الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزيفُ والحقيقة

قاسم حسن محاجنة
مترجم ومدرب شخصي ، كاتب وشاعر أحيانا

2018 / 5 / 28
الادب والفن


الزيفُ والحقيقة
يُسيطر الزيف ، ألشكلانية والخداع على حياتنا ، واصبح الغدرُ المُقنع "بالتقوى" وسيلة رائجة في "الحصول على مكاسب " حياتية .. نحن نعيش كرنفالا مستمرا للأقنعة على مدار العام. وكرنفال الأقنعة هذا، ذكّرني بقصة كنتُ قد كتبتها قبل سنين .. لذا ارتأيتُ إعادة نشرها .... وهذه هي القصة .
وردة في حقل من الاشواك
كان يوما عاديا، ذهب (م )الى قاعة الدرس وكان الطقس باردا جدا، الى درجة ان السائل المنساب من الانف لشدة البرودة يتجمد على الشفة العليا ،اما من كان ذا شارب فحبيبات دقيقة من الثلج ،تتمسك بأطراف شعرات شاربه.
-الا تظن ان السكنى في ثلاجة ادفأ من التجوال في الخارج في مثل هذا الطقس؟!قالها (ع)بمنتهى الجدية! لكن (م)قهقه عاليا ودعا صديقه الى احتساء كأس من النبيذ الساخن .ولأهل تلك البلاد الباردة طريقة للتغلب على شدة البرد، فهم يغلون النبيذ مع مسمار قرنفل للنكهة ويشربونه ساخنا جدا، مما يساعد على تدفئة الجسم ويعطي شعورا رائعا بالدفء والحميمية!
اعتذر (ع)عن قبول الدعوة ،لأنه ارتبط بموعد مع زميلته على مقاعد الدراسة. افترق الصديقان امام احد تلك المقاهي المشهورة بإجادة تحضير هذا المشروب، دفع باب المقهى المغلق بيده وانسل داخلا!!
انتبه الى نفسه ،كمن افاق من غفوة قصيرة وتسائل حائرا، لماذا تخطر على باله الأن وبعد مرور كل تلك السنوات، فهي ماض وانقضى ولا يعلم من اخبارها منذ ان غادر تلك البلاد عائدا الى بلده.
كانت العقبات في استقباله ،الا انه وبعزيمة تفل الحديد استطاع ان يتأقلم من جديد ،رغم ان الدنيا لم تعد كما كانت. بنى علاقات جديدة ،تزوج وأنجب!
واليوم يكتشف متأخرا ،ان حواليه مجموعة من الوحوش الكاسرة التي تكمن له كل مكمن لتضربه الضربة القاضية.
لقد اكتسب هناك في بلاد الصقيع مزاجا باردا متسامحا، وتعلم من اهل تلك البلاد ان البسمة تعني بالضبط بسمة ،وليست تكشيرة ما قبل الانقضاض!! لقد انقض عليه من كان يعتبره من اصدقاءه المقربين ،وطعنه طعنات نجلاء في الظهر!
لم تؤثر عليه الطعنات ،فقد كان صلبا، لكن ما ضايقه اكثر من اي شيء هو الاكتشاف ان ما اعتبره فضيلته، فضيلة الثقة بالناس والمسامحة ومد يد العون ،هي نقطة ضعفه التي استغلها كل من اراد ان يسدد له طعنة.
تنهد بصوت عال ،جذب انتباه زوجته، التي وقفت سندا الى جانبه طيلة سنوات زواجهما:
-ما بك ؟هل هناك من شيء يضايقك؟!!قالتها بنبرة تدل على القلق والتعاطف.
-لا شيء مجرد ذكريات مزعجة! قالها وحرك يده كمن يطرد ذبابة من امام وجهه.
عاد الى السرحان، ايُّ وجه مقارنة بين هؤلاء مدعي التقوى، والذين يراؤون الناس ويصلون صلواتهم في المسجد وبينها؟؟؟؟ لا مقارنة البتة!
لكن موضوعيته وكراهته للتعميم ،اجبرته على التراجع عن اطلاق لقب المدعين والمرائين على الجميع ،فعلى كل حال هناك اناس طيبون!!!!!!!!
هز رأسه طاردا هذه الفكرة، وغرق من جديد ،في احداث ذلك اليوم الذي لا يمحى من الذاكرة على طول العهد به.
اختار مقعدا في زاوية المقهى حيث يتواجد جهاز التدفئة. اشار بيده نحو النادل ،الذي كان يلبس زيا رسميا ،ووضع على ساعده الايسر فوطة خضراء بلون شراشف الطاولات.
-تفضلوا سيدي!!ولغة التخاطب مع الغرباء في تلك البلاد تتم بصيغة الجمع تدليلا على الاحترام.
-اذا سمحتم ،اريد كأسا من النبيذ الساخن. قالها بلغة واضحة وفصيحة!
-في الحال!!!
عاد النادل بعد دقائق يحمل كأس النبيذ على صينية وتمنى ل-(م)مشروبا هنيئا!
امسك الكأس بين راحتيه ،مستشعرا الدفء ينتقل من كأس النبيذ الزجاجي الى يديه واطرافه ،ومع اول رشفة سرى الدفء في داخله ،واستشعر الراحة والمتعة ومع كل رشفة اضافية احس بالنشوة اللذيذة والخدر الممتع!!!!!
اشعل سيجارة ونفث دخانها عاليا نحو سقف المقهى المرتفع ،فقد كانت من المباني الكلاسيكية التي زينت حيطانها لوحات جميلة.
-سيدي! نظر نحو الصوت واذا بالنادل يضع امامه كأسا اخرى.
-لكنني لم اطلب كأسا اخرى وما زالت كأسي شبه ممتلئة.
-انها ضيافة من تلك السيدة الجالسة هناك. واشار نحو شابة سمراء جميلة تجلس الى طاولة غير بعيد منه.
حياها بإيماءة من رأسه وابتسامة افتر عنها ثغره. ولم تمض دقائق حتى اقتربت منه محيية بلطف وسائلة فيما اذا كان بإمكانها الانضمام اليه والتعرف عليه ! وبطبيعة الحال لا يمكن رفض مثل هكذا طلب ،لأنها وحسب عادات اهل تلك البلاد، فأن تقديم الضيافة هو الطريق الى التعارف!!!!!!!!
ارادت ان تجري حديثا تعارفيا، وجذبهما الحديث ،وخرجا لتناول العشاء في مطعم اخر ،ودفعت الفاتورة. وحينما افترقا ودّعتهُ بقبلة صغيرة سريعة ممزوجة بطعم اللحم والنبيذ!
لم تشغل ذهنه كثيرا ،لكنه عرف اثناء الحديث وكما اخبرته تعمل في ادارة حسابات احد المصانع ،والمصنع يوفر لها المسكن مع موظفاته الاخريات. لم يتبادلا ارقام الهواتف ،لأن الهاتف الجوال لم يكن مخلوقا حينها.
وتمر الايام ،وبينما هو واقف بانتظار الباص، غطت يدان صغيرتان عينيه، حاول التملص من المسكة المحكمة، متسائلا عن هوية المازح ،واذا بها تقف امامه معانقة اياه عناقا عنيفا ،وغابا في قبلة طويلة مسكرة!!!!!!
تكررت اللقاءات،وكانت دائما هي من يدفع اثمان الطعام والشراب وتذاكر السينما والحفلات الراقصة. كان سلوكها وتصرفها يدلان بما لا يدع مجالا للشك بأنها مولهة به !ومع ذلك لم يضمهما سرير!!!!!فقد كانت دائما تختلق الاعذار، ودائما ما كانت ترضيه بقبلة دسمة طويلة وعناق حار.
الى ان حدث ما لم يكن يتوقعه!!كان جالسا كعادته في مقهى احد فنادق الارستقراطية القديمة ،وكان من مكانه يطل على مصاعد الفندق، واذا بها تقتحم بهو الفندق وتتوجه نحو المصاعد ،طلبت المصعد واختفت!!!
وبما انه من رواد هذا المقهى فقد ربطته بموظف الاستقبال صداقة وثقة.ترك مكانه وتوجه نحو الموظف وبعد ان حياه، توجه اليه بالسؤال:
-اين صعدت تلك الفتاة؟
تبسم الموظف بخبث، واجاب متسائلا: الا تعلم ؟لقد صعدت الى زبون في انتظارها!!!!
وقع الخبر عليه وقوع الصاعقة، لكنه تمالك نفسه واستعلم عن معلومات اخرى ،وعاد الى مكانه!!!!
وحينما عادت بعد فترة ،والتي كانت بالنسبة له دهرا، ناداها وطلب اليها الجلوس.
-لقد خدعتني كل تلك المدة، وانا الساذج كنت احسب انك مغرمة بي ،ولم اتوقع في اسوأ كوابيسي ،ان تكوني ممن يبعن خدماتهن و ..و..و..و.؟
كانت صامتة تستمع الى غضبه الهادر دون ان تنبس ببنت شفة ،لكن دموعها كانت تنهمر مدرارا، ولم تتوقف عن النحيب لفترة طويلة. وبعد مدة طالت ،كفكفت دموعها وتمالكت نفسها ،وقالت:
-أتحسبني بلا مشاعر!!!!انا احبك حقا! حبا جنونيا! هل تعتقد انني انا الاخرى لا ارغب في مشاركتك الفراش!!وانا اتقاسمه مع كل من هب ودب مقابل النزر اليسير!!!لكنني لا استطيع مضاجعتك لأنني احبك، رغم انني أتحرق لليلة نقضيها سوية!
-اذن؟ قالها شاعرا بالإهانة!
-لم ارغب في اخبارك، لكن وبما انك تلح، فتحمَّل!! انا مصابة بمرض جنسي معد ولا اريد ان تصيبك العدوى!!!!!اما هؤلاء فليذهبوا الى الجحيم وليتحملوا عاقبة اعمالهم!!!اما انت فأنني احرم نفسي من المتعة لكي لا تصاب انت بسوء!!!!!!
كان هذا هو اللقاء الاخير، لكن كلما صادف واحدا من هؤلاء الذين يرتدون الاقنعة الزائفة، والتي تخفي وراءها نفوسا مريضة. يتذكرها ويتذكر تفانيها في حبه وحرمان نفسها من متعة تحرقت لها شوقا ،مع من تحب!!!!!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بديع!
نضال الربضي ( 2018 / 5 / 28 - 12:30 )
يا ترى يا صديقي لماذا عندما نفهم قيمة الشيئ نخسره؟
ألا يمكن أن نفهم و يبقى معنا؟
الفهم بركة و الفراق لعنة
و البركة تتلوها اللعنة
فتذهب البركة
و تبقى اللعنة
و تنشأ من هذا التتابع الحسرة و الألم المستديم

ذكرني الألم ُ بشعر ٍ لأعرابي يرثي ولده قال :

و لما دعوت الصبر بعدك و الأسى
أجاب الأسى طوعا ً و لم يُجب الصبرُ

فإن ينقطع منك الرجاء فإنه
سيبقى عليك الحزنُ ما بقي َ الدهرُ

للأسف مع الفراق لا يبقى سوى هذا، سواء ً كان فراق موت أو فراق حياة، لا فرق!

عندما توفي خالي و فقدته فجـأة ً أدركتُ كم كنت ُ أحبُّه، و شِعْر الأعرابي يتمثلُ في وجداني ترجمة ً شديدة الدقة و الواقعية، و لا أعلم إن كنتُ سأتصالحُ مع هذا الأمر يوما ً ما، في الحقيقة لا أعلم!

دمت َ بودٍّ!


2 - اهلا نضال
قاسم حسن محاجنة ( 2018 / 5 / 29 - 12:29 )
وتحياتي الحارة في هذا الجو الحار ..
هو كما قلت ، فالانسان لا يشعر بقيمة الشخوص والاشياء الا بعد ان يفقدها نهائيا .
فهل كان بالامكان ان تستمر هذه العلاقة بين السيد -م- وصديقته ..؟
قد يكون للخلفية الثقافية دور في القطيعة
وقد تكون اسباب اخرى ..
خالص مودتي


3 - عن سؤالك
نضال الربضي ( 2018 / 5 / 30 - 11:14 )
يوما ً طيبا ً يا صديقي،

أقول ردا ً على سؤالك عن إمكانية استمرار العلاقة بين السيد -م- و صديقته:

بدأت الصداقة التي تطورت فيما بعد إلى حب خجول، بمبادرة منها، لأن السيد -م- شكَّل بالنسبة لها النموذج المثالي للرجل، على مستوى لا شعوري لديها، بدليل لا عقلانية قبلاتها و كرمها الكبير وقت لقائهما، و التي وجدت انطلاقها (أي اللاعقلانية) بدون أساس أو تشجيع أو دافع من جهة السيد -م- الذي كان في الحقيقة مُتلقيا ً للانطلاق أكثر منه مُحرِّضا ً عليه أو دافعا ً له،،،

،،، أين نجد الدافع إذا ً؟

الجواب: في النموذج الأولي Archetype المعروف بوصف Animus أي الصورة الذكرية في الأنثى.

تماهى السيد -م- مع هذا النموذج في لا وعيها، فانطلقت إليه تتفاعلُ معه،،

،، و بعد أن كسر قلبها بكلامه الجارح و عصبيته، استيقظ عقلها ليعقد لأول مرة المقارنة بين واقع السيد -م- و النموذج اللاشعوري (الذي صار الآن شعوريا ً بقوة الصدمة)، فيجدَ العقل تنافر النموذجين، و لتنقطع العلاقة تلقائيا ً.

هل يمكن أن تعود له مرة أخرى؟

هذا يعتمد على قوة بنيتها النفسية و استقلاليتها. أعتقد أنها الوحيدة القادرة على الإجابة على هذا السؤال.

مودتي!

اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته