الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقنين الفساد المالي والإداري في الدول العربية المعاصرة

محمد ابداح

2018 / 6 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


كان لدور طبقتين اجتماعيتين هامّتين في الولايات العربية (علماء الدين، وطبقة الوجهاء والتجار المُتنفّذين) أثر كبير في دعم استمرار الإمبراطورية العثمانية في الحكم، فقد منح علماء الدين الشرعية للحكم العثماني باسم الإسلام، بينما برز الوجهاء ككتلة سياسية - اقتصادية مُهيمنة ومرتبطة بنظام الخلافة. تلك العلاقة لم تكن في يوم من الأيام رهانا على مستقبل أي من الطرفين، خصوصا بعد ضرب خاصرة الدولة العثمانية شرقا من قبل التحالف الفارسي- النمساوي بقيادة اسماعيل الصفوي مع شارل الخامس ملك النمسا، مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، ناهيك عن حروب الدولة العثمانية ضد ثورات دول البلقان المطالبة بالاستقلال والمدعومة آنذك من روسيا وبريطانيا، ومع استزاف موارد الدولة نتيجة الحروب المستمرة، واستشراء الفساد المالي والإداري بكافة مفاصلها، أدى لزيادة الضغوطات الضريبية والجبائية على مُعظم الولايات العربية الخاضعة للحكم العثماني، مما أدى إلى حالة من الإحتقان والغضب الشعبي، والشعور العام بالظلم وانعدام العدالة، وانفصال بين السلطات القضائية المُطالبة بتطبيق مباديء العدالة وبين أوامر الباب العالي المطالبة بمعاقبة الفلاحين المُعسرين، كما أدى لبروز الأصوات المنادية بالقومية العربية، والتي باتت عائقا أمام استمرار العلاقة بين الدولة العثمانية والولايات العربية، ومُعِزّزة للقناعات النخبوية المُطالبة بالإنفصال.
وقد أسدت الفتاوي الشرعية المُفصّلة برسم البيع؛ خدمات جليلة لرأس المال العثماني لفترة من الزمن منذ أن أصبح الإقتراض بفائدة من الدول الأوربية ضرورة تُبيح محظورا، كما تُسدي اليوم ذات الفتاوي الشرعية تسهيلات غير محدودة لصنّاع القرار في الدول العربية، فالمُسلم السّيء لا يمكن أن يكون حاكما بأمر الله، ومع أننا لا نرغب هنا في بيان صلة القرابة بين الإسلام كديانة سلطوية والنهج المُؤسّسي الحاكم، فقد كان ثمة جوا عامّا يستدعي تأمُّلا أكثر يقظة يُعيدنا إلى العناصر التاريخية والسّياسية.
إن مزابل النظريات الفقهية والجعفرية على الإخص تحوي العديد من كُتيّبات الإسعافات الأولية والتي قد تُنقذ حياة أي نظام سياسي واقتصادي إسلامي، ولا يعني أخفاءها بالضرورة صرف الأنظار عنها، بل هو عمل من أعمال التقيّة والذي يجتهد في وضع الحقائق الهامة بأماكن لاتستحق إلتفاتة من أحد، غير أن التفاصيل بالنسبة للباحث هو شأن من شؤون الإهتمام، والحاجة تجعل من الكفيف مُبصراً.
هناك مثلا النصب التذكارية والأضرحة التي تشير إلى المومياءات المحفوظة فيها بكل وقار، ولوائح مذهّبة لبعض أقوالهم التي لايفقه معناها إلا أصحابها والراسخون في العلم، لكن هل سيغضب كل هؤلاء المؤمنين إن علموا الرمزية الدينية التي جعلت من تلك النصب والأضرحة دوائر خاصة للجباية المالية؟ فالأضرحة أقيمت لتبقى مصدرا للرزق، لذا ترى لذات الرمز أكثر من ضريح في أماكن مُختلفة، وكأنّ المُؤمن لا ينفكّ يستغني عن أمر يضمن به دوام النعم ويجتاز به المحن، أوَ قد يغدو المرء حينها متنقلا بإيمانه بين الهالك والخالد بانيا علاقة ثابتة تجمع بين المتعدد والواحد ؟ ربما ما كان ليُستثمر من حفظ مومياءات الأولياء بأقل ممّا يُستثمر من الإيمان نفسه. وإذ يحفظ التحنيط أجساد الآلهة البشرية عبر الزمان والمكان فإن الإيمان قد نجح في تخليد أرواح تلك الأجساد وأفكارها في قلوب المؤمنين حدّ عبادتها.
قد يكون المثال السابق ( عبادة الأشخاص) مُغرقٌ في الإبتذال حين يتوصل المرء إلى عمقه، بحيث يحوي من البداهة بما يكفي لكي يُدرك بأنه لا مكان على الإطلاق لمثل هذا اللامُدرك سوى في صميم النظريات الفقهية، وبأن كل رواسب الوقائع ومستحثّات الأحداث التاريخية تؤكّدُ سواء بمدرك أو بلا مُدرك؛ بأن الفطرة البشرية كانت على الدوام تُبدي ضراوة شرسة في محاربة قيود الدين، خلافا لما يدّعيه الدين وفقهاءه. وبماذا يُفسّرُ إذن بأن على السلطة الدينية السّياسية أن تدعو باستمرار إلى تجسيد القضايا في الإشخاص؟ ولماذا يصوّر الزعيم في نظر تابعيه معصوما برتبة وكيل إلـه؟ وبأن كافة المصائب التي تجنيها الشعوب ليست لأخطاء الزعماء والملوك، وإنما لضعف الإيمان والتقصير في العبادة.
وفي ظلّ مجتمعات يكون فيها معيار مُمارسة العمل السياسي بشقيه -المُؤيد والمعارض- من منظور طبقي خالص، يُخال للمرء بأن ذلك أمرٌ قد يُثير البلبلة، غير أنه في الحقيقة على العكس من ذلك بوصفه احتكارا سياسّيا مُتميّزا؛ ليس فقط في إقصاء فاعلية البنية التحتية المُؤسسّية ( الحزب والحكومة والمُجتمع)، بل باعتباره الضامن الأكبر لنظام الحكم المُطلق.
وعلى ذلك النهج شق محمد على باشا طريقه السّياسي، لكن مع رجمه بالغيب تحت طائلة الخطأ؛ أثناء حكمه لكل من مصر وسوريا وفلسطين ولبنان والعراق واليمن والجزيرة العربية والسودان والصومال وليبيا، فسياسيا رهن مصير أكثر من ثلثي العالم العربي، كما رهن مصير حلفاءه في المغرب العربي وبالأخص الجزائر؛ بتقلب مصالح فوّهات مدافع السياسة الفرنسية اقليميا ودوليا! والتي صُوّبت نحوه في النهاية تماما كما فعل البريطانيين مع الشريف حسين بن على في مكة، والنتيجة دوّنتها كتب التاريخ في كلا الحالتين.
إن الرهانات السياسية الخاطئة من لدنّ أنظمة الحكم المُطلق ليست بخيارات مستقلة بل إملاءات يفرضها لعب ذات الأدوار التي يقوم بها التعصّب الديني في الواقع العملي، وبما فيه مفهوم السيادة الوطنية للولايات العربية الذي لعبت في ساحاته الخلفية قناصل الدول العظمى بكل حرية آنذك تحت علم ومباركة محمد على باشا، والذي لم يكتفي بتشجيع هجرة اليهود إلى ولاية فلسطين بل قام بالغاء الضرائب على استثماراتهم المشبوهة والتي لم تكن تتعدى حد الموانيء إبان الحكم العثماني في مصر وكل بلاد الشام الطبيعية بما فيها العراق، فضلا عن تأسيس بُؤر استيطانية مستقلة اقتصاديا وسياسيا، اتخذتها قنصليات بريطانيا لحماية الرعايا اليهود بما فيها إنشاء القنصلية البريطانية في بيت المقدس كأقوى داعم لمشروع اللوبي اليهودي في فلطسين آنذك.
إن كان سلك المعرفة قد أوصل النورفي كل مكان في العالم تقريبا، فإن معول الجهل لا يزال فاعلا في مهاجع السّياسة العربية. أتى محمد على باشا في ظل حكم عثماني استشري بالفساد، فلم يمنعه بل قنّنه، وكان الزعيم الوطني (عُمر مكرم) أول ضحاياه بسبب رفض الأخير التوقيع على سندات الجباية المالية المزورة، والتي أراد محمد على إرسالها للبيت العالي، لإخفاء حقيقة نهبه وسرقته للأموال العامة، وعلى ذلك النهج سارت كل الدول العربية لاحقا، والتي استقلت على مبدأ التبعية مقابل الأمن.












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس اللحظات الأخيرة.. ماذا دار بين الأسد وقادة إيران قبل


.. بعد 32 عاما.. معتقل لبناني محرر من سجون النظام السوري السابق




.. النجم البرتغالي لويس ناني يعلق حذائه بعد مسيرة كروية حافلة


.. مسيّرات أوكرانية تستهدف مروحيات وطائرات روسية في مضيق كيرتش




.. الدروز في الجولان يحتفلون بسقوط نظام بشار الأسد