الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شمولية السياسة سياسة شمولية

علي الشهابي

2006 / 3 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


في المقالة السابقة، تناولت فقط أحد تناقضي التيار الأساسيين، محاولة تركيب بناء فوقـي
ديموقراطي على أساس اقتصادي شمولي. أما الآن فسأتناول التناقض الثاني، التناقض بين
العمل السياسي الساعي للوصول إلى السلطة مع العمل الذي ليس من منطقه أن يسعى إليها.

لقد حدد التيار نفسه مناهضاً للعولمة، وبنفس الوقت طرح وتبنى مواقف سياسية مباشرة وملموسة بامتياز. وبهذا تتناقض مكوناته بين طرفين أساسيين فيه، قد تتطابق الأطراف الأخرى المكونة له مع الموقع السياسي (وليس الموقف السياسي) لأحدهما أو تنوس بينهما. وهذان الطرفان هما "لجان إحياء المجتمع المدني" و"حزب العمل الشيوعي"، لتكون محصلة قوى هذا التيار تعبيراً فعلياً عن الواقع المتناقض الذي تمثله "حركة مناهضة العولمة".
قد تعتقد هذه المكونات أنها يشفع لها إدراكها لحقيقة هذا التناقض، طالما أنها تهدف إلى تشكيل تيار يجمع بين العمل الوطني والديموقراطي والاجتماعي، لكنه لا يشفع. على العكس، فهذا الإدراك يجعل المصيبة أكبر لأنه يدل على استمرار المفهوم القديم لماهية العمل السياسي في أذهانهم.

انسجام الوظيفة والغاية
إذا كان هذا الإدراك لا يشفع، فهناك ما قد يشفع: إن هذا التناقض بين العمل السياسي والعمل غير السياسي ضمن الإطار التنظيمي الواحد، هو ما يسهم في جعل العمل السياسي لغوصة السياسية. وهذه اللغوصة كانت، ومازالت، السمة الطاغية على العقل السياسي عندنا. وباتت ضرورات البناء الديموقراطي تقتضي زوالها، لاستحالة بنائه في ظل طغيانها، طالما أن أميز ما يميز الديموقراطية هو الانسجام بين مكوناتها. وأول أشكال هذا الانسجام هو التلازم الضروري بين الوظيفة التي يؤديها العمل الديموقراطي والغاية منه.

ففي وحدة هذا التيار، نرى من يدّعي أنه يعمل على تشكيل لجان مجتمع مدني (عمل غير سياسي) يتبنى برنامجاً سياسياً يهدف إلى الوصول إلى السلطة. كما نرى حزب العمل الشيوعي مثلاً، بواقعه السياسي، يطرح على نفسه مهمات اجتماعية. هذا التناقض، الذي يعتقده أصحابه يخدم المهمتين، يسئ إلى كلتيهما. فهو في الوقت الذي يبعد الفئات الاجتماعية الراغبة بالعمل غير السياسي عن العمل الأهلي، يقحم في العمل الأهلي من لا يعرف منه وعنه إلا فكرة عامة. وهذا يؤدي إلى:
دفع بعض المؤهلين للعمل في المجال الأهلي إلى العمل السياسي، الذي قد لا يعرفون أبجدياته، ليصيروا "سياسيين". وصار كل مثقفينا سياسيين بامتياز، طالما أن كل العمل السياسي عندنا يكاد يقتصر على التعبير عن وجهة النظر في وسائل الإعلام، وخصوصاً على الإنترنت.
جعل السياسيين ينشطون "نشاطاً أهلياً" لا يتقنونه، وبنفس الوقت يرتاب منه المجتمع ليقينه بأنهم كاذبون، "هدفهم توريطه في السياسة، بذريعة النشاط غير السياسي". ومعظم أفراد الأحزاب السياسية تفكر، وغالباً ما تعمل على "اختراق" المجتمع، بنشاطات غير سياسية.
هذا التناقض يؤدي إلى شل العملين، السياسي والأهلي. ولأن سياسيينا ينطلقون من بداهة صحة ما يفعلون، والمجتمع لا يتنشط، لا سياسياً ولا أهلياً، يميلون إلى تفسير الأمور بطريقة تعزز راحة ضمائرهم: نحن نتصرف بشكل صحيح، لكن المشكلة في هذا المجتمع. ولأنهم يدركون انعدام المنطق باستنتاج "المشكلة في المجتمع" (طالما أن المجتمع موضوع فعلهم، وبالتالي لا يمكن أن يكون الخلل فيه) لذا يموهون مشكلتهم في المجتمع ومشكلة المجتمع معهم، بحرف المنطق عن سياقه ليتحول إلى خطابة سياسية: إن الديكتاتورية البعثية التي استولت على السلطة أولاً، ثم على المجتمع، أحالته إلى ركام. وحتى تعود الحياة إلى هذا الركام، لابد من بعض الوقت.

هذه الخطابة تموه المشكلة لأن الفعل المطلوب مطلوب داخل هذا المجتمع الذي فعلت فيه السلطة ما فعلت، ولو لم تفعل لما كان هذا الفعل مطلوباً قط. وبالتالي فإن استمرار هذا الشلل في الحراك الاجتماعي، سواء كان سياسياً أم أهلياً، لا يتفسر فقط بما فعله البعث تاريخياً. فديكتاتورية السلطة تقلصت كثيراً خلال السنوات الخمس الماضية، ومع ذلك لم يتنشط الحراك الاجتماعي بما يوازي هذا التقلص، وخصوصاً في ظل تعطش المجتمع إلى الديموقراطية، ووضوح كيف أن ديكتاتورية النظام تمد الولايات المتحدة بكل الذرائع التي تساعدها على تنفيذ مخططها المرفوض شعبياً في سوريا. والمسؤول عن انعدام هذا التوازي هو بالضبط هذه اللغوصة السياسية، التي لا تتفسر إلا باستمرار شمولية مفهوم السياسة.

شمولية السياسة
لاشك في أن اعتبار السياسة شاملة لكل نواحي الحياة الاجتماعية، سبق وتم استنتاجه من ضرورة الثورة الاجتماعية. هذه الضرورة نظّرتها الماركسية، وعبّرت عنها بأقصى الوضوح عند مهدي عامل، الذي استندت كل عبقرية تنظيراته على مقولة الماركسية "الصراع الطبقي صراع سياسي".

فطالما أن الصراع الطبقي يتجلى في كل سلوك اجتماعي، فكل سلوك اجتماعي هو سياسي بالضرورة، حتى إن بدا للكل غير ذلك. فعدم بديانه على حقيقته سببه النظر إلى الأمور بعين البورجوازية. فالبورجوازية، العاجزة عن إلغاء الصراع الطبقي، تسعى لنزع سياسية أي مظهر من مظاهره، هذه مهمتها. أما مهمة البروليتاريا، فإعادة التسييس لهذا المظهر، حتى تعيده إلى حقيقته.

وهذا يعني أن كل مستويات البنية الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي، خارج المستوى السياسي، تبدو مستوياتٍ اقتصادية وأيديولوجية في زمان غياب ما يؤزم المجتمع (زمان التطور). أما في زمان تأزم العلاقات الاجتماعية (زمان القطع) فتتسيس كل هذه المستويات. فسياسيتها هي حقيقتها. (أتمنى أن أكون قد عبرت عن جوهر فكرته بهذه السطور القليلة). وبديهي أنني لم أتطرق إلى مفهومه لدور المستوى السياسي كرابط لمجمل المستويات مع بعضها، لأن صحته ليست مثار خلاف قط.

فرؤية الماركسية لدور المستوى السياسي في البنية الاجتماعية، في اختلافه عما تكشفت عنه حقيقتة الآن، أشبه ما يشبه دور الدم في الجسم. فهو عنصر مستقل من عناصره، وبنفس الوقت يتخلل كل ثناياه، بحيث يؤثّر ويتأثر بوظائف باقي الأعضاء.

بهذه الحدود من التشابه بينهما، لا غبار على الماركسية. لكنّ خطأها يبدأ من اللحظة التي تستنتج فيها، وهي تستنتج، أن أخصائي السياسية في المجتمع ـ الحزب مثلاً ـ ينبغي أن يتدخل في معالجة كل مشاكل المجتمع لأن السياسة تتغلغل فيها. هذا الاستنتاج هو بالضبط كاستنتاج ضرورة قيام أخصائي أمراض الدم بمعالجة مشاكل الكبد والرئة والأعصاب والقلب لأن الدم يتغلغل فيها.

استناداً لهذا الخطأ الجسيم، الموروث من الماركسية، كنا نرى الأحزاب تقيم "منظمات شبابية" وأخرى للمرأة، وكلها لا علاقة لها لا بالشباب ولا بالمرأة. بل كانت ومازالت منظمات سياسية، فعلت فعلها فقط في إعاقة تشكيل منظمات للشباب والمرأة. وكلها صارت، عند من وصل إلى السلطة، أدواتٍ لديكتاتوريته.

هذا الخطأ باتت الحياة تطالب بتعديله، وأول ما ينبغي أن يتعدّل فيه كف العقل السياسي عندنا عن اللغو بأن السياسة تتدخل في كل شئ، من تربية الأطفال إلى مواجهة المشروع الأمريكي، مروراً برغيف الخبز ومشاكل الشباب ومساواة المرأة بالرجل..إلخ. وأخص بالذكر محاولة دفع بعض الشباب المسيسين لشد أصدقائهم إلى العمل السياسي تحت غطاء العمل الشبابي. فكل العمل الأهلي عندنا، بمفهومه الحديث، يكاد يكون غائباً لعدة أسباب، لاشك في أن أحدها قيام "لجان إحياء المجتمع المدني" بالعمل السياسي، تحت غطاء العمل الأهلي. وخيراً يفعلون إن شرعوا، وقد شرعوا، بنزع القناع الأهلي عن عملهم السياسي.

بديهي أن هناك خطوط تماس ونقاط تقاطع بين العملين، لكنها لا تتطلب من العمل السياسي التدخل المباشر، ولا غير المباشر، في تحديد الهدف من العمل الأهلي أو في آلية عمله. على العكس، فهذه وتلك تخدم برسم الحدود الفاصلة بين العملين، وهذا الرسم ليس موضوعه هذه المقالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي