الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرادة الأخيرة: نيتشه ونحن!

عبد الرحمن جاسم

2006 / 3 / 19
الادب والفن


الإرادة الأخيرة

يموت
كما رايته قبلاً يموت
الصاخب الذي،
في شبابي المعتم
كان في إتقان إلهي،
يرسل بالنظرات وبالبروق
عميقاً، متأججا، راقصاً في المعركة.
كان بين المحاربين أكثرهم حبوراً،
وبين المنتصرين أكثرهم وقاراً،
كان فوق أقداره يرفع قدراً،
رصيناً، حذراً،
مستشيطاً غضباً قبل انتصاره.
متحمّساً للنّصر وهو يموت
آمراً وهو يموت،
وكان يأمر بالتدمير.

يموت
كما رأيته قبلاً يموت: منتصراً، مدمِّراً...
فرديريك نيتشه

الإرادة الأخيرة - تتابع-
لطالما كان نيتشه متفرداً بعيداً عن كل المعتاد والمألوف، فمن رؤيته المخالفة لكل المتقَبَّل والقريب من أذهان العامة، إلى ظهور "زرادشت"(الداعية الذي دعا إلى الديانة الزرادشتيه، أو نبي الزرداشتية كما تعرّفه المعاجم الأوروبية) عليه، مروراً بـ"ديونوسوس"(إله الخمر والمتع عند الإغريق)، وحتى وصولاً إلى المرحلة الأخيرة من حياته، حينما اجتاحته "المثل الكبرى للإنسان"، "فالإنسان هو ليس مجرد صورة للحقيقة، إنه الحقيقة بذاتها، لا أكثر ولا أقل، وأي تغيير في الأمر هو كذب، وإذعان"، هكذا يعرِّف نيتشه الأمر، ببساطة وروية.
وفي هذه القصيدة التي انتقيت اليوم أن أنقلها من "ديوان نيتشه"، أحسست تشابهاً مدهشاً بينها وبين واقعناً المؤلم، فنيتشه الذي كان يؤلمه حال ألمانيا المهزومة بعد الحرب العالمية، كان كأي وطني صالح، يحلم باليوم الذي يظهر فيه ما يوحد الناس، أناسه، شعبه، وعلى عكس المتوقع، والمحكي عنه كثيراً، فلم يكن نيتشه شعبوياً أو عنصرياً، كما يؤرجح البعض الفكرة، فنيتشه كان بشرياً بامتياز، فهو كان يكره الظلم، والظالمين، وكان يعتقد دوماً بأن الظلم هو "مسرة الأغبياء وسلوك لتبرير الأخلاق القبيحة".
حتى البداية، البداية يختارها نيتشه تشبه كل البشر، وفي أي مكانٍ حول العالم، إنها بدايةٌ يريدها ختاماً لكل شيء سابق، إنها "الإرادة الأخيرة" كما عنون القصيدة، آخر ما يريده المرء، لأنه لم يعد هناك بعد، لم يعد هناك من شيء نقدمه بعد، إلا هذه الإرادة، لأن ما سيأتي بعدها، إما موتنا والفناء، وإما الحرية والحق، فهل كان نيتشه مخطئاً؟
كان نيتشه فيلسوفاً لا يشبه إلا ذاته، وشخصاً يشبه كل البشر، فنحن/أنا، يا أحبتي، نحلم بيومٍ تعود لنا شوكةٌ يهابها الآخرون، نشعر بعدها بأننا قادرون على الحياة بـ"عادية" الأمور، بهدوءٍ وبساطة، بأحلام أقلها بلادٌ جميلة، ودون ذلك السيف المسلط على رؤوسنا وحولنا في كل الأوقات. بالعودة إلى نيتشه، يريده نيتشه رجلاً قوياً، قائداً مقداماً، مدمراً، لا يخشى الموت، لديه الاستعداد للموت، ويموت في النهاية مدمراً أعدائه، مؤرخاً بذلك لنصره، حتى وإن ضحى بذاته، وهي صفات تعيد الرؤيا فينا إلى شمشون، البطل التوراتي، ولطالما هطل التساءل من حيث لا ندري، هل كان نيتشه يرغب ببطل "متدين"، أو ذو "وجهةٍ أو توجِّهٍ ديني"، الأمر غير واضح البتة، ذاك أنه لم يوضح ذلك أدنى توضيح، والسؤال أيضاً أتركه بين أيدينا نحن أيضاً، هل نريد بطلاً دينياً فحسب؟ كذلك الأمر يداعب تفكيرنا، وعلينا اجابته سواء عاجلاً أم آجلاً.
يريد نيتشه من بطله المقدام، كما تعوّد أن يراه في شبابه، وهل يقصد نيتشه شبابه فحسب؟ هو فقط؟ هل يريد أن يرمِّز إلى صِغَر سنه؟ أم أنه عمد إلى التعامل مع مطلق الشباب، أو تفكير الشباب في كل زمانٍ ومكان، والمعروف منطقياً بأن الشباب هم أكثر من يندفعون للثورة، وهم أكثر من يتواصلون مع نيرها ونيرانها، وبالتالي، فإن نيتشه/الشاب الذي أعجب بهذا البطل، وظل يحلم بوجوده -وإن كان لربما لم يظهر أو يكون- ينتظر، ويمجِّد وهو أكبر سناً مرحلة ظهوره، فهذا القائد/الرمز هو الفارس القادم، ونحن/نيتشه مطية الانتظار.
نيتشه لا يخشى الدمار كذلك، فبطله، يجب أن يدمّر المعتاد، والمألوف، فالمألوف والمعتاد جعل الناس صامتين كالقبور، أمواتاً وهم أحياء، البطل سيدمر كل شيء، سيحرق كل القديم البالي، ليخرج الجديد الجميل من رحم القديم المتعفن، ويذكرنا الأمر بقصيدة محمود درويش الشاعر الفلسطيني "وعود من العاصفة":
"فلئن العاصفة وعدتني بنبيذ
وبأنخابٍ جديدة وبأقواس قزح،
ولئن العاصفة كنست صوت العصافير البليدة
والغصون المستعارة عن جذوع الشجرات الواقفة".
فالخراب هذا، خرابٌ ضروري واضطراري، يحصل لأنه ليس بالامكان الخلاص مما نحن فيه لولاه، وترك العفن يعشعش في الزوايا والصمت عنه، أوصلنا لما نحن فيه، فهلا نتحرك سوياً - يا أحبتي-؟
وبعد الانتصار، يرحل هذا البطل، لأنه أدى مهمته، وهو صورةٌ مهمة، يريد نيتشه أن يتركها لنتعلم منها -من جديد- البطل ينتهى دوره بعد الانتصار، وسواء رحل موتاً، أو رحل هدوءاً، فالبطل ليس محارباً فحسب، فالمحاربين "في وقت السلم يأكلون بعضهم"، كما يقول دائماً. إن نيتشه هنا - أحبتي- يمجد فكرة رحيل الأبطال حينما لا يكون من داعٍ لهم، فالأبطال يخلقون للحاجة لهم، وحينما تنتفي الحاجة، يظهر نوعٌ جديد من المميزين، والمبدعين، والخلاقين، ولكن برأي نيتشه "ليسوا أبطالاً". فالبطل المحارب-المقدام-المنتصر، بانتصاره ينهى اسطورته.
بالعودة إلينا، ختاماً لهذا التحليل البسيط للغاية، لقصيدة نيتشه، أحبتي، كم نحتاج إلى بطلٍ يكون بطلاً حقيقاً، منا ولنا، لا أن يكون علينا ولهم، أن يكون بطلاً يشبهنا إلى درجة الملح، إلى تفاءل الأيام العادية، التي تحوي -كما تعلمنا دائماً- الفلاح والطبيعة والشمس المشرقة، إلى الأغاني البسيطة، إلى الطائر العادي -غير المصاب بأنفلونزا- إلى المدينة-المدنية إلى الحديقة الغنّاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر