الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الايقاع و محمد عبد الوهاب / الجزء الثاني

حيدر سالم

2018 / 5 / 27
الادب والفن


الايقاع و محمد عبد الوهاب / الجزء الثاني

أما في ثلاثينات و أربعينات القرن الماضي فكانت المدة صاخبة بالمفاجئات وفيها خطوات جريئة ، و غير مسبوقة من عبد الوهاب وهو أهل لهذا طوال عمره .
في البداية ثمة بعض الموالات التي تحمل معها عبق العشرينات ، ومنها " مسكين وحالي عدم " و " اشكي لمين الهوى " و " في البحر لم فتكم " و غيرهن ، نجد عبد الوهاب الصانع المحترف ، يتنقل من طبقة لأخرى مثلما وصفه ذات مرة شوقي بأنه يتحكم بحنجرته من خلال يده .
شهدت الموسيقى مع السينما تحولات كثيرة ، حيث الاغنية بزمن قصير ، و بتكثيف أكثر ، الانتقالات المقامية ، و الاحتفاظ بتطابق الصوت و الصورة ، و العديد من التأثيرات التي قامت بها السينما في إيقاع عبد الوهاب / الموسيقى العربية بالكامل . في فيلمه الاول (1933) جاء بإيقاع الرومبا في أغنية " جفنه علم الغزل " ، و في فيلم دموع الحب ( 1935) أول دويتو في السينما العربية مع نجاة علي " محلى الحبيب بين الميه وبين الأغصان " ، و يعود عبد الوهاب ليفاجئنا بإيقاع آخر هو التانجو الذي استعمله في أغنية " سهرت منه الليالي " و كأنه يتقصد التغيير لطريقة تلحين القصيدة ، فهذه ثاني خطوة بعد جفنه علم الغزل ، و في أغنيته " ياما بنيت قصر الاماني " نستمع لأغنية ممتلئة بالدراما ، فيها مناداة الحبيبة ( نوال ) ، و الانتقالات النغمية الغاية في الرشاقة فمن الجهاركاه نجد نفسنا بعد قليل في العجم ، واذا اردنا تعقب انتقالاته سنهلك و لا نحيطه بشيء ، و بهذا يكون المشهد السينمائي قد أعطى نكهته الدراماتيكية الى الأغنية العربية و محاولة تطويع النغمة المختارة لتتوائم مع المشهد، وليس أجمل من تجربة " أيها الراقدون تحت التراب " ، شاهدنا عبد الوهاب يوطد إحساسنا بالفجيعة وهو يلقي بصوت أجش بعض الكلمات أثناء تواجده في المقبرة . أما في فيلم يحيا الحب ( 1937) يظهر عبد الوهاب بإندفاع أكبر نحو التغيير ، ففي " عندما يأتي المساء " يستعمل إيقاعا من اسبانيا في نهاية الاغنية ، وهذه خطوة أخرى لتغيير نمط تلحين القصيدة ، وفي أغنية " الظلم دا كان ليه " يناجي عوده المكسور أمامه و يقول له ياما بكيت بين أحضاني في صورة سينمائية جميلة رغم بدائيتها ، و نجده في أغنية " ياوابور قولي " يضعنا في صخب المكائن البخارية و فيها يطوع الايقاع الموسيقي ليحاكي إنعطافات القطار ، و فيها يقتبس جملة موسيقية من شيخ سيد درويش ، و في " أحب عيشة الحرية " جملة لبيتهوفن ، و في أغنية " يادنيا يا غرامي " يستعمل ايقاعا جديدا هو ( الكوكارتشا ) . و في فيلم يوم سعيد ( 1939) نستمع لقصيدة الصبا و الجمال تغنى مع آلة ( البيانو ) ، و لسنا نمتلك أجمل من تصويره الايقاعي مع صورة الحصان و هو يمشي يصحابه ايقاع يشبه صوت خطواته أثناء ما يأمره ( اجري اجري ) ، و في أوبريت مجنون ليلى نسمع محاولات بسيطة في خلق الهارموني ، و في اغنية ياورد مين يشتريك يضع الموال كجزء من الاغنية . وفي فيلم ممنوع من الحب (1942 ) فيه الاغاني الجميلة الخفيفة مثل بلاش تبوسني في عنيا . و في فيلم رصاصة في القلب ( 1944 ) يكفي أن أشير الى تعبيرية " المية تروي العطشان " من الايقاع الذي يرمز لصوت المياه الى عذوبة الصوت التي تصور لنا الاحساس بعد " الحمام " . و في فيلم لست ملاكا ( 1946) في أنشودة القمح نستمع الى الات نحاسية في غاية الجمال ، و يفتتحها بجملة مقتبسة من ديمتري شاستاوكوفيتش .

لا يخفى علي البصير مدى الدور الذي لعبته السينما في تطوير موسيقانا و دفعها الى الامام ، فمن حوالي أربعة إيقاعات جديدة ، الى حواريات جميلة ، و إقتباسات تغير في النمط المسموع ، و اللون الدراماتيكي الجميل الذي أعطى مجالات أوسع للتوغل في التفكير النغمي . و التنويع في نبرة المونلوج . إن الاقتصاد وحركته بذرت في الحياة إيقاعه وبهذا إكتسبته الموسيقى ، لذلك نجد أن السينما ، و هي أحد أشكال التجارة في العصر الرأسمالي الحديث ؛ تنقل الموسيقى الى أماكن عديدة ، حتى يذكر أن عبد الوهاب و لأول مرة وقد تكون الاخيرة في تاريخ السينما العربية يظهر بطل الفيلم - المطرب - أثناء مشهد الغناء ليغني في السينما مع فرقته . و " الوابور " لم ينس أن يرسل هديره الى النغم ، و يضبط إيقاعنا الموسيقي مع مروره بالنواحي ، و أن نشاهده يأخذ الحبيب بعيدا من الريف الى مراكز العمل الجديدة / تكديس العمل في المُدن ، و هذه الإرهاصة قد طالت غنائنا العربي في أكثر من بلد ، بالذات هذه الصورة بالذات يغنيها مطرب ريفي ، ولكن يشاء القدر أن يغنيها عبد الوهاب بطريقة " شيك " ، في ثلاثينات و اربعينات القرن الماضي كان الحكم الملكي مازال قائما في مصر ، و شكل الحكم هذا له إنعكاسه على الفن ، فقد لحن عبد الوهاب أغنية بعنوان " محلاها عيشة الفلاح " يمتدح فيها حياة الفلاح المُنهك في ظل مصر الاقطاعية آنذاك ، و لا نريد أن نسقط عليها تحليلنا الاقتصادي ، و لكن الاغنية بعيدة كل البعد عن التأمل الوجودي في حياة الفلاح المصري الذي يراه ( بيرم التونسي ) كاتب الاغنية ، أقول يراه ( مطمن كَلبه مرتاح ) ، و لا أعرف كيف وجده بهذه الحال و هو يعمل في أرض ليست أرضه من الشروق للغروب ! ، فهل ( محلاها ) عيشة الفلاح أم ( محلاها ) إقطاعيتنا ؟ . و في بداية الاربعينات يتحفنا عبد الوهاب كعادته بلحن عظيم هو ( أنشودة الفن ) بتوزيع أوركسترالي ، و بمقدمة طويلة نسبيا ليأخذ المستمع العربي الى الموسيقى الصرف التي دأب على أن يوصلها اليه ، وقد ألف عدة مقطوعات موسيقية ، كانت هذه الانشودة موجهة للملك فاروق . ومن زيارته للعراق أعجب أثناء إستماعه للعديد من المقامات العراقية بمقام اللامي ، و حسب علمي أنه دونه من الموسيقار الكبير صالح الكويتي ، و بعد عودته الى مصر لحن ( البرتقال ) بأعذب ما يكون ، وقد يكون الاول من العرب واخرهم من لحن على هذا المقام .
في هذه الحقبة كان عبد الوهاب أكثر وضوحا من التي قبلها ، كان قريبا من ذوق السرايا / و الشعب ، و قد يصعب علينا أن نتخيل ملحن الكرنك و كليوباترا و هو من لحن شبكوني و نسيوني . و هكذا يستمر عبد الوهاب من مزاج الى آخر ، و كما قال الموسيقار الشريعي أنه يسأم من المُقام في مكان واحد ، فمن الحبيب المجهول ، و الجهد الاوركسترالي و الجمل الهارمونية الى انت انت و لا انتاش داري ، و الاخيرة لحن عظيم ، فيه روح شبابية لأن في الساحة آنذاك شباب لمع نجمهم هم محمد فوزي و فريد الاطرش ، و قبل أن يبدأ جيل بليغ حمدي ( الشاب ) كان عبد الوهاب قبلهم شابا ، و بعدهم أكثر شبابا منهم ، بذكاء و دهاء منقطع النظير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا