الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وأصبح النهار مراكب ذكريات

دينا سليم حنحن

2018 / 7 / 2
الادب والفن


وأصبح النهار مراكب ذكريات
وقائع حقيقية

بقلم: دينا سَـليم حَـنحَـن

هذا الخوف الذي استكان ونهش داخلي وحط من ثقتي بنفسي، وبنا جميعا، حتى وجدنا أنفسنا خارج حدود الوطن عندما أصبحت فلسطين لغيرنا.
لقد عاد جارنا أبو رمضان أدراجه، وأبو إيليا أيضا، وأبو فلان وعِلتان إلى يافا بعد أن تخلصوا من خوفهم ينافسون اليهود بالبقاء، لكن والدي الخائف بقي نازحا ولم يجرؤ على العودة، تاركا نصف أطفاله على الطريق، رافضا ومتخليا عن الأرض، كارها أن يسمع كلمة (يهودي)، مشمئزا وهاربا من نفسه ومن وطنه ومن أسرته... فبسبب عناده أصبح النصف الباقي من إخوتي مشتتا في ربوع الأوطان الشقيقة، يدارون الأشقاء مداراة، يرتقون الأحوال رتقا لدرء أي خطر يهددهم بالطرد، ويكتفون بما قسم لهم من نصيب، فإلى أي وطن سيعودون؟ وكلما سألنا والدتي السؤال ذاته، تنفض يديها، تشتم وتتحسر وتصعّـد تنهيدة عميقة تخنقها وتخنقنا جميعا ويبقى السؤال موغلا في الحلق:
- لماذا لم يعد أبي إلى فلسطين في الهدنة؟
كل ما أذكره من يافا وبحسب ما روته لي والدتي، حيث كنت ابن عشرة أشهر وقتذاك، أن جارتنا ناهي، وهي امرأة عاقر قامت بإطعامي من ثدييها الجّافان لكي تحظى بسكوتي، وذلك عندما تركتني والدتي عندها وذهبت لكي تلملم أبناءها من الحارات، بعد سقوط المدينة في عملية سميت (عملية درور)، في 26 نيسان أبريل 1948، بوجود العناصر التي روّعت الأهالي وحثتهم على الهرب، حيث انهالت على رؤوسهم الجملة الشهيرة مثل الهراوة القاتلة، (يالله روحوا عند الملك عبد الله).
حينها فقدت العائلة أخا شقيقا وجد فيما بعد غارقا في البحر، والثاني قتل في الطريق برصاصة طائشة على يد مجهول ، (لم يكن هناك اطلاق رصاص في يافا كما حصل في مدينة اللد من اليهود، على سبيل المثال).
المسافة بين يافا والطيبة المحاذية لرام الله، وسيرا على الأقدام أكثر من عشر ساعات تحت القبة الزرقاء في يوم حار، هذا ما حصل، وقد سارت العائلة مع أشقائنا الراحلين بهدف الاحتماء عند أقارب ناهي جارتنا التي وعدت بأن تلحق بهم هي وزوجها تاجر القماش أيضا، قائلة:
- سوف نلحق بكم .. والعذرا مريم لاحقينكم!
- أحلفك بالنبي لا تتأخري علينا يا ناهي! حلـّفتها والدتي
- لاحقينكم قلت لك .. والعذرا مريم لاحقينكم! أجابتها ناهي

أقمنا في منطقة تدعى دير جرير قضاء رام الله، ولم تلحق بنا جارتنا ناهي التي عاهدت والدتي في حينه، إن حصل وطعمها الله بنتا سوف تزوجها لي وسوف تدعوها دُنـيا، وبما أنني أدعى "سـلام" سنملأ الدنيـا سلامـا حين عودتنا إلى فلسطين، وبعد أن نقوم بطرد اليهود وإعادتهم من حيث أتوا.
مرت علينا السنون جوفاء وخاوية من الآمال، تشتتت العائلات وانكسر طوق الأصل الذي زيّن رؤوسهم بالماس واللؤلؤ والجاه والمال، هرب من هرب ورحل من رحل بدون حمل أي متاع نحو الضفة الغربية ومن ثم إلى الأردن، حملوا معهم فقط الآهات، ومن هرب عبر البحر إلى بيروت وغيرها حمل معه عشرات القصص الحزينة لتروى عن يتامى الأرض والعرض والكرامة، ومن بقي استقر مثلما استقرت ناهي وهي تنتظر في البقعة ذاتها، تصر على عودة زوجها الغائب وتحلم بإنجاب طفلة غير مولودة ستدعوها دنيـا إن حصل وأكرمها الله بها، لقد بقيت ناهي وحدها تعاند بعض (عناصر الهغاناه) التي حاولت إخراجها من بيتها ومن المدينة لتلحق بمواكب الراحلين، لكن وبإصرار المرأة العاقر التي حاربت كثيرا لكي تنجب، بقيت في أرضها، وحاربت وقاتلت وشتمت وألقت عليهم أحذيتها الموشاة بخيوط الحرير، صارخة:
- خسارة فيكم يا أولاد الكلب، كندرتي خسارة فيكم يا كلاب!
أما والداي فقد أقاما في قرية الطيبة، ثم رحلا إلى مملكة الأردن بعد تشكيلها وتعيين عبد الله الأول بن حسين ابن علي الهاشمي ملكا عليها، أقاما في مدينة الزرقاء مدة طويلة، ثم رحلا إلى عمّان فالكويت ينتظران العودة إلى فلسطين، انتظرا أملا لم يتحقق وحتى يوم وفاتهما!
أذكر جيدا ما ردده والدي دائما:
- طلبوا منا، وبمكبرات الصوت، الخروج من بيوتنا لمدة أسبوعين، في هذه الأثناء جمعوا ما وجدوه من الرجال في ساحة المدينة وأحاطوهم بالسياج، أسروا الشباب وتركوا النساء، أخبرونا أننا سنعود إلى بيوتنا عند نسائنا ويجب الالتزام وعدم إحداث أي ضجة تغضبهم منا، الله وكيلكم، أخبرونا أيضا أنه سيتمّ ترحيل اليهود عن أراضينا ووجودهم ما هو إلا وجود مؤقت في فلسطين، وسوف يعاد الذين رحلوا عن المدينة بعد أسبوعين... لعبوا علينا لعبة حقيرة ونحن صدّقناهم، كذبوا علينا أولاد (الـشر...)، وانتظرنا، وما زلنا ننتظر، لا نحن عدنا ولا هم رحلوا!
وكلما تحدث والدي في ذات الموضوع كانت والدتي تفزّ من مكانها، تشرئب مثل قطة تتأهب لتنقض على لقمة دسمة، تحرر ثوبها الطويل البالي الذي اعتادت أن تضعه بين ساقيها فتظهران مثل حطبتين رفيعتين أعدتا للموقد، توصوص بعينيها وتزم شفتيها الرفيعتين فتبرز الخطوط الجافة فوق شفتيها المتشققتين، تقترب منه ثم تنقض عليه مثلما ينقض القط على الفأر، وكأن بينهما ثأرا قديما وقد حان موعد الحساب، تشمّر عن ساعديها وتهز بخصرها، تستنشق نفسا عميقا ثم تزفر من عمق رئتيها وتقول له غاضبة:
- ناصيبنا نتشحشط ببلاد غير بلادنا... شو بدنا نقول يعني!
- هذا ناصيبنا يا امرأة...خلص عاد، بكفيكِ نق... عاملة مثل الدجاجات الفالتات الدايرات! يجيبها والدي محتدا
- قصدك الدجاجات الماشيات ورا الديك على العمينة!
- وماذا به الديك؟ ألا يعجبكِ هذا الديك؟ يشير إلى عضوه متفاخرا!
- ومن لا يعجبها هذا الديك، ديك الفلالي يا أبو زيد الهلالي!
- أفهم أنكِ تستهزئين بي؟
- ومن هو حاضر غيركَ هنا يا أبو زيد، رحت عَ بلادك ويا ليتك ما جيت؟
- هل تريدين أن أبقى في يافا وحيدا وأتركك في الطيبة وحدك يا ست بلقيس زمانك؟
- لو لم تعد كنت أدركتك مع الأولاد وبقينا في بلدنا واختصرنا على أنفسنا كل هذه البهدلة!
- هذا ما حصل، هل ستحاكمينني مدى الحياة على هذا الخطأ، لا تتجني علي يا امرأة وخافي ربك عاد!
- ليتك يا با زيد ما جيت وما غزيت!
تجيبه والدتي محتدة ثم تعود إلى مكانها، تخلع حذاءها وقبل أن تتربع تضع طرفي ثوبها بين ساقيها الطويلتين، تهرش بشعرها، تلهث وتنظر مجددا إلى والدي نظرة حاقدة، ترمقه ثم توصوص بعينيها حتى يترك هو المكان مبتعدا بخطواته البطيئة، حاملا وجهه البائس، حابسا دموعا حارة داخل مقلتيه.
لكنه وبما أنه أحس بالإهانة يتمتم قائلا:
- والله لوما العوز لتركتك وتزوجت عليك حتى أقهرك!
تجيبه من بعيد، تدرك تماما ما سيقوله دون أن تصغي إليه وتتعمد عدم تجاهله، تقف على قائمتيها الرفيعتين وتقترب منه وتقول:
- شو قلت، يا حوينتي عليك فاكر نفسك شيخ الشباب!
- معلوم شيخ الشباب وأكثر، ليش ما بنفعش عَ الطرّاحة يا ولية... وهدول الأولاد من وين إجو؟
- معلوم! عَ الطّـراحة ما في أرجل منك، أما غير هيك ما فيش!
- عوضنا على الله، هذه المرأة لا تريد أن تسكت، هياني شاطح عنكم!
- الله يسهّل عليك ومع السلامه، إشطح يا خوي، إشطح!

تلقت والدتي الكلام البذيء الذي اعتادت أن تسمعه من زوجها دون أن تشعر بالحرج، بل وأصبحت تستفزه لكي تسمع الأكثر والأعظم فيفرحها التوبيخ، تبتسم ويظهر الحبور على وجنتيها النحيفتين، وتزداد قبحا كلما ابتسمت، يا إلهي، لم أجد أقبح شكلا من والدتي حتى وهي تبتسم!
وخنق السؤال أعماقي:
- لماذا والدتي غير وسيمة أسوة بالنساء الوسيمات؟
وحتى القبيحات فقد اكتشفت أنهن يتمتعن بلمحة من الحُسن، لذلك عذرت والدي على تحمله الهدية الإلهية التي منّ الله عليه بها، بزواجه من ابنة عمه الوحيدة، ولكي لا ينصرف الرزق لرجل غريب، كيفما هو متبع لدى العائلات الفلسطينية، وجب عليه أن يوافق، فابن العم أولى وستار للعيوب، فوافق أبي على شروط عمه الصارمة بألا يحصل على أي شبر من الأرض إلا بعد وفاته.
كان والدي فقيرا معدما، وعمل عشيا (حمالا)، للبضائع التي وصلت مع السفن التجارية والسياحية إلى ميناء يافا، أهم الموانئ الفلسطينية وذلك قبل سنة 1948، لكن وبعد عدة سنوات تحوّل الميناء إلى مقر للصيادين والسفن الصغيرة بعد نزوح الفنيين والعاملين العرب، ذلك إلى جانب مهنته الأصلية كبائع للسمسمية متفاخرا ومتباهيا وذلك عندما اقتنى منها رجل مميز، كما دعاه، قطعة التهمها متلذذا، رجل من السّاسة الكبار، ذا القبعة أفرنجية، والذي اعتاد الجلوس في المقهى على الساحل، سمين البنية، قبيح الوجه، أبيض البشرة ويحمل داخل وجهه عينين غاطستين، وقد ساعد هذا الرجل زميلا له يدعى أبا وليم، ذلك العشي الذي أتقن الإنجليزية بطلاقة وقد استطاع أن يترجم ما قاله تشرتشل، صاحب اللثغة المميزة، للآخرين الذين تجمعوا حوله كلما ظهر على الساحل.
تصادق الرجل مع العشي وتحدث معه بالإنجليزية، لكن خيل للعشي أبي وليم شيئا آخر وحسب ما قاله لوالدي في حينه:
- والله يا أبا محمد أنا أشكّ كثيرا بهذا الرجل!
- تقصد هذا الرجل السمين دائم الضحك؟ أجابه والدي
- هذا لا يضحك، هذا يستهزئ بنا!
- ولماذا يستهزئ، ماذا فعلنا له، أنتَ تخدمه وتقوم بترجمة كل ما يقوله للآخرين!
- هنا تكمن المشكلة!
- اي مشكلة يا رجل؟
- مشكلتنا أننا لا نفعل شيئا يا أبا محمد، نحن نثرثر فقط متل الببغاوات من وراهم!
- ماذا تريدنا أن نفعل، بربك لا تقطع رزقنا، عندما يظهر هذا الرجل في الميناء تزيد الحركة ويزدحم المكان بالسكان، يجلس فيجتمع من حوله الناس، يستأثرون بوده مما يزيد في الطلبات والمشاريب، ربنا يرزقنا ويرزق صاحب المقهى!
- أنت لا تفهمني جيدا ولن تفهمني أبدا، أقول لك إن هذا الرجل خطير جدا!
- من أية ناحية يعني خطير، هل عينه على نسائنا مثلا، والله يا ريت، أنا مستعد أهديه أم محمد هدية، وببلاش، فقط ليريحني من وجهها ويلعن أبوها (أبو كمونة النحس)!
- أي نساء يا رجل، أنا في واد وأنتَ في واد، أنت لا تفهمني أبدا!
- كيف لا أفهمك يا رجل ولماذا، هل لأنك تتقن الإنجليزية أصبحت تتكبر علينا ونسيت أنك مجرد عشي؟
لقد توسط تشرتشل لأبي وليم(1) بالحصول على جواز سفر فلسطيني بختم بريطاني ولمدة خمسة عشر عاما، رحل أبو وليم إلى عمّان أيضا قبل أن يستلم الجواز، وما كان الرجل السمين، مترهل القوام، صاحب السيجار الثمين إلا وينستون تشرشل رئيس الوزراء في المملكة المتحدة.
...
(1) استمددت هذه المعلومات من أبي وليم عندما زرته في داره في عمان الأردن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - معلومات قيمة
نادية خلوف ( 2018 / 7 / 3 - 17:54 )
نحن شعب الله القاهر والمقهور. سرد جميل، ومعلومات ذات قيمة. . شكرا للمعلومات

اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى