الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوش في سنة الغزو الثالثة: المياه الراكدة، أم غليان الأعماق؟

صبحي حديدي

2006 / 3 / 25
الارهاب, الحرب والسلام


خلال أيام خمسة، متتالية متعاقبة، وفي إحياء السنة الثالثة لغزو العراق، تحوّل الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى ميكروفون متحرّك، أشبه بوحش إعلامي جريح في آن معاً، من الخطبة الإذاعية إلى المؤتمر الصحفي إلى المداخلة، وصولاً ـ بالطبع ـ إلى ما يتقن ممارسته أكثر من أيّ مهارة اتصال أخرى: الوقوف أمام حشد هائل من ممثّلي أمريكا الوسيطة، ناخبته الأولى والكبرى، واستدعاءكلّ ما يمكن للغة الخشبية أن توفّره من ميلودراما، في الترهيب كما في الترغيب، وفي النفاق السياسي كما في التبشير العاطفي.
وفي هذا الشطر من تلك الشطارة، ماذا قال بوش أمام 2000 من الأمريكيين احتشدوا في قاعة ضخمة في بلدة ويلينغ، فرجينيا الغربية؟ هنا نموذج أوّل: "أقول مرّة ثانية إنني أتفهم السجال. أفهم أن تكون هناك اختلافات في الرأي، وينبغي أن نرحّب بهذا في أمريكا. ينبغي على الناس أن لا يخشوا الخلاف في الرأي، خصوصاً حول مسائل كبرى. والحرب مسألة كبرى، الحرب والسلام. ومن دلائل العافية أن يجري سجال بين الناس، ما دمنا لا نرسل إشارات خاطئة إلى قوّاتنا؛ وما داموا لا يشعرون أننا لم نعد نساندهم، وما دمنا لا نرسل إشارات مشوّشة إلى العدوّ. فالعدوّ يؤمن أننا نضعف ونفقد أعصابنا، ويتعيّن عليّ أن أخبركم أنني لست ضعيفاً، ولن أفقد أعصابي، وأنا شديد الإيمان بأننا على صواب".
هذا الرجل، رئيس القوّة الكونية الأعظم، هو نفسه الذي سارع ـ بعد أسابيع معدودات من غزو العراق ـ إلى امتطاء قاذفة مقاتلة هبطت به على ظهر حاملة أمريكية ضخمة، ليلقي خطاب اختتام الحرب ويعلن الانتصار، وخلفه لافتة عريضة تقول: "المهمّة أُنجزت"! عن أيّ حرب يتحدّث، إذاً، وعن أيّ سلام في الواقع، هو الذي بشّر العالم بطيّ ويلات الحرب وافتتاح مغانم السلام؟ وأيّ عدو شرس جبّار يهدّد أمريكا، حتى نرى بوش يناشد شعبه عدم إرسال "رسائل مشوّشة" قد تلحق الضرر بأمن البلاد؟ ومَن هو هذا العدوّ، في نهاية المطاف؟ أهو أسامة بن لادن، الذي يعلم الله في أي كهف يقبع، في أرض قد لا تزيد مساحتها عن مساحة بلدة ويلينغ ذاتها؟ أم هو الزرقاوي، الذي قد لا تتوفّر له حتى تلك الكهوف؟ ولماذا، إذا كان منطق الإجابات البسيطة على الأسئلة السالفة ينتفي معنى الظفر، لا يعلن بوش أنّ الانتصار ليس وشيكاً في أقلّ تقدير (إذ يصعب أن ننتظر منه إعلان انكسار من أيّ نوع، فكيف بالهزيمة)؟
وفي مقابل العدوّ، أياً كان المقصود بالتسمية، لا يلوح أنّ الصديق العراقي يخفف قليلاً من هموم الرئيس الأمريكي، بل لعلّ الحليف يزيد الطين بلّة! هذا ما يفهمه سامع بوش حين يشتكي الأخير من عزوف القيادة العراقية عن التنعّم بأطايب الديمقراطية (عجزها، مثلاً، عن تشكيل وزارة!)، الأمر الذي يدفعه إلى التشاور في هذا مع سفيره هناك زلماي خليلزاد ومع قائد القوّات الأمريكية الجنرال جورج و. كيسي... عبر الفيديو! وما خلا أنّ الحرب، أية حرب معاصرة، باتت لعبة فيديو في نظر غالبية ساحقة من أهل البنتاغون وساكني البيت الأبيض وبعض الجمهور الأمريكي، لا نعرف دواعي الإلحاج الشديد ـ أو ربما الحاجات الخاصة! ـ التي جعلت بوش يشاور سفيره وجنراله عبر الفيديو، وليس عبر عشرات التقنيات التي تكفلها تكنولوجيا الإتصال الأمريكية المعاصرة. أم أنه كان يفتح شهية مستمعيه على نكهة الـ "شو ـ بزنس": كما في الاستعراض، كذلك في السياسة!
وإذا كان العدوّ أمامه مثل الصديق، كلاهما ينغّص عليه انتصاره في العراق وتصميمه على عدم فقدان الأعصاب، فما الذي يتبقى للرئيس الأمريكي من عناصر مساعدة، أو مساندة، في صفوف العراقيين على اختلاف مذاهبهم وأحزابهم وفئاتهم؟ ثمّ إذا كان إطلاق الحوار الأمريكي ـ الإيراني حول العراق، مقابل تأزيم النزاع الأمريكي ـ الإيراني حول تخصيب اليورانيوم، ليس ذروة الحال السوريالية في موقف البيت الأبيض من المعادلات العراقية الراهنة، فأية حال أخرى يمكن أن تفوق هذه سورياليةً؟
للمرء أن يتذكّر، في هذه السياقات تحديداً، صورة سوريالية التقطها دويل ماكمانوس، الكاتب في صحيفة "لوس أنجليس تايمز" الأمريكية، بعد أسابيع معدودات من استكمال غزو العراق: ضابط في قوّات المارينز الأمريكية، وبعد دقائق من توغّل دبابات وحدته في قلب بغداد، قال حائراً: "ها قد وصلنا. نحن الكلب الذي اصطاد السيّارة. ماذا سنفعل بها الآن"؟ كان ذلك الضابط (الحصيف الواقعي المتشائم...) يعيد، على طريقته اليانكية، صياغة الحكمة الشهيرة التي أطلقها في مطالع القرن التاسع عشر كارل فون كلاوزفيتز، الضابط البروسي الشهير وأحد أعظم أدمغة التفكير في شؤون الحرب ومعضلات السلام الذي يلي الإنتصار العسكري: "في الحرب ليس ثمة نتيجة نهائية".
وفي مناسبة السنة الثالثة للغزون ثمّ ما دامت بلاغة هذه الأيّام تذكّر ببلاغة الأسابيع الأولى من اقتناص الكلب للسيّارة، فلنفتح من جديد بعض العناوين الكبرى في اللغة الخشبية التي انطلقت آنذاك وسادت وتسيّدت بعدئذ حتى خطبة بوش في بلدة ويلنغ، قبل يومين فقط: "العراق الحرّ سوف تحكمه القوانين، لا الدكتاتور. والعراق الحرّ سوف يكون مسالماً وليس صديقاً للإرهابيين أو تهديداً لجيرانه. والعراق الحرّ سوف يتخلي عن كلّ أسلحة الدمار الشامل. العراق الحرّ سوف يضع نفسه على طريق الديمقراطية"... ألم يكن، هذا العراق الحرّ ذاته، مرشحاً لاحتمالات صدوعات وكسور وشروخات وشقاقات وجرائم وتصفيات ومجازر وحرب أهلية؟ هل كان بلوغ الديمقراطية، أياً كانت، معبّدة الدرب إلى هذا الحدّ؟ ألم تكن معقدة شائكة محفوفة بمخاطر الردّة والارتداد والعصبوية والعشائرية والطائفية؟
تلك اسئلة نافلة آنذاك، ونافلة اليوم أيضاً!
كولن باول، وزير الخارجية السابق وسيّد الحمائم آنذاك، قال إنّ "ما يريده من العراق هو أمّة خالية من أسلحة الدمار الشامل، أمّة لها شكل تمثيلي في الحكم، تعيش بسلام مع جيرانها، لا تضطهد شعبها، وتستخدم ثروة العراق لصالح شعب العراق. أمّة لا تزال أمّة واحدة، لم تتشظّ إلى أجزاء مختلفة. ولسوف أضيف عنصراً ثانياً: مثال للمنطقة ولبقيّة أرجاء العالم. دولة مارقة ذهبت. مكان كان مصدراً للتوتر وعدم الإستقرار ولم يعد مكاناً للتوتر وعدم الإستقرار". تبارك الربّ، كما قد يهتف أمريكي مؤمن بأنّ غزو العراق كان رسالة سماوية إلى جورج دبليو بوش!
وزير الدفاع والقائد التنفيذي لفريق الصقور دونالد رمسفيلد، وبعد أن عدّد سلسلة أهداف عامّة تسعى إليها الإدارة من وراء احتلال العراق، اختصر الأمر في أعقاب سقوط بغداد على النحو التالي: "إعادة العراق إلى العراقيين"... ليس أقلّ! جيوشه على الأرض كانت منهمكة في إنزال أحمد الجلبي في الناصرية على حين غرّة (ونعلم اليوم ـ من خلال كتاب مايكل غوردن وبرنارد تراينر "كوبرا II: القصة المستورة لغزو واحتلال العراق"، الذي صدر قبل أيام ـ أنّ تلك الخطوة جرت من دون علم الساسة المدنيين، بمَن فيهم الرئيس بوش نفسه، ونفّذها الجنرالات كما يليق بأعرق الأنظمة العسكرتارية!)، وفتح شوارع البصرة وبغداد أمام اللصوص والمشاغبين وناهبي المتاحف والبيوت والدوائر الرسمية، وحراسة مبنى واحد وحيد في بغداد كلّها: وزارة النفط العراقية!
ينبغي أن تحضر، كذلك، جملة الأفكار الجيو ـ سياسية التي نظّر لها رهط المحافظين الجدد في غمرة تبشيرهم بـ "مشروع قرن أمريكي جديد"، والتي اختُصرت، وما تزال تُختصر اليوم، في ثلاثة أهداف استراتيجية على الأقلّ: 1) تحويل العراق إلى قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة وحيوية، تزيل عن كاهل أمريكا أعباء بقاء قوّاتها في دول الخليج، والسعودية بصفة خاصة، وما يشكّله هذا الوجود من ذريعة قوية يستخدمها الأصوليون لتحريض الشارع الشعبي ضدّ الولايات المتحدة وتشجيع ولادة نماذج جديدة من أسامة بن لادن ومنظمات علي غرار القاعدة؛ و2) السيطرة على النفط العراقي، التي تشير كلّ التقديرات إلى أنه الآن يعدّ الإحتياطي الأوّل في العالم، أي بما يتفوّق على السعودية ذاتها، خصوصاً احتياطيّ منطقة كركوك؛ و3) توطيد درس أفغانستان على صعيد العلاقات الدولية، بحيث تصبح الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، ومعظم أجزاء العالم في الواقع، مطلقة أحادية لا تُردّ ولا تُقاوم.
وثمة، أخيراً، حاجة إلى استعادة أجواء ما قبل الغزو العسكري، حين دلّت جميع المؤشرات على أنّ أمريكا ذاهبة إلى الحرب بالضرورة لأنّ بوش، كما قلنا وقال الكثيرون سوانا، كان بحاجة إلى هذه المغامرة العسكرية لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته من انحطاط حتمي، ومنحها المضمون الذي تبحث عنه منذ مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا، وتقوية حظوظه في ولاية ثانية. وما الذي كان قد رجّح كفذة بوش في الولاية الثانية، اكثر من هذا الرهاب والترهيب حول 11/9، وبن لادن، وإكمال المهمة في العراق، وإعادة المارينز إلى أحضان أمهاتهم وزوجاتهم!
وقبل يومين، في بلدة ويلينغ وأمام عيّنات تمثّل غالبية ناخبيه الذين منحوه الولاية الثانية، انساق بوش إلى المزيد من التفلسف حول العلاقة بين العراق والديمقراطية والتبشير الرسولي: "هنالك نقاش كثير يدور في العالم حول ما إذا كانت الحرّية كونية، أترون: ما إذا كانت...! ويأتيكم مَن يقول: ها هو العجوز بوش يفرض علينا قِيَمه! أنا مؤمن بأنّ الحرّية كونية. ومؤمن أنّ الانعتاق فكرة كونية. إنها ليست فكرة أمريكية، بل هي فكرة كونية. فإذا آمنتَ بهذا، فستشعر براحة غامرة وسعادة بالغة في أنك تساعد الآخرين على التمتّع بمنافع الحرّية. أنا أرى الأمر هكذا: هنالك الله القدير، وإحدى أعظم فضائل الله القدير هي الرغبة في أن يكون البشر أحراراً، وفي أن تسود الحرّية (تصفيق)، ولهذا على بلدنا أن يسأل ذاته: كيف نساعدكم في أن تكونوا احراراً؟ ماذا في وسعنا أن نفعل لنساعدكم في تحقيق نعمة الحرّية؟"...!
كأنّ أحداً، في بغداد أو كابول أو دمشق أو بيروت...، يتحرّق لهفة ليقول للرئيس الأمريكي: تحنّن علينا، باركك الله القدير! أو كأنّ بوش نفسه لم يتذمّر من عزوف العراقيين عن التمتّع بأطايب الديمقراطية الامريكية المستوردة، الملطّخة بالدماء، العابقة بالخراب، البادئة بالنهب! أو كأنه، هو نفسه وليس سواه، لم يحذّر ممّا هو خفيّ خلف السطوح الظاهرة، حين قال في خطبة ويلينغ ذاتها: "أقرّ على الفور أنّ قيام أو عدم قيام الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الأعرض مسألة إشكالية. سياستنا الخارجية في السابق كانت نوعاً من التالي: إذا بدت المياه هادئة، لا بأس. المشكلة أنه تحت السطح كان السخط يتخمّر، واستغلّه البعض لصالحهم، كما فعل الشموليون من أمثال القاعدة. لهذا بدّلت سياستنا الخارجية، وقلت إنّ الحرّية كونية"!
نعم، بدليل ما تظهره دماء العراقيين الأبرياء، كلّ يوم... كلّ يوم، من فارق قاتل بين ركود سطوح المياه، وما يغلي ويضطرم ويلتهب في الأعماق!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا: انقسام الجمهوريون وأمل تبعثه الجبهة الشعبية الجديدة


.. هل تتجه فرنسا نحو المجهول بعد قرار ماكرون حل البرلمان وإجراء




.. حزب الله.. كيف أصبح العدو الأكثر شراسة لإسرائيل منذ عام 1973


.. ترامب ينتقد زيلينسكي ويصفه -بأفضل رجل مبيعات-| #أميركا_اليوم




.. تصادم قطارين في الهند يودي بالعشرات