الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة موفقة

جوزفين كوركيس البوتاني

2018 / 5 / 22
الادب والفن


أصيبت بألم شديد وكاد يغمى عليهاوالحافلة تسير ببطء بين المنحدرات صعوداً نزولاً. البعض قال أنها تخاف الطريق الملتوي الضيق هذا.والبعض قال إنه دلال منتصف العمر. غير إنها لم تهتم لهذا الأمر،فهي أبنة الجبل وأعتادت على مثل هذه الطرق الوعرة. لأجلها خفف السائق اكثر مما يجب وسألها بود وأحترام إن كانت تريد أن يقف على حافة الطريق في مكان منبسط حتى تهدأ وبعدها يواصل الطريق.ردت بالرفض مؤكدة بصوت متقطع بينما هي تتلوى من الألم الذي اجتاحها فجأة لاعليك سيزول الوجع قريبا.
بللت امرأة مسنة وجهها الجميل الحافل بالتجاعيد بماء كولونيا وهي تتمتم صلاة وأخذت بأصابعها الغليظة تمسد جبينها. والمرأة شاردة تئن من الوجع، تارة تغيب عن الوعي وتارة تصحو حتى هدئت قليلاً وغطت في نوم عميق.والناس تتمتم فيما بينها على حالة المرأة. منهم من قال كان الاولى بها أن تلازم بيتها طالما هي متوعكة - لقد أفسدت الرحلة. وقال آخرون لعله فوبيا الأماكن المرتفعة، أو لعلها تعاني من داء الشقيقة. إلا المرأة المسنة، فقد أفحمت الجميع برأي لا يخطر على بال أحد. قالت بأسى:"هذه المرأة هناك بين الجموع من يشبه أحد ما في حياتها. هذا ما أحسسته."
وأضافت مسكتة الجميع،"وفروا أحكامكم ونظرياتكم،فهي لا تحتاجها ونحن لا يهمنا كل ما يهمنا أن تهدأ وتستقر حالتها ونكمل الرحلة بسلام."
سكت الجميع ومنهم من غفى ومن أخذ يقرأ. آخرون دسوا سماعات هاتفهم في أذانهم ليستمعوا لأغنيات حزينة. إلا المرأة المسنة بقيت تراقب المرأة بلطف وحيرة.استيقظت المرأة وهي تعطس بشدة كما لو أنها تنبه الآخرين على إنها بخير، والتفت الجميع إليها متمنياً لها العافية، رغم أن أحداً لا يعرفها ولا هي تعرف أحد منهم. هم مجرد أصدقاء الطريق الطويل لا أكثر. في البدأ، عندما صعدت الى الحافلة، كان وجهها مشرقا وتبتسم برقة للجميع كما تبتسم الممرضة لكل مرضاها وبرضاها لأدخال البهجة في صدورهم العليلة .غير ان جلوس ذلك الشاب اليافع وبطوله وعضلاته ووجهه السمح سلب عقلها. كانت مشدودة اليه. ومنذجلس قبالتها على الجهة المقابلة،نظراتها لم تفارقه وقلبها يخفق بجنون، حتى ظهرالأرتباك على كل حركاتها الغريبة والشاب غير مبالي مشغول بمحادثة على هاتفه النقال مع حبيبته. هذا ما كانت توحيه تعابير وجهه على الأقل.والمرأة تزداد ولها به. قد تقفز بأية لحظة لتنهال عليه بالقبل والناس تنظر إليها شزراًكأنهم يطلبون منها أحترام المكان العام ونفسها،حتى تناهى الى سمعها صوت رجلين وهما يتحدثان عنها بسوء.
قال الأول،"آه تبدو حارة جداً لذا لا يرضيها إلا هذا المفتول!" أضاف الآخر،"إنها فلفلة مكسيكية حادة تقطع اللسان." وسمعت ثرثرة امرأتين في عمر الوردوهن يتناقشان علىأزمة المراهقة المتأخرة وهن يتضاحكان كل تقول للأخرى،"تخيلي أن نجد ماما مثلاً بمثل هذا الموقف! يا آلهي كم هو مخجل أن تغلي في هذا العمر. ترى كيف كانت في شبابها؟ ألا تخجل من عمرها؟" أفحمتها امراة من الخلف برد مقنع: "إنه سن اليأس. تمر به النساء اللواتي لم يعشن شبابهن كما يجب. او لعلها غنية وتصطاد الرجال بمالها كما يفعل الرجل المتصابي الغني. ألم نصادف في حياتنا الكثير منهم؟ أم لأنها امرأة والوضع يختلف؟"
كانت المرأة غير مبالية بما يدور حولها. فكل همها ذلك الشاب الغريب الذي لا تعرف من أين أنبثق لها. وماذا يريدأن يقول لها. هل له رسالة لها أم أنها تهلوس،أم هو مجرد عابر في طريقه إلى مكان ما وصدف وجوده معها وأي صدفة هذه؟ قررت ان تقترب منه وأن تضمه إليها بقوة ولو لثواني. هذا طبعاً إذا وافق أن تضمه امرأة بعمر اُمهِ. نهضت وهي تهذي وترتعش والحافلة تسير ببطء بين الطرقات الوعرة، والسائق يلعن السواق المتهورين بصوت عاليوالكل متعجب من سفاهتها! كيف تسمح لنفسها ان تتجاوز وتتعدى الحدود؟ من يدري لعله يردها بصفعة إلى مكانها. لكنها غير مبالية من نظرات الأخرينإليها تقدمت نحوه وسألته:"هل تسمح لي أن أضمك ولو لثواني؟"تأملها مندهشاًومشوشاً لا يعرف بما يرد. كيف وأمام الجميع؟ لا يريد ذلك، كما أنه لا يريد أحراجها حيث ظنها مجنونة أو شيء من هذا القبيل، حتى وضحت له الأمر. لذا فقامضمها بقوة وبحنان والأسى يكتسي وجهِ النبيل.
قالت موضحة له، بعد ان أخرجت صورة من حافظتها لأبنها،"انظر اليه جيداً! انه يشبهك وكأنكما توأمان! هذا ابني الوحيد الذي استشهد في حرب من حروبنا المضحكة.يوم ذهب للحرب رفض أن أضمه قائلاً بأنه سيعود، لم يرد أن يودعني.وعادكما وعدني لكنني فشلت بضمه. عاد ملفوفاً بالعلم مشوهاً إثر سقوط قنبلة عليه. حرمني من ضمته الأخيرة. واليوم عندما رأيتكأحسست كأن العناية الإلهية أرسلتك لتضمني بدلاً عن هذا الذي في الصورة الذي خذلني ولم يفي بوعده لي."
وهنا بدأت الأصوات تتعالى وكل يواسيها بطريقته الخاصة. وخجل الذين حكموا عليها بسرعة البرق من أنفسهم كل الخجل. بدأوا بالتعرق وكأن هناك من صب فوق رؤوسهم دلواً من الماء البارد. وعرفوا سبب أضطراباتها.ليست كما خمنوا،ولم تكن "فلفلة مكسيكية"كما تراءى لعقولهم الضيقة المبرمجة على الجنس وسوء النية فقط.وأجتاحت بلبلة الجموع والكل يردد "الله يرحمه ويغمده بفسيح جناته."واما هي، لم تكن تسمع ولا كلمة مما كان يدور حولها لأنها غائبة عن الوعي تماماً.فحتى تصرفاتها كانت خارجة عن أرادتها وكل همها كان ان يطيل ضمته لها. هذاالذيأعاد إبنها للحياة ولو لدقائق معدودة، وبعدها طلبت من السائق ان يقف لتستقل حافلة اخرى كي لا تفسد الرحلة على الغرباء الذين تعرفت عليهم في الحافلة وشكرت المرأة المسنة لأهتمامها بها دون أن تعرفها. ولا يفهم الاُم غير الاٌم.ترجلت سعيدة منتشية بعد أن شكرت الشاب الغريب على إضمامته الرائعة متمنية له السعادة والموفقية، وسارت الحافلة مكملة رحلتها الطويلة بركاب نائمين هائمين لا يعرفون إن كانوا سيصلون بسلام أم لا. وصورة المرأة الثكلى لم تفارق مخيلة السائق وكأي سائق حافلة، لقد مر بكثير مثل هذه المواقف الموجعة والتي تحفر في الذاكرة والى الأبد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شابة يمنية تتحدى الحرب واللجوء بالموسيقى


.. انتظروا مسابقة #فنى_مبتكر أكبر مسابقة في مصر لطلاب المدارس ا




.. الفيلم الأردني -إن شاء الله ولد-.. قصة حقيقية!| #الصباح


.. انتظروا الموسم الرابع لمسابقة -فنى مبتكر- أكبر مسابقة في مصر




.. شخصية أسماء جلال بين الحقيقة والتمثيل