الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-اتصال الانفصال ووصل ما لا يتصل-

مها أحمد

2006 / 3 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


"اتصال الانفصال ووصل ما لا يتصل"

أن تشعر في اللحظة ذاتها, في الوقت عينه برغبة قوية أن تغمض عينيك وتصمّ أذنيك عن كلّ ما يجري وتشتري رأسك وبالحاجة الملحة لأن تبقى على اتصال وبتعبير آخر أن تظل أربع وعشرين ساعة على أربع وعشرين ساعة على الخطّ: خط الأحداث السّاخنة جداً والمتسارعة جداً لهو الجنون بعينه.
أن تقول لنفسك: الصّباح رباح والتّقرير لن يطير ثم تنهض من فراشك كالممسوس وعيناك يجفوها النّوم كي لا تفوّت عليك فرصة الاطلاع على الحدث (live ) و(exclusive ) هو عين العقل وعين الجنون أيضاً فمن جهة أنت مطالبٌ بالبقاء في الصّورة فقط كمراقب ينفعل بالأحداث ولا يؤثر فيها, يتأثر بالقرارات والمواقف ولا يتخذها, تصنعه الأحداث وتدهسه الكوارث دون أن يكون لديه فرصة للتدخل أو تحويل مسار الأمور قيد أنملة, ففي القرية الكونية الصغيرة ( أو الغابة الكونية الكبيرة ) يكفي أن يندلع إعصارٌ ما في أقصى العزب الأميركي حتى تهبط أسعار الأسهم في اليابان ويرتفع ثمن برميل النفط في الخليج ويقفز سعر أونصة الذهب في الأسواق العالمية قفزات جنونية ......
إنه عصر الاتصالات الرقمية حيث يتأثر الاستقرار العالمي بتوعّك زعيم هنا ويتشكل مصير شعب إثر اغتيال زعيم آخر هناك..... والكلّ أسير العلاقات المتشابكة والمصالح المتناقضة والمصير المشترك لضحايا عولمة المرض الذي لا يعرف حدوداً بفضل قوانين السوق الحر والشركات العابرة للقارات التي لا يعنيها أن يصاب كل خمسة عشر دقيقة طفلٌ تحت سن الخامسة عشرة بفيروس (hiv ) الايدز حتى لو كان (85% ) من أطفال جنوب إفريقيا تحت سن العاشرة يحملون هذا الفيروس ما دامت حقوق الملكية الفكرية الفردية مصانة واحتكار تصنيع الدواء حق محفوظ لتلك الشركات في النظام العالمي البائس ذاك....
وإذا كان المرض والفقر ابتلاءً من الله عز وجلّ فلا شك أن التجهيل والتخدير والاستغباء والتّسطيح هي مفردات لخطة شريرة تستخدم فيها وسائل الاتصال الحديثة جداً لتعميم البلاهة على الجميع يقودها مجموعة من المستثمرين المحترفين الذين يجيدون التلاعب بكل شيء, ولكل موسم بضاعته الرائجة, ففي رمضان يطالعك في الشارع والجريدة وعلى الفضائيات إعلان واحد بتنويعات مختلفة (سدّد زكاة الفطر باتّصالك على الرّقم...) والرّسم خمسون ليرة, ولطلب الفتوى فيما استعصى عليك من أحكام الدين اطلب الرقم,كذا, ولترجيح كفة مطربك المفضّل صوّت مرات كثيرة كثيرة أيها الأبله!..
قال زكاة الفطر قال.. أما كان الأولى أن تحسم شركة الاتصالات خمسين ليرة من فاتورة كل مشترك غالبيتهم ممن يستحقون الزكاة وبذلك تكون تلك الشركة قدوة لزبائنها في تأدية الفروض و التسابق إلى عمل الخير, وكيف تتحول الزكاة من عملية تكافل اجتماعي بين قادرٍ ومحتاج وفرضٍ يمتّن الروابط بين البشر إلى آلية تنحصر في كبسة زرٍ مجرّدة من الروح والمعنى والهدف السامي المرافق لهذا الفرض من الدين.
ومن يهتم ما دام العداد شغال ووسائل الاتصال الرقمية وغير الرقمية أصبحت الوسيلة الوحيدة للولوج إلى عقول وقلوب الناس إلى الحدّ الذي دفع الكنيسة الانغليكانية في بريطانيا للجوء لهذه الوسائل لزيادة عدد مرتاديها ولحقتها الكنيسة الكاثوليكية في تشيلي التي سمحت بإرسال صلوات المؤمنين ودعواتهم إلى الله تعالى عبر رسائل(SMS) إذا لم يجدوا الوقت الكافي للذهاب شخصياً إلى الكنيسة وأداء الصلاة...
وبقدر ما هو الكون واسع يبدو الأفق ضيقاً فالفضائيات و الانترنت دواءٌ فعّال لمن يعاني هبوطاً في ضغط الدورة الدموية, والأغاني لم تعد إلا عروض استربتيز على الأثير مباشرة وعبر مئات الكباريهات المقنّعة بقناع التسلية البريئة, أما الموبايل فهو وسيلة لتبادل النكات بين الرفاق والتجسس على من تحب والتنصّت على المسؤولين وتعقّب المقاومِين لاغتيالهم والتصويت على مسابقات معروفة النتائج والمشاركة في برامج الربح التي إن حالفك الحظ فيها فهيهات أن تغطي جوائزها فواتيرك...
أعرف صبية كانت تتصل بخطيبها قبل عدة سنوات (قبل شيوع خدمة كاشف الأرقام الهاتفي) وعندما كان يرد تقول له على مهل (هذه أنا) ويسعد كلاهما بسماع صوت الآخر المفاجئ المتوقع معاً, الآن بعد أن حلّت عليهما لعنة "وسائل الاتصال الحديثة" اختفى ذلك النبض الطفولي واقتصر التخاطب بينهما على"missed calls" تقريباً.
فهل نعرف أننا نتصل ببعض دون أن نتواصل, وأن الأقمار الصناعية بكل تقنياتها المعقدة عاجزة عن منحنا شعور الأمان والمشاركة أو تقليص المسافة بيننا أو أن عصر الاتصالات الواسعة جداً والحديثة جداً هو نفسه عصر الوحدة والعزلة؟
اليوم قبل أن تجتاحني الغيبوبة وتفلح وسائل الاتصال في غسل دماغي وأنا أقضي اليوم في ترَّصد الحوارات الساخنة وجلسات مجلس الأمن وقرارات الشرعية الدولية وآخر أخبار التحالفات السياسية والنتاجات الفنية والإصدارات الأدبية والمراسيم الجمهورية, أقترح عليكم الصيام يوماً في الأسبوع عن وسائل الاتصال الحديثة بكل أشكالها وأنا أكفل لكم بعدها مشاكل صحية و عاطفية أقل, تركيز في العمل أعلى وحوادث سير وشجارات ومنغصات أدنى وبالتأكيد نجاح في الاستمتاع بالكون الجميل من جديد..
نحتاج جميعاً أن نقلّد قطاراً يسير على مهل في المدى الواسع يتمشّى تحت سماء عالية, يتفرّج بمزاجٍ عال على الورود المتفتحة, ينفث دخانه في وجه الجميع ويحلم بالمحطة القادمة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط


.. ما رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار في قطاع




.. الجيش الاسرائيلي يعلن عن مقتل ضابط برتبة رائد احتياط في غلاف