الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايتي مع -عراقي في باريس-

وجيهة الحويدر

2006 / 3 / 23
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


حكايتي مع "عراقي في باريس"
ربما الكتب مثل البشر، يندسون في حياتنا في زمن ما في ظرف محدد لانهم محملين برسالة لنا، أو لأن لديهم امر نحن في حاجة ان نراه او نسمع عنه أو نتعلم منه.
رواية صموئيل شمعون "عراقي في باريس" عزمت على قرائتها منذ مدة طويلة، لكن لم اجد الوقت لاقتناءها سوى مؤخرا من معرض الكتاب الذي اقيم في البحرين. هل كان حينها هو الوقت المناسب لقراءة تلك الرواية؟؟ ربما..
اقتنيت الرواية قبل ان احمل امتعتي واسافر الى امريكا بيوم. بدأت بتصفحها وقراءة نصوصها الأولى فجرتني الى الرضوخ لمواصلة التهام سطورها، واغرتني ان احملها معي في رحلتي.. لم اعلم حينها عن مدى تبعات ذاك القرار. وهل كان صائبا ام لا!!!
بدأت الحكاية حين وصلتُ الى مطار لندن. بحثت عن زاوية تطل على الخارج لأتوارى فيها، فأنا لا اطيق المكوث لمدة طويلة في مكان يستمد استنارته من الكهرباء بدون ان أشعر بنور النهار، اعتقد اني مثل معظم من تربوا في بلدان مشمسة وحارة، حيث كأن الشمس اخذت على نفسها عهدا ان تبث اشعتها يوميا فيها بدون ملل أو كلل.
وجدت زاوية مناسبة فوضعت امتعتي وعود موسيقي احضرته معي. بدأت بالقراءة بتلهف في رواية "عراقي في باريس".. مرة اخرى أخذتني بعيدا بين سطورها، وشعرت بكل مافيها من فرح و ترح، وعلو وسقوط، وانتصار وهزيمة، لكن الحلم ظل محلقا فيها طوال الوقت باعتزاز وفخر عجيب. حلم صموئيل الشاب في ان يكون يوما ما مخرج سينمائي في هوليوود..
وانا منهمكة في القراءة اتت امرأة شقراء وهي تحمل ابنها الذي كان يبكي بطريقة تدل على انه متعب جدا. جلست بجانبي وهي تحاول ان تلهيه وتبعد عنه ذاك المزاج المتعكر لكن بدون جدوى، ومع ذلك لم تبدِ أي تضجر من ابنها المتملل..
دبت في داخلي روح الروائي صموئيل فالتفت اليها وقلت لها:
- أنت أم عظيمة
ابتسمت فأجابت:
-كالآلهة؟
ولاننا الاثنتان أمهات ندرك ماذا تعني تلك الكلمة فأكملت عبارتها قائلة:
- يقال ان الرب لا يستطيع ان يتواجد في جميع الأمكنة لذلك خلق امهات.
ابتسمت لها بينما ابنها زاد نحيبه. فوجدت نفسي انظر في عينيه الزرقاوتين بذهول، ففتحت له لباس العود وصرت اطلب منه ان يعزف عليه. ازدادت الزرقة في عينيه فشعرت كأنها ملأت المكان..صمت قليلا وبدا عليه الانبهار من دندنة العود. اخبرتني والدته ان عمر ابنها خمس سنوات وأنه يجيد العزف على "الكمان". ربما لذلك السبب احسست ان زرقة عينيه غير عادية..بعدها اتى والده وحمله فلحقت به الأم وهي تودعني بإبتسامة ناعمة…
عدت اتجول بين سطور الرائع صموئيل واوقفني فجأة طرحه، وكيف ينظر لآلامه. فهو دائما لا يفكر بها ويؤجلها الى ان تحين ساعتها. وكيف يصف انه يحس بروح شهرزاد فيه، تلك المرأة التي لم يكن بينها وبين الموت الشنيع سوى بضع ساعات معدودة، لكنها بذكائها وحنكتها تمكنت من ان تقهر جميع السيافيين المتربصين بها، وتعيش حياة مليئة بالمغامرات والبهجة.
وانا منغمسة في الاثارة التي تعج بها الرواية لم انتبه للنداء الآخير الا بعد أن اقلعت طائرتي متجهة الى واشنطن. ذهبت بسرعة للخطوط وطلبت منهم ان يضعوا اسمي على الرحلة القادمة. فاستجابوا لطلبي وغرموني بعض الجنيهات..
عدت مسرعة لزاويتي فوجدت رجلا ضخما يتربع في المكان، لكن تقاسيمه لم تكن مريحه ابدا. غادرت المكان وتوجهت الى حانة وكعادتي اذهب هناك لاوجه نفس السؤال ..قلت باهتمام لصاحب البار
- هل صحيح ان التيكيلا شراب الآلهة المفضل؟
ابتسم لي وهو يمسح كأسا في يده واجاب
- من قال ذلك؟
- المكسيكيون. أجبته.
قال:
- هل انت مكسيكية؟
تذكرت صموئيل حين كان يٌسأل عن دينه وهويته ويتملص من الاجابة فقلت له:
-أنا من عالم ليس مهما أبدا..
وكعادة اصحاب الحانات تدربوا على الا يتفاعلوا مع الزبائن ولا ينساقوا وراء مشاعرهم. لذلك سألني:
-هل تودين ان احضّر لك شراب تيكيلا؟؟
أجبته:
- لا شكرا. ربما حين اصبح يوما ما احدى الآلهات.
ابتسم والتفت الى زبون آخر، فحملت نفسي واتجهت الى زاويتي فأخذت استرق النظر لأجد ذاك الرجل مازال قابعا في مكاني..
اكملت تجولي بين المحلات، واشتريت بعض المساحيق التجميلية ثم رجعت لمكاني لاجده شاغرا..عدت لقراءة الرواية الى انهيتها في نَفَس واحد وشعرت بأسى على انتهائها بهذه السرعة. لكن التوقيت كان مناسبا فقد حانت ساعة الاقلاع…اتجهت الى البوابة وفتحت حقيبتي لاسلمهم الجواز والتذكرة فأتفاجأ انه ليس لدي اي شيء يثبت من انا، لا جواز ولا تذكرة ولا حتى محفظة..نظرت حولي وصرت اضحك في داخلي من سخرية القدر. ومثل صموئيل في روايته مر بي فيلم "ذا ترمنل" الذي قام بتمثيله "توم هانكس" حيث وجد نفسه في مطار نيويورك بلا هوية وبجواز فاقد الصلاحية بسبب انقلاب عسكري حدث في بلده…
وبروح صموئيل الفكاهية قلت لنفسي هل سأكتب يوما ما رواية "حساوية في مطار لندن"..ها..ها..ها..
انتبهت ان عقارب الساعة لم تعد تتحرك لصالحي، فتوجهت بسرعة لاحدى العاملات في الخطوط وكانت فتاة شقراء ايضا..بنفس مواصفات صاحبة البريد التي في رواية صموئيل والتي نسج لها كمينا حتى اوقعها في فراشه. اخبرتها بمشكلتي فقالت:
- نعم هناك بلاغ عن اشياءك. جميعها موجودة في مكتب امن المطار…
نظرت الى ساعة الحائط حيث كانت تشير لي انه بقي على اقلاع الطائرة ثلث ساعة…طلبت من تلك الشقراء ان تحتفظ بحقيبتي وبالعود لكنها رفضت لاسباب امنية…
جريت كالمجنونة بحقيبتي وبعودي مسرعة ومتجهة الى المكتب لكي استلم ما اضعته..حصلت على كل شيء وقال لي موظف الأمن وانا خارجة..
-تأكدي ان كان المبلغ الذي في محفظتك كاملا…
شكرته وجريت .. وانا اقول لنفسي حتى لو كان ناقصا من اين لي ان أأتي بالوقت…
كنت آخر راكبة وصلت.. اغلقوا باب الطائرة خلفي. وبعدها تبوأت مقعدي في الطائرة. وانا التقط انفاسي، احتضنت رواية صموئيل بسعادة ونشوة. لأنها ردمت لي ثقوبا كانت تنخر في الذهن، واضاءت لي شموعا كانت مطفئة في النفس، وازالت عني شوائبا كانت عالقة في الروح بعد أن تعرفت على ذاك الكم الهائل من المفارقات والمرارات…
رواية "عراقي في باريس" طفرة انسانية لا تحدث سوى في دهور سحيقة. فهي تمنح فرصة لقرائها في أن يشيدو جسورا لأنفسهم من أجل عبور مآسيهم بطمأنينة وسكينة، فيها سحر عجيب قد يكون قادرا على أن يشفي معظم اوجاع الحياة.

واشنطن دي سي
[email protected]









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تبدو كأنها -قلعة-.. لبناني يرصد محابس صخرية معلقة بين الأرض


.. الولايات المتحدة تتعهد لإسرائيل بتقديم الدعم بحال المواجهة ا




.. بلاغ بوقوع انفجارات بمحيط سفينة تجارية شرقي مدينة عدن| #الظه


.. تحذير أممي من تحول لبنان إلى غزة جديدة| #الظهيرة




.. سرقة الطرود تتكرر في مدن أميركية.. والمتابعون متشككون