الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قواعد النّقد السياسي-8

محمد ابداح

2018 / 6 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


بخلاف منهجية النقد الأدبي فإن قواعد النقد السّياسي تقوم على أربعة أسس هي سعة المعرفة والبراغماتية والدوافع والأهداف؛ وحينما يُقكر الناقد أو الكاتب في ظاهرة السياسة فينبغي عليه العلم بأنه قد تحمّل التزاما مبدءيا حتى يثبت العكس؛ وهو تعبير مُبتذل حين يقارن بتأخر الوعي عن التجربة لدى غالبية النقاد السيّاسيين العرب، وربما لاتشكّل طبيعة العمل السيّاسي أيّ معضلة لو لم يكن الناقد ذاته عاجزا عمليا عن الإشتغال به، لذا يكون خروجه عن قواعد النقد السياسي غالبا ليس متعلقا به شخصيا؛ وإنما للظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية المحيطة، فكل ناقد يعرف تماما ماوراء قول شيء ذات يوم ونقضه في اليوم التالي، مع إخفاءه بالطبع للدوافع والأسباب الحقيقية التي حملته على مناقضة نفسه.
وإذا كان عملا من هذا النوع - وهو كذلك- من تدبير السلطة؛ فإن الوصول إلى سلسلة الأحداث التي قادت الواقع إلى ماهو عليه الآن؛ سيكشف عن نسق من الأسباب والنتائج المتوالية دون انقطاع، وبالطبع فإن ذلك الأمر لن يتم لأي باحث أوناقد سياسيّ مستقل؛ دون أن يُقيم علاقة بينهما وبين التاريخ الحقيقي من جهة وبين ما يُعلّم في المدرسة من جهة ثانية، وبمعنى أدق بين التاريخ الحقيقي المدوّن وبين التاريخ الذي يُصنع في مطابع الأنظمة الحاكمة، وإن كان الناقد لا يُبدي انشغالا عمليا بالتاريخ إلاّ بوصفه طالبا لغايات تتعلق بامتحان مدرسي، فلا يُتوقع أن يكون هاجسه كشف الحقيقة؛ كما ولا يُنتظر منه تقديم شيء مُفيد.
إن الماضي كان دوما كمتحف يعرض لنا أخبار الأوّلين وآثارهم؛ وهو عند الهواة كبهو للخردة والأنتيك قد يُحقق شيئا من لهو العبث والتقليب، غير أنه عند المُحترفين يحوي بعض الماسات والدّرر تستوجب الإنحناء وتستحق عناء البحث والتنقيب، والفرق ما بين العبث والتقليب والبحث والتنقيب هوالفرق ذاته بين الناقد الجادّ الباحث عن الحقيقة، وبين العابث في مصير الناس، والرّاجم بالغيب تحت طائلة الأخطاء المستقبلية المُميتة.
وإن كان الماضي هاما جدا لمن يرسم المستقبل، فهو أهم عند السّماويين؛ فأغلب من ثلثي نصوص الكتب الدينية تتحدث عن الماضي خيره وشرّه، وأما المستقبل وفق النصوص السماوية منتهاه بين نعيم أو جحيم، ووفاءا لتلك الحقيقة السابقة، فإن ما من أحد يستطيعُ الزّعم بقدرته على رؤية المستقبل بدقة، إلا إن كان يرسُم المُستقبل على غرار لوحات بيكاسو السريالية، في استعجال لادراك ما ينبعي له أن يُدرك، وسط تأكيدات رسيمة مستمرة لمستقبل لا مثيل له، لأنه ببساطة لا يوجد إلاّ في مخيّلة من يرسمه، جاعلا من التنظير ضمانة موضوعية لتحقيقه.
قد يرسُم الحاكم مستقبل شعب ما كما يحلو له، وسواء أكان الحاكم وطنيا شرعيا أم أجنبيا مُحتلا، عادلا أم ظالما طاغية؛ فإنه وبالتأكيد ليس هو من يُحدد حال المُستقبل، وإنما هي الوقائع وتقلّب الأحداث اليومية، والتي بالطّبع يكون أفراد الشعب أهم مُكوّنات فصولها، والتي تصنع أدق تفاصيل تلك الوقائع والأحداث اليومية!
وباختصار فإن الزمن المحدود للأعمار البشرية استطاع أن يُخضع نموّها الفكري وتطوّرها في كافة أنشطتها لعدد كبير من القوانين الثابتة، تُكشف تباعا بمرور الوقت، ثم يتم التعامل معها ومحاولة التحرّر من قيودها لاحقا، ومن تلك القوانين التي كانت ثابتة على مر العصورهي رسم مستقبل الأمة من قبل الحاكم، في حين أن الشعب هو فقط من يصنع مستقبله، وهو وحده من يرسم ملامح ذلك المستقبل وليس الحاكم.
وبما أن العمل النقدي الجاد ليس بنزهة برجوازية، فينبغي على الناقد عموما تلقي تكوينا جيدا في الإنسانيات الكلاسيكية كالتاريخ والأدب والفلسفة، لكي يُلمّ بالظروف السّياسية والإقتصادية والثقافية المحُيطة، والتي ألقت بظلالها على الأحداث التاريخية أوالشخصيّات المُراد نقدها، فعندما نتحدث عن عصر محمد علي ينبغي العلم أنه لم يكن في مصر نظاما دستوريا أو صورا للديمقراطية ثم أتى فألغاها، أو جيشا وطنيّا فحله، بل أسّس دولته ممّا إجتهد في استيراده من روح الثورات الفرنسية، ورغم أن المناقب أو المآخذ التي سجلها المُؤرخون له أو عليه، والتي سبق أن أبدي فيها وأعيد كثيرا؛ أمثال ميخائيل فنتر، ومحمد عبدة وجورج طونيوس، وجاد طه، ومحمد قطب والأفغاني وجرجي زيدان والعقاد ومحمد عمارة وإلياس الأيوبي وعبد الرحمن الرافعي وعلي الصلابي وغيرهم؛ إلا أن مآلات الأمور تفرض نفسها في النهاية كحقائق واقعية لنقده أو ربّما للحكم على نتائج أفعاله.
حين يُفسّر التاريخ بشكل غامض أو بالأحرى يُزوّر؛ قد تبدو لنا وقتها إمارات جليّة على التناقض العملي فيما يُقال لنا وفيما نراه ونختبره في حياتنا اليومية، لذا قد نضطّرُ أحيانا لتصفح المسودّات المحفوظة ونشرها تحت طائلة المسؤولية، رفقا بالحقيقة وبضمائرنا شرط ألأّ يلتقيان أبدا؛ لا في قانون السُّلطة ولا في الواقع العملي، باستثناء الواقع الإقتراضي التزاما بقواعد اللعبة السّياسية، ولأن ينشر المرءُ نقدا حُراً قبل انتهاءا صلاحيته السّياسية؛ فيه خروج عن مألوف، لا يُنسب إلى الإبطاء في قول ما كان ينبغي قوله منذ زمن طويل، خوفاً من تقلّب الدّهر أو طمعا بمال أو منصب؛ بقدر ما يُنسب إلى إنتفاء القيم الأخلاقية. وحيث إن عالم السّياسة يكاد يخلو من اية قيم ومبادىء إنسانية، فإنه يعود بصاحبه لاعتماد طوطميات الحضارات البشرية البائدة وهي السحر والأسطورة والعلم والمصالح المتبادلة؛ حيث كان كلُّ شيء يُفسّرُ بالسّحر، إلاّ أن تبلور الأيدلوجيات العقيدية بات يُفسّرُ كلُّ شيء بالدّين بدلا من السحر.
تلاشى السحر وانقضت الأسطورة، وبادت الحضارات رغم عظمتها، فلم يُسعف علم الفلك والتنبُّؤات شعب المايا فقتلهم الجفاف، ولم تمنع الأسطورة سقوط بابل، ولم يُنقذ السحر الفراعنة، ولم تضمن آلهة النار بقاء كسرى، ولم يُفد العلم والقوة العسكرية في استمرار حُكم روما، ولم يتمكن الدين من توحيد الشعوب، بل فرق شملهم مِللا وطوائف متناحرة، ومع الوقت سيتلاشي دور الدين أيضا، وسيبقى دورالمصالح المتبادلة.
إن كل باحث أكاديمي يعلم بحق أن أي عمل إبداعي ينبثق عن المقابلة بين أمور عادية ليس ثمة علاقة ظاهرة بينها، وقد يتساءل الباحث كيف يتم الفصل بين مالم يُختبر أبدا وبين ما تم مشاهدته وسط الأحداث التي لانزال نعيشها ونستحضر فيها محاولات دمج غريبة بين الشكل والمضمون، ضمن معترك أيدولوجي يفتقر إلى الأصالة، وأحكام ترسّبت ولم يُمحصّها التفكير، ولطالما خدمت الصبغة الدينية الملوّنة بكافة ألوان الطيف المعروفة لدينا؛ معارك النضال والتحرر والتمكين السّياسي، فالشروح والتفاسير من البخاري (256 هـ) ومسلم (264 هـ) والطبري (310 هـ) ومن سيد قطب (1385 هـ) إلى وهبة الزحيلي (1436 هـ ، 2015م)، أضحت فيها وظيفة الأدب الديّني كلاسيكيات تأكيد بأن الإسلام يُضفي تماسكا وزخما على عمليّات استعادة الشعوب الضعيفة لوجودها وهويتها المسلوبة.
ومنذ زمن طلائع القرن الأول للهجرة المسلّم بإلحادها بالعُمق، وحتى يومنا هذا، أمّا على السطح فإن العالم العربي والإسلامي بكافة خلفاءه وسلاطينه وملوكه وزعماءه المتعاقبين؛ اعتمدوا على رجال الدين في منح الشرعية لحكمهم، كما أن أغلب الصراعات الطائفية والثورات، وأعمال الشغب والتمرد التي عصفت بتاريخ المنطقة، لم تخلو من تأثير رجال الدين. فخلف التمسّك التقليدي الواضح بعدل مملكة السماء، رأينا بأن مناقب الواجب المرتدية عباءة الدين هي التي تحرك عموما يواجهون الموت في انضباط مباشر، ولا تزال هذه اللغة مُسيطرة على أولئك الذين يسقطون إلى اليوم على حدود الكتب المتطرفة وان كانت حتى برسم التأليف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن: لن نرسل الأسلحة لإسرائيل في حال شنت هجوما واسعا على ر


.. مراسلنا: قتيلان في غارة استهدفت سيارة في بلدة بافليه بقضاء ص




.. فايز الدويري: لا تزال معركة رفح في بدايتها ومعالمها ستتضح خل


.. نواب أمريكيون يعدون تشريعا لتهديد مسؤولي الجنائية الدولية..




.. شهيدان وجريح في استهداف مسيرة إسرائيلية سيارة في بلدة بافليه