الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعرُ عِلماً

حكمت الحاج

2018 / 6 / 2
الادب والفن


إنّ تزمّت الشعراء الأصوليين الذين يطالبون الحركة الشعرية الحديثة بأن تكون هي الممارسة (البراكسيس) والتطهير (الكاثارسيس) في آن واحد، ليتّسم بتسلطية فكرية لا مسوغ لها غير إقصاء العلم عن مجال تحرير الإنسان، ونفى كونه ممارسة لا تقلّ لزوما عن مهمّة تحرير الإنسان من الإنسان وهي تقوم بإنقاذه من نير قوى الطبيعة.
إنّ الشعر قبل أي شيء هو علم يبحث في "الخيال" لا في مجال النظرية فحسب، بل على مستوى الممارسة. وليس الأمر كما قال "سارتر" في كتابه "ما الأدب؟" أن ما ينجم عن ذلك هو أمر تافه وتعلق سرابي غير مجد، وإنّ "المتخيل" و"البراكسيس" يصعب تآلفهما. لكن "المتخيل" بوصفه ظاهرة ذهنية، موجود وجودا موضوعيا داخل الفكر، وهو خاضع لأنّ "يعلم" وإن كان هذا النوع من "العلم به" ليس من قبيل ما ندعوه بـ "علوم الأفكار".
والآن، ليس من العبث أن نقرّ بالمهام العلمية التي سيقوم بها الشعر وبكيفية أداء المخططات العلمية في الصياغة الشعرية، وسنضع أيدينا على بعض الأشكال المدهشة لنقاط التلاقي والتقاطع ما بين الأشكال الشعرية والتطبيقات العلمية. ولن نبدأ بالتاريخ لنقول أنّ الثورة الشعرية الحقيقية قد رأت النور مع إطلالة ثورة العلوم التي قام بها ثلة من العلماء في مختلف الاختصاصات، آينشتاين، نيلز بور، توماس أديسون، فرويد، هايزنبرغ، لويس دوبريل.. الخ. وهناك مقاطع كثيرة تكشف عن مشاغل علمية لأواليات الشعرية مثلا: آفاق الفتوح الفيزيائية الحديثة وتأثيراتها على "الخيال" ومفهومه من حيث "الطلاق" في الزمان والمكان، أو ما يمكن أن نسميه بـ (مسألة اللامتناهي) ولئن كان هنالك القليل من العلماء الذين يهتمون في الشعر كحقيقة، فإنّنا لا نعدم في المقابل ما بين الشعراء من يقرن النشاط العلمي بالطليعة في الكتابة. فهذا "لويس كارول" مؤلف
" أليس في بلاد العجائب" يكتب أبحاثا في الرياضيات، و"شارل كرو" الذي يكون أحد كبار مخترعي الفونوغراف ويؤلف في الوقت نفسه كراريس في التصوير الملون وفي الكيمياء الحديثة وفي مبادئ السلوك الدماغي.
وهذا " فيليه دوليل آدم" يرفع أديسون إلى مصاف السحرة الحقيقيين ويوحّد بين معجزات العلم التي تصبح حقائق ملموسة، وبين الإسهامات الشعرية الخارقة.
لقد كتب الطبيب والشاعر الطليعي "مالفاني دي مونتريكيو" هذه الجملة المذهلة ليصف اكتشاف الكهرباء: "لقد أحلّ الذراع المعدني محل يد الإنسان بعد أن أصبحت هذه موضوع شبهة".
إنّ لاستعمال "الفراغ" بصورة مستمرّة في حقل الفيزياء الحديثة، له ما يضارعه في الشعر الحديث فتركيز الذهن يعتمد بصورة جلية على الفراغ الذهني، إذ لا يسعنا كما يقول "ميشيل كاروج" اكتشاف ظواهر المتناهي في الصغر إلاّ بطرد الوجود الكثيف للحقائق التي تحجب عادة هذا المتناهي، فلا يمكن أن يظهر ما دون الوعي بقليل أو ما بعده إلاّ إذا أبعدنا محتويات الوعي العادية. والشعر يهدف إلى تفكيك الصور وبالتالي، اللغة، كما تهدف الفيزياء بشأن المادة. فهي تحطّم الأسيجة التي فرضتها الطليعة على قدرة الإنسان بتوصّلها إلى أن ترى في سائر الجزيئات التي تؤلف "مادية الكون"، مجموعات هائلة من الذرات التي تتفكك بدورها إلى مجموعات أصغر، حتى أنّه ليمكننا القول أنّ الفيزياء المعاصرة تتقدّم باتّجاه الكشف عن الحلم السيميائي القديم: تحويل المادة.
ويعمل الشعر على الشاكلة عينها، فقد خلص إلى خلق هذا التفكّك الشعري بطبيعته الخاصة بها أسماء "بودلير" بـــــ "فن الشذرة" في أرقى مثالين هما: إشراقات رامبو، وقصائد هولدرلين الأخيرة المسماة بـــ "قصائد الجنون" وأكمل السباق "جيمس جويس" في كتابه "سهرة فينيغان" الذي يعتبر أعظم وأكبر عمل في مجال علم تشذير الطبيعة الخاصة بالشعر، وهي اللغة، وتفكيكها إلى شذرات، على غرار الحلم السيميائي ليتمّ ترحيلها إلى منطقة "الشعرية" أو "علم الشعر" ويساهم في الشوط أيضا "وليم فولكنر" و"أندريه بروتون" والسورياليون عموما، جماعة مجلة "تيل كيل" مرورا طبعا بـــ "ماللارميه" المولع بالألفاظ وأصواتها والمتحري عن قدرات الكلمة بكل تشدّد. فلقد تجرّأ وحلم بكتابٍ "مطلق" قادر على أن يحقّق إرادة الخلق التي يعزوها سفر التكوين إلى الكلمة الربانية "اللوغوس" لكنه لم يستطع أن ينجز سوى مقدمة الكتاب.
وهنا نحن لسنا في صدد التنظير للشعر كعلم، فإنّ هذا ما يقوم به العقل الغربي منذ ربع قرن وما زال يتقدّم بكشوفاته المضيئة. لكنّنا نسمع عن أولئك الذين ما برحوا يجرجرون الشعر وراء عرباتهم المتّجهة صوب جزيرة معزولة لا تكفيها نواياها، ويعتبرون القصيدة هي نتاج الفطرة السليمة والموقف المبسّط، ويستنكرون على الشاعر علميته، لا بل يعيبون عليه اتصاله بمجالات العلوم التطبيقية والبحتة كأنّها ستكون حائلا أمام الرؤيا كيما تكون. و"غالبا" ما يتشبثون – بفعل تصور مسبق وغريب- باعتبار النصوص الشعرية المكتوبة على هذا الإنبناء العلمي وكأنّها محض إفرازات لنشاط عقلي واع وبالتالي فهي ليست شعرا. لكنّنا نستطيع على هذا النحو من الكلام أن نسخر من الفطرة ومنطقها، كأن لا نعتبرها هي الأخرى سوى بقايا ميتة لتاريخ غابر كفّ عن أن يكون مولّدا لنصوص تستطيع التعايش وسط هذا العالم المتحرك الغريب المتقدّم دوما إلى آفاق لا يستطيع أحد إدراكها بتمامها. غير أنّ النصّ العلمي الجديد سيكون أهلا لذلك لأنّه يحتوي ضمن خطابه اللغوي على شفرات كل الآتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع