الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس تحتاج تفاهم أبنائها حول قضايا الإجماع الداخلي.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2018 / 5 / 23
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


"فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"
الجدل الحاصل حول برنامج الكاميرا الخفية الذي سماه أصحابه "شالوم"، والمعمد بعلم الاحتلال الصهيوني، حسمته اليوم نقابة الصحفيين ببيانها الواضح والفصيح. حيث اعتبرت أن هذا برنامج غير بريء بالمرة، إنما هو محاولة لإحداث ثغرة في الوجدان الجمعي التونسي يتسلل منها التسليم بوجود العدو. علاوة على أنه برنامج تشهيري يسعى لكسر حالة الرفض الوطني للتطبيع. وهذا قلناه حتى قبل صدور بيان النقابة اليوم.
على ضفاف هذا الموضوع دار نقاش على صفحتي وعلى الخاص بيني وبين عدد من الأصدقاء والرفاق، تمحور حول مسألة أخلاقية أعتبرها بالغة الأهمية في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد. وهي مسألة "الأخلاق السياسية" أو " الموقف النظيف تجاه الخصم السياسي".
شوفو، لا الثورية ولا العبقرية ولا البطولة ولا الشجاعة، ولا أي شيء أهم من أن يكون الإنسان أوّلاً، وأخيرًا، «آدميّاً» وتقوده الأخلاق الآدمية في الممارسة السياسيّة.
نعم "أخلاق" وفي السياسة. ولا أشك في أن البعض يرى أن هذه معادلة لا تستقيم. فالناس تربوا على أنّ السياسة لا تهتم بالأخلاق كثيرًا، وأنّ السياسة مرتبطة في أمخاخهم بفنون الدهاء والمَكْر والخبث والكذب والوساخة والمناورة والمقايضة والمساومة والتنازل والمزايدة، وكأنّ السياسيَّ الناجح هو القذر الذي لا يتورّع عن ارتكاب حتى الجرائم كي يصل إلى غايته. ولقد راج في الأدبيّات السياسية اليسراويّة على وجه الخصوص، كثير من نقدُ التفكير "المثاليّ"، ففهِمَه قسمٌ كبير من ضعاف الثقافة على أنه نقدٌ للمُثل العليا وللأخلاق القويمة، حتى صار السياسيَ النظيف صاحب الأفق البعيد يوصف بالساذجِ الذي لا يصلح للسياسة.
وفي قلب هذا الموضوع، يبرِّر البعض الوساخة بذريعة كون المستهدف هو (مثلاً) رؤوف العيادي أو راشد الغنوشي أو صخر الماطري ... أو أي خصم سياسي آخر. وهذا خطأ فادح يرتكب ضد شبابنا وضد مستقبل بلادنا.
لماذا أقول هذا الكلام الذي يبدو فيه تهويل ومبالغة؟ لماذا ضد المستقبل، وبأي معنى؟
لأن المسؤول عن هذا الحاضر الرديء هي تلك السياسة الوسخة التي مورست في بلادنا لأكثر من ستين عاما، سياسة الإقصاء والإذلال والتشويه والتشهير وهتك الأعراض وقطع الأرزاق والتخوين التي اكتوت بنارها أجيال من التوانسة من اليوسفيين إلى أبنائنا في الأتحاد العام لطلبة تونس الذين حرموا من الشغل ومن الحياة، مرورا برفاقنا الأوائل في برسبكتيف، والقوميين والنقابيين والإسلاميين، وجميع خصوم نظام الحكم بما في ذلك أبناء النظام الذين اختلفوا معه ولو بمناسبة خلافات ثانوية بسيطة.
إن تلك السياسة الوسخة هي المسؤول الأول عن تحكيم الفاسدين والمرتشين والقتلة والقذرين في رقابنا. وهكذا صرنا نتحدّث عن السياسيين الطاهرين الأنقياء بحنين الثكالى، ثم نذهب للانتخابات ونصوِّت للفاسدين بحماسة مشجّعي كرة القدم.
الزمن السياسي، اصدقائي الأعزاء، لا يَصْنع نفسَه بنفسه، ولا هو قدرٌ منزل من السماء. بل يصنعه البشر الذين هم نحن اليوم، وأطفالنا غدا. ولذلك فإن كل تصرفاتنا السياسية الآن سيكون لها أثرا بالغ الأهمية غدا. وعليه لا يجوز على الإطلاق التساهل والسماح بتشويه أي سياسي في بلادنا حتى ولو كنا في خصومة جذرية معه. علينا أن نسمي الأشياء بمسمياتها ونقف موقفا نظيفا منحازا للحق كلفنا ذلك ما كلفنا. وبالمناسبة أنا في مثل هذه المواقف أتذكر موقف الشهيد شكري بلعيد من التنكيل بالإسلامين. أتذكر موقفه العنيد وتمسكه بالعفو التشريعي العام أيام كان الكل يغازل بن علي ويصفق لسياسته الأمنية القهرية. أتذكر صفاء الموقف ووضوحه ومبدئيته ضد إنتهاك حقوق أناس نحن نتناقض معهم في مشروعهم المجتمعي أمس واليوم وغدا.
إن قضية الحرية وقضية العيش المشترك وقضية الديمقراطية هي قضايا مبدئية لا تقبل التجزيء، ولا تقبل التصرف فيها بمكيالين : مكيال للأنصار، وآخر للخصوم.
بناء على هذا، إذا كنا حقيقة مملوئين بقيم الآوادم وعندنا أخلاق، فمن واجبنا أن لا نقبل بتخوين كائن من يكون من خلال تعرضه لفخ أشخاص بلا روح يبحثون عن المال و البوز والربح السريع اتجارا بأعراض الآخرين. أما القول بأن هذا ينتمي للحزب الفلاني وهذا يكفي للتشفي فيه وفضحه، فذلك، في واقع الأمر، قولٌ يكرِّس سياسة الوساخة ويؤبّدها إلى ما لا نهاية، لأنه يُعْفينا من كلّ مبادرةِ تغييرٍ نحو الأنظف.
نريد ممارسة سياسية حيّةً، نضرةً، مشرقةً، ناصعةَ النظافة، وسط هذا الزمن الآسن. تلك السياسة وحدها قادرة على بناء جيل نظيف ومستقبل وطني نظيف. "فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" ...

مازال أركان الطبقة السياسية عندنا يفكرون بذهنية ما قبل 14 جانفي. وهذا بحد ذاته مثل سبباً رئيسا في الازمة السياسية المستفحلة في بلادنا، ولعل مسلسل تغيير الحكومات وتحويرها دليل على وجود مأزق حقيقي.
ليس لي شك في كون الكثير منا لا يعير اهتماماً كبيراً للحظة 14 جانفي. وبهذا الخصوص عندي ملاحظات سريعة وبالغة الأهمية لابد من قولها.
الأولى هي كون لحظة 14 جانفي وضعت حدا نهائيا لحكم الأقليات الذي استمر قرنا من الزمن. فنحن نعلم أنه منذ تشكل هذا النظام السياسي العربي غداة الحرب العالمية الأولى، سيطرعلى نظام الحكم في البلاد العربية أبناء الأعيان العثمانيين المتأخرين، ثم البرجوازية الصغيرة من أبناء أعيان المدن، تلتهم النخب العسكرية،،، وهكذا.. وحتى الأحزاب السياسية التي حكمت -وبرغم مظهرها الجماهيري العابر لدوائر الانتماء الصغيرة كالقبيلة والجهة- كانت تدار كأحزاب وتدير الحكم على هذا النحو الذي يضمن استفراد أقلية معينة بالسلطة والثروة معا. وهي في حقيقة الأمر امتداد لتلك الأقليات السلطانية القديمة وقد اتخذت لبوسا مختلفة حسب الزمن وحسب البلد.
14 جانفي هي لحظة تحرير الشعوب من حكم هذه الأقليات. وجعل الحكم تعبيرا عن أوسع إرادات السكان، هذا إذا كان هنالك معنى للديمقراطية في شعارات الثورات العربية..
المسألة الثانية هي أن هنالك قوتان رئيسيتان هما الإسلاميين واليسار ظلا منذ عشرينات القرن الماضي على هامش السياسة وهامش الخارطة السياسية. إما في السجون والمنافي، أو معارضة غير مشروعة،، وبكل الأحوال في صراع جذري ودموي مع الدولة ومع نظام الحكم. وبسبب هذه المسيرة الملتبسة يعاني الإسلاميون واليسار على حد السواء من مشكل كبير في العلاقة بالدولة.
الإسلاميون تغلب عليهم فكرة تقويضها وتعويضها بدولة أخرى متخيله، وربما هذا ما يفسر اعتقادهم العميق في العنف.
أما (اليسارالجديد)، أقول "الجديد" حتى أكون أكثر دقة، فهو يتمسك بهذه الدولة ويسعى لحمايتها، ولكنه يرهبها ويخاف منها ولا يثق بها.
ولعل هذا ما سهل عودة النظام القديم في تونس (مثلا) مما أدى إلى تجدد الاحتقان واحتداد التجاذبات على حساب مشاكل البلاد المتفاقمة.
بمعنى أن هذه القوى الثلاثة غير متفقة على أي شيء في الواقع. ولذلك هي لا تتعايش، كما تروج الأحزاب التي تتقاسم الحكم، بل تترصد بعضها البعض، بحيث كل طرف ينتظر لحظة الإجهاز على الاخرين والتخلص منهما.
الملاحظة الأخيرة، والتي لها علاقة وثيقة بما تقدم، هي أن هذه القوى التي همشت سياسياً لمدة قرن، صارت اليوم قوى رئيسية في المجتمع يسير وراءها ملايين الناس. وهذا يعني أن الحل الوحيد الممكن لاستقرار البلد وتقدمه هو تعايش كل القوى السياسية بلا استثناء، وتفاهمها نهائيا حول المسائل الكلية أو ما تسميها العلوم السياسية "قضايا الإجماع الداخلي" التي تبنى على أساسها الدول.
وبالنتيجة أنا أعتقد أنه ليس من مصلحة أي طرف سياسي بعد 14 جانفي أن يحلم بإقصاء طرف آخر أو الزج به في السجون. فهذا زمن انهار بكل معطياته ومعاييره. ولن يعود أبداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي


.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |




.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ


.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا




.. ما المطلوب لانتزاع قانون أسرة ديموقراطي في المغرب؟