائج ،هل ان ما سيتعرض له العراق يساوى كل تلك الافكار ....اى غطاء هذا لمجد باهض التكاليف !!! تذكر ماركيز, لا توجد أفكار عظيمه تستحق كل هذه السفالات!!
بدأ نعاس خفيف يتملكه ، بطيىء ولكن شامل ،ثقلت اجفانه ثم راح باغفائة عميقة .
صحا متعبا، أحس بأن جسده يتخشب ،حرك قدميه ،طوى ذراعيه ثم مدهما ، حرك جذعه عله يكتسب مرونة ، كانت محطة مونت كارلو تذيع بالفرنسيه، انتقل الى القاهره ثم الى لندن ، كل اللغات تتحدث عن الحرب كل اللهجات تنذر بالماساة، كان تلفزيون بغداد يقدم فيلم السهره الاجنبى .
حين عاد ثانية ينطرح على الأريكة كانت الساعة الواحده ، فكر أن يصعد الى السطح ليجمع ا لملابس التى نشرتها فاتن ، خالد..انتبه للملابس فقد تمطر ،أحس بأنه متعبوعاد ليغفو ، لم يدرك الموقف ، كان يداخله شعور بان حلما صاخبا يضرب في جنبات رأسه , اعتقد ان الرعد هو الذى يعبر سماء بغداد فيهتز البيت،تذكر الملابس المنشوره على السطح ، ركض الى السلم ...لقد أخطأ بتركها للمطر ، يجب أن يسرع ، فتح الباب ، كا نت السماء لوحة مضيئة من الشهب، أصوات انفجارات صاخبة مدوية , أدرك ان الهجوم قد بدأ ،عاد الى الصالة ....أدار المذياع الى محطة بغداد ، كان المذيع يقدم اغنية لماجده الرومى ، ترجو بإلحاح (كن صديقي ) ، لندن تقول انها بسبب الهجوم على العراق ستستمر بالبث باللغة العربية، مذيع صوت امريكا يقدم وصفا حيا للهجوم , كانت كل محطات العالم ومرة اخرى و بكل اللغات تقول أن العراق يحترق.... صرخ فى الصالة" ابك ياوطنى الحبيب " ضرب جبهته بقوة وحدق الى الجدران الكئيبة وهى تشرب سواد الليل وبشاعة المأساة، أحس إنه مقهور وتفجر حزن طاغ فى اعماقه ، عاد ثانية الى السطح ليشاهد ملايين الإطلاقات من المضادات الارضية والرشاشات المختلفة والبنادق والمسدسات .....كان إطلاق النار أشبه بهستريا معديه ،لا أحد يعرف على ماذا يطلق النار ومن الذى يستهدفه ....اهتز السطح ....كان الانفجار مدويا ،
على مقربه، ربما فى القصر الجمهورى أو مرسلات الاذاعه ، كانت الانفجارات تتوالى ، ماذا يمكن ان يعمل الصبيه غير ان يتشبثوا بصدور أمهاتهم المذعورات؟!
بغداد لاتزال تبث أغان مرحه، ماذا يحدث يا الهى ،أيعقل أنهم نيام لم توقظهم كل هذه "الضجة" ،ليس من السهل ا لتصديق بأنهم مرتبكون أو أنهم كانوا يعتقدون ان انذار بوش مجرد مزحة ثقيلة ليس أفضل من تجاهلها.
الساعه السادسة صباحا ، قرر خالد أن يلتحق بعائلته ،فى الطريق كانت بغداد لاتزال تمارس طقوسها اليومية بالحديث عن الضرورة التاريخية لقدر الامة العربية ، يتخلل ذلك أغان كانت عذوبتها نشازا، كان تجاهل ما يقع محيرا ومستفزا.
خرج من بغداد الى طريق المرور السريع ، فى الساعة السادسة والنصف قطع المذيع الاغنية ليعلن " اننا بانتظار كلمة هامة" كان صوت المذيع مرتبكا خائفا , حتى انه نسي ان يتلو الديباجة المقرره ،الحمد لله ، سيعرف أخيرا ماذا سيقررون ....بدأ الصوت الرخو منهكا مواربا يتردد كصدى اجوفا , كان يعطى انطباعا جازما بانه قد خدع!!! اللعبة لم يك مقررا لها ان تاخذ هذا المنحى ، ياللغباء المجنون ،
كانت كلمة خائبة ،محبطة وتائهة ليس فيها ما يمكن أن يوضح شيئا , لقد بدات المأساه ...لقد انتهى كل شيء , انهم يعرفون على نحو بالغ السوء ما عليهم أن يفعلوه ،على نحو ابتعد تماما عن الوا قع ومتغيرات السياسه ، ليهوم فى متاها ت غبية تفقس فى رحم الجهل لتتحول الى طرق مقدسة يسلكها الاتباع .
هل سيرى عائلته ! هل يعانون الان اكثر منه ؟ قطعا سيتحملون فا ضل وبؤس تصرفاته ، ليس هناك الان من بديل ، انقضت طائرة على الجسر ....شاهد القذيفة تصطدم بالجسر ويرتفع الاسفلت وقطع الكونكريت والحديد لينتشر كل ذلك على النهر والبساتين المجاوره وعلى جهتى الشارع ، توقف عند مقهى قريب , حاول أن يلملم نفسه وأن يتاكد من عدم معاودة القصف , كان صاحب المقهى رجلا فى الستين يرتدى دشداشة كالحة اللون وسترة عسكرية وعلى رأسه الكوفيه العراقية، كان يجلس متطلعا نحو الجسر بلا مبالاة، مسترخيا يواجه شمس شباط المرواغه
كان محايدا ربما لانه لايستطيع ان يفهم أو يدرك لماذا يجري كل هذا
ـ أريد شايا ؟
ـ نعم !
قلها بآلية ماطا الكلمة وكأنه يستفهم
ـ مع قليل من السكر ، ملعقه واحدة تكفي
ـ لماذا؟ هل انت مريض؟
ـ كلا ولكني لا أحب الشاي زائد الحلاوه
ـ الشاي.
ارتشف خالد الشاي ببطىء , كان طعمه لاذعا ، من الواضح انه يغلي منذ مدة ، اليوم لم يتوقف أحدعند المقهى
ـ كم ؟
ـ لا, لاشيء شكرا
ـ ولكن ياعم أنت على باب الله
ـ كلنا على بابه ، من يدري أين نقف غدا.
ترك المقهى وعاود السير ، أعاد المذيع الكلمة ، لحظ انه قد تمالك نفسه، فقد عاد الى الكلمات المرصوفه والمختارة بعناية من الاسماء المئة والعشرين، ولكن الصوت ظل رخوا أجوفا كأنه تردادا لصدى بعيد.

لليوم الرابع القصف يزداد ضراوة واتساعا ،ولكن الناس بدأوا يأ لفون أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات وهى تعبر بحرية الى أهدافها ، وأصبح با ستطاعة بعضهم أن يتعرف على نوع الطائرة من صوتها ،وعاود الاطفال لعبهم وضجيجهم في الشارع ، واطمأنت الامهات فعدن للثرثرة مزودات هذه المره بمصادر الاذاعات.
ـ القصف يتحقق بعناية فائقة ! قال فا ضل
ـ ولكن العديد من الصواريخ تضل طريقها،علق خالد
ـ صحيح لان الرشاشات تنطلق بشكل عشوائي وتتسبب أحيانا بإصابة صاروخ فينحرف عن مساره ، عموما القصف دقيق ومحدد الأهداف !
ـ الحمدلله ، ولابد أن نتوجه با لشكر للسيد بوش !!!
قال خالد لزوجته غدا نعود الى بغداد ، ردت بأنها فهمت ما قصده فا ضل بحديثه مساء ، العوده هي الأوفق.
عبرت ناديه عن موافقتها بأن كانت أول من جمع حاجياته...اما أحمد فقد اسرع يودع من تعرف عليهم .
الطائرات المغيره تحلق مطمئنة معلنة ان المقاومة الفعلية قد انتهت،على الطريق الصاعد الى بغداد لم يك أحد من المسافرين يستشعر الخوف رغم أن وجوما غريبا يرين على وجوههم ، لم تكن المشاعر ذاتها عند خروجهم من بغداد، لقد غاب المرح ، افتقدوا روح الجماعه ، كان كل منهم يقود سيارته وكأنه يسير وحيدا.
قالت ناديه
ـ متى ينتهى كل هذا ؟ الحرب في كل مكان ، حتى في الاذاعات .
كانت تلصق المذياع الصغير الى أذنها تنتقل من محطة الى أخرى .
قال أحمد ـ ليس للامريكان الحق في أن يقدموا الحرب بالأبيض والأسود , كان عليهم ان يقدموا حربا ملونة سماؤها فراشات وأزهار لأن الانسة منزعجة.
ـ لاتسخر لم أ قصد هذا ، كان بأمكانهم أن يجنبونا مشاكلهم كان دائما أمامهم ....ماذنبنا نحن؟
عند الجسر كانت السيارات متوقفة بصف طويل بانتظار دور العبور، نزل بعض الركاب ، ألاطفال يلهون على ضفة النهر ، الفرات حزين ولكنه مغيظ ، صارم بهدوئه وهو يتقدم جنوبا،أحدثت احدى القذائف فجوة أكلت نصف الممر الاسفلتي ...بدأت السيارات تتقدم ببطىء شديد تلامس الحاجز الحديد وتلامس العجلة ا ليمنى بقايا قضبان الحديد العارية من الاسمنت .
ـ انزلوا يمكنكم ا لعبور مشيا ، نلتقي عند الجانب الثاني .
رفضت فاتن ذلك .....لقد تركته في بغداد عند ابتداء القصف ،عبرا الجسر بحذر شديد ، في الجانب الاخر توقفوا لشرب الشاى ثم واصلوا المسير.
ـ غريب !! قالت زوجته
ـ ماذا ؟ ماهو الغريب ؟
ـ غابات النخيل على الفرات
ـ ماذا بها
ـ المشهد كله بالغ الغرابة ،الطائرات ...الصواريخ ....أصوات الانفجارات القادمه من أماكن لا ترى .
كانت كأنها تحدث نفسها ....خالد ، اغلق المذياع رجاء.
ـ هل تصدق أني أرى غابات النخيل ،غابات صبار ....ظلت ولسنوات طويلة غابات النخيل مرتبطة بمخيلتي بشعر السياب , عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ....هل تتذكر؟ كنت تردد هذا دائما ونحن في البستان بجيكور على شط العرب ....كانت أماس رائعة.
ـ بدر شاكر السياب ,نعم ، ولكني الان أراه على نحو اخر
ـ كيف ؟
ـ بابا لاتزيد المشهد قتامه . قال أحمد
ـ لاعلاقة له بالالوان , تعرفين كم أهوى شعر السياب ، لقد كان عبقريا ولكني الان أعتقد انه واحد من اثنين أحبهما جدا أوصلانا الى هذا
ـ كيف ، ومن ؟
ا لمرحوم عبدالناصر والسياب! -
قالت فاتن ـ غريب حقا ّ!
ـ قلت أني أحبهما , ولكن لو دققت بالامر لوجدت انهما فعلا من اجرى العملية القيصرية لولادة هذا المسخ ....رحمهما الله كانا يخشيان تحولات الصبف والخريف مع اختلاف الدافع ، ولكن قولي لي ما حكاية الصبار ؟!
لم ترد , لاح شبح ابتسامة شقية في عينيها....تذكّر ان الصبار هو الصحراء ...الغموض والمخاطر, أرسل لها قصيدة (من غابة الصبار عدت ياحبيبتي.......لعلني في مقلتيك واجدا مزار)
ـ بابا
ـنعم .
قطع عليه الاسترسا ل،تطلع في المرآة
ـ هل تحفظ قصيدة كليوباتره!
ضحكت أمه
ـ لازال النهار صباحا ، هل أعدت الدفتر؟
ـ ماذا ؟ الدفتر! نعم .
شعر بانه أخذ على حين غره,
:نعم .. قبل الحرب
قالت ناديه ـ ستؤرخ ايامك بالحرب ,أعدت الدفتر قبل الحرب.....سأستعيره ثانية بعد الحرب!
ـ أرجو ان تصمتي .
يعرف أنها تتقصد إحراجه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث