الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية العراقية -صورة اولية لصنع الذات وتحققها على الارض

محمد خضير سلطان

2006 / 3 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


وصف مراقبون ومفكرون عديدون منهم نعوم جومسكي، شكل الديمقراطية القائمة في العراق الآن منذ انهيار الدكتاتورية على انه تغيير من الخارج، ابتدأ ببرنامج التغيير السياسي المباشر المدعوم باستخدام القوة، غير ان هؤلاء المراقبين والمفكرين ليسوا عراقيين لكي تنطلق اوصافهم من الداخل وجاءت تحليلاتهم من خلال تقمص ومركزة ذاتية منطلقة من الخارج ايضا، لان المراقب العراقي من الداخل، يرى ان الاستبداد باق ولا يمكن الا ان يأتي التغيير من الاعلى وعملية الاستزراع لابد ان تكون فرصة تأريخية للقضاء على بؤس النظام الاجتماعي والمجتمع العراقي لا يرى ذاته في التغيير قدر ما يعمل على استثمار الحياة بعد العصف بالدكتاتورية. وهذا لا يعني بأن الديمقراطية الدائرة في العراق الان هي ظاهرة بلا جدل... أي انها تفتقد الى الشروط التأريخية لتحقق الذات اذ لا تتحقق الذات ما لم تتوفر الفرصة التأريخية للعمل على صنعها واكتشافها ومن ثم تحققها..
كان الاستبداد المطلق شكلا للحكم في نظامنا الاجتماعي حيث االسلطوية الابوية والقبلية القائمة على الطاعة المطلقة المتجذرة في ارض السواد والشرق كله اذا ما اسثنينا بعض النواتات والهوامش التاريخية التي استنبتت ثم ذوت في التراب الرافديني القديم حين كانت الارادة الانسانية، تأخذ سبيلها في البناء الاساس لارادة شؤون الحكم بالتجاور مع ارادة الآلهة في سومر وبابل وآشور . عدا ذلك، ينتقل الاستبداد من نظام شمولي الى اخر بديل عنه ويلحق به تبعا لمبدأ الغلبة النظام الاقتصادي والمالي وتصبح الطبقات الحاكمة اعلى دائما من الاقتصاد والمال والثقافة بل ان كل تلك الابعاد تمر عبر موشور السلطة فلم تمنح هامشا تاريخيا لنشوء شكل من التداولية لشؤون الحياة بمجاورة السلطات او ان تطرح صيغة بدئية لفن الادارة بين الحاكم والمحكوم فظل الاول مطلقا والثاني عدما ولا تنشأ في ظل هذا الحال ادنى حالات التصدع بين قمة الهرم وقاعدته او تتهيأ الظرفية الملائمة لزحزحة استحواذ السلطة بين الراعي وتناولها المستحيل بين الرعية.
على هذا الاثر صار التاريخ العراقي حبيس الطغيان فلم يعد بالوسع انطلاق الشرط التاريخي من قمقم الاستبداد ما دام التاريخ نفسه وراء الاسوار.
الواقع ان ازمتنا المعرفية ليس مع الديمقراطية كما يعبر الاخرون بل مع سياقنا التاريخي المترع بالسلطة المطلقة ونحتاج الى تخطي المشكلة باحراز نتائج على الارض مهما كانت بطبئة لكنها مهمة في القضاء على ارث الطغيان.
وبعد تجربتي انتخابات لتشكيل برلمانين، انتقالي ودائم، والاستفتاء على الدستور في مدى عام 2005، اتضحت الصورة الرأسية لهبوط الديمقراطية اذ واجهت اعداء شرسين حقيقيين ما كانوا منظورين بدقة في زمن النظام السابق سواء على الصعيد المحلي او الاقليمي او حتى الدولي بل ان المتغير السياسي وطريقة البناء السياسية الجديدة (الديمقراطية)، لاقيا جحيما، فاق الضحايا التقليديين الذين يسقطون عقب الثورات التحررية في مطلع ومنتصف القرن العشرين.. والمفارقة ان الضحايا العراقيين هم الاكثر براءة وبياضا من كل ضحايا الثورات الدموية السابقة، ينهال عليهم حاصب التفجير وهم في اعمالهم وبيوتهم او في الطريق اليها وبلغ الاطفال والشيوخ والنساء.
واذا كانت الصفحات الدامية السابقة تخطف الابصار الانسانية الى شبح الانقلابات العسكرية فان الديمقراطية العراقية لاقت ظروفا اقسى واشد ايلاما... انها ديمقراطية الدم البريء المسفوح ثمنا لتطبيقها الصعب على الارض ومجالا عيانيا للانتقال من العدم الى برزخ الوجود وصنع الذات. ومع ذلك يرى المجتمع العراقي بانه لابد ان يتجاوز المحنة ليس لانه يصر على الديمقراطية، بل من اجل اقامة مشروع الامل وتدشين القطيعة مع السياق التاريخي للاستبداد انطلاقا من ان اسوأ ما في الرياح الديمقراطية افضل مما هو مفترض في محاسن الطغيان وهذه حقيقة يدل عليها الاقبال الطوعي العظيم من الناخبين على صندوق الاقتراع العراقي.
ان الاحصاءات والنتائج الاجمالية، تؤكد اجماع الناس على النظر الى المستقبل من خلال صندوق الاقتراع مهما يتخلل هذا المنظر من مخاوف واوهام وظلال ويكشف من جانب اخر بان الاعداء الجدد بعد سقوط الطغيان يجرون محاولاتهم في استعادة المواقع على وفق التشبث بمرجعيات ثقافية جديدة سافرة (عرقية ومذهبية) بعد ان فقدوا السلطة المطلقة وتغذي هذه المحاولات الانساغ المحلية والاقليمية والدولية بحيث يبدو العراق في خضمها وكأنه ممح من الخارطة الا ان التطلع المجتمعي العام يتقدم باصرار اسطوري لاستعادة الخارطة العراقية من خلال اوهاج الاقتراع.
وتأسيسا على الابعاد الآنفة فان الديمقراطية في العراق تكتشف شعبا في الوقت الذي يكتشف الشعب العراقي ديمقراطيته ويستخدم العائد التاريخي من تطور الديمقراطيات في العالم وصنع الذات، ولعل الدرس الذاتي العراقي اعطى كشفا اوليا لتعريف الديمقراطية التداولي بين الواقع والتاريخ وابتدأ اول صورة لنظامها في الشرق الاوسط. واذا كان التعريف المبسط للديمقراطية، يعني الاتفاق الاولي بين الحاكم والمحكوم فان المبدأ الديمقراطي لا يكشف عن معناه الحقيقي الا بواسطة الممارسة العملية على مستوى الواقع والتاريخ وبالتالي فهو عقد بين الواقع والتاريخ قبل ان يكون بين الحاكمين والمحكومين، ويكشف النظام التطوري للديمقراطيات في العالم عن هذا الجدل حتى ان فكرة العدالة والديمقراطية في نشوئها كفسحة تاريخية، تأخذ مداها بالارتقاء وسرعان ما تسفر عن الاستبداد والعسف على مستوى الفعل ويصبح المبدأ الديمقراطي غطاء لغويا للتستر على نحو مضاد مثلما عاد تاريخ الاستبداد نفسه في الديمقراطية الاوربية عشية اندلاع الحربين الكونيتين في القرن الماضي ومثلما اخفقت المؤسسات السلطوية في استخدام عقل الانوار الاوربي بتعبير هابرمارس..
لنسأل.. هل هناك دولة ديمقراطية ام انها ديمقراطية دولة من وقت لآخر في التاريخ، تنتقل بفائض تاريخي من دولة الى اخرى؟.
هل هي فكرة لانعاش السلطة في الدولة ام هي مناورة استبدادية، يكشف عن افاقها التطورية التاريخ باستمرار وعلى ذلك فانها احد مظاهر ظاهرة الدولة في العصور الحديثة وتداول السلطات وقراءة الافاق التطورية (الجدل) لا تقوم بذاتها، أي ان نظامها التطوري يرتبط بجدل الدولة وموقعها التاريخي من الارتقاء، فلا نستطيع بيان العقد التاريخي بين حمورابي واهل بابل بمعزل عن ابعاد علاقة الاثنين مع الاله مردوخ ولا تعدو قوانين حمورابي الا ان تكون ارادة مردوخ المتمثلة باصطفاء الملك لتداول السلطة مع الناس وفضيلة هذه الارادة في سيرورة التاريخ، انهالم تسبغ على الدين سمة مطلقة في ادارة شؤون الحكم وورطت الملكية في حروب التاريخ فيما لم تؤسس الى حروب الاديان بالرغم من قيام الملكية في سومر وبابل في ظل الدين.
وانتقل هذا المظهر الديمقراطي التداولي من سومر وبابل الى اثينا مما اعطى دفقة حيوية جديدة لارتقاء المفهوم مع انطلاق العقلانية اليونانية ومع ذلك فقد بطشت ديمقراطية اثينا بسقراط وقتلته كما يعبر فريد زكريا فيما اضمحل مبدأ الديمقراطية تماما في الحقبة الدينية التوحيدية التي اسبغت خصوصا في القرون الوسطى على ادارة الحكم نظاما استبداديا مطلقا وبعد انتهاء الحروب واشاعة مبدأ التسامح الديني والتوصل الى الحكم النيابي الدستوري في انكلترا بالتزامن مع ثورة عام 1688 ونمو الافكار الديمقراطية باتجاه فصل الدين عن الدولة فضلا عن تراكم التقاليد الارستقراطية في القرون الوسطى التي تعين قوالب اجتماعية متغيرة، يعيش المجتمع فيها انقساما فينشأ من خلاله التحول الطبقي المناسب الى جانب التطور المستمر للعلوم الحديثة.
اذن الديمقراطية لا تتوطن بذاتها بل تستعيد صورتها التاريخية من سومر الى اثينا ولندن وواشنطن وبغداد على شكل فائض تاريخي يختزل من مكان الى اخر تبعا لارتقاء النظام الاجتماعي.
يشير كارل ديغلر في كتابه (الانطلاق من الماضي ـ القوى التي شكلت امريكا الحديثة ـ) الى ان التقاليد الارستقراطية لطبقة النبلاء في اوربا اشتركت بفعالية كبيرة في توطين المبادىء الديمقراطية الا ان امريكا افتقدت الى هذه الطبقة في البناء الاجتماعي فاستعاضت عنها بتركيز الثورة بيد الرأسماليين الكبار ـ الشركات ـ واثر هذا الاختزال بعائد تاريخي لتطور الديمقراطية في اوربا ذاتها.
وهكذا فأن العائد التاريخي في ظروف متماثلة، يمتلك وحدة خصائص وشروطا تاريخية مختلفة عن كيانيتها كما في المنطقة التي يقع العراق فيها من العالم ولا يمكن بأي حال عدها عوامل موضوعية، تعيق بناء الذات في العملية السياسية الجارية في العراق بل هي تجرية جديدة لبناء درس معرفي مضاف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: فوز رئيس المجلس العسكري محمد ديبي إتنو بالانتخابات الر


.. قطاع غزة: محادثات الهدنة تنتهي دون اتفاق بين إسرائيل وحركة




.. مظاهرة في سوريا تساند الشعب الفلسطيني في مقاومته ضد إسرائيل


.. أم فلسطينية تودع بمرارة ابنها الذي استشهد جراء قصف إسرائيلي




.. مظاهرة أمام وزارة الدفاع الإسرائيلية بتل أبيب للمطالبة بصفقة