الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أخاديد الرحيل

سامية غشير

2018 / 7 / 7
الادب والفن


أمام منعرجات الحكاية، أمام تفاصيل النّهاية، كان يقف هناك في حديقة أحلامه، يلمّ شتات الأوراق المتساقطة ليخطّ على صفحاتها تاريخا من الأمنيات المشرقة و الرّغبات المزهرة، استدار قليلا و تأملّ المارّة و في داخله نشبت حرائق العتاب و الألم تلتهب أكثر فأكثر حتى تكاد تحرق أنفاسه و جسده، ثار على الوضع يؤنّب اللّحظات المسروقة منه.
كنت هناك... هناك... و فجأة تستعمره دموع الخيبة كالغيث تملأ المكان لحنا حزينا.
امتطى هودج الذّكريات و حطّ فراغات اللّهفة إلى ذكرياته الماضيّة حيث كان يقيم جسور الحبّ و الأمل و الرّغبة. كنت أملك كل شيء... و الآن أنا لا شيء.
كانت أحلامي كبيرة قدر السّماء و روحي منتشيّة بعبث الحياة، كنت أمضي معظم أوقاتي مع الكتابة و كان القلم يغازلني بين الفينة و الأخرى يدعوني إلى طقوس أناجي فيها الحروف و أرتشف عبقا جميلا و أنام على مقطوعات تراكيب نسلتها غراميات الحياة.
كانت أمّي كالملاك تدلّلني كفراشة حانية فأتوقدّ و أنا بين حضنها عطرا فوّاحا و هي تنشدني تحف صوتها الرّنان السّحري.
كنت أملك كل شيء، أصدقائي الذّين أتسامر معهم في ليالي الفرح، كنّا حينها نقيم أمسيات الزّهو، و أكثر شيء عشقته في حياتي حبيبتي " دعاء"، ساحرتي أو كاسحة المستحيل كما ألقبّها، كانت حياتي، عمري كلّ ذكرياتي.
مضت الأيّام متثاقلة و كأنّها تخبأ في دفاترها حكايات تراجيديّة و حلّ يوم جديد، كان الفتى " غسّان" يجمع حروف أحلامه في كتاب سمّاه " أجنحة حالمة"، و الفرحة تغمره: قريبا سأنهي كتابي الأوّل، كم أنا سعيد.
تقدّمت إليه خطيبته " دعاء" و هي مبتهجة: مبروك حياتي، سأساندك بروحي و أنفاسي، سأقف خلفك و أمنحك تعويذة النّجاح، قريبا سنكون معا في عشّنا الزّهري. كم أنا شغوفة لتلك التّواريخ الجديدة التي سنخيط فيها من ضوء سحر حبّنا وشاحا نحتمي بين جنباته كطائرين مغردّين نسجا من اللّازورد، سأحبّك دائما...
ذات يوم أصبت بوعكة صحيّة نقلت على إثرها المستشفى، فطلب منّي الطّبيب عمل تحاليل طبيّة، كنت أظّنها توعكّات بسيطة فقط ستزول بعد وقت قليل، لكن كانت مفاجأة لي، تكلّم الطّبيب و علامات الحسرة على محيّاه: أنت مصاب بمرض سرطان الدّم، لم يبق أمامك غير أشهر قليلة للحياة، مرضك للأسف مميت؛ لأنّه في مراحل متقدمّة جدّا.
تساقطت كلماتي قبل عبراتي، و تاهت عيناي تفتشّان في جوهر ما قال الطّبيب، و بان المكان قاتما كئيبا ماذا السّرطان؟ السّرطان؟
نزفت ألما و دما، و هرولت مسرعا، تائها في الطّريق و السّيارات تراقبني فلولا ستر اللّه لمت قبل الأجل. عدت إلى البيت أشعر بجموح الهزيمة، و رحت أخرج دفتر مذكراتي لأخطّ تفاصيل النّهاية و تفاصيل سميتها " منعرجات النّهاية"، نظرت إلى روايتي بحسرة فرأيت الحروف تتصارع فيما بينها و تناجيني حتى أرتحل إلى عوالمها و أخفّف عنها بعض من وجعها.
على ضفة الجرح اغتسلت بعبرات بوحي، لما أنا؟ لما أنا؟ ماذا سأفعل يا ربّي بأحلامي و نشوة مستقبلي " دعاء" ماذا سيحلّ بها؟
اتصلت بها هاتفيا و اتفقنا على موعد اللّقاء، التقينا في حديقة كنّا نتخذها فضاء شاعريّا للقاءاتنا السّاحرة جاءت فاتنة كعادتها، نظرت إليّها بيأس كعجوز فقد بريق شبابه و قلت بصوت هامس: " دعاء" يجب أن ننفصل.
- ما بك " غسّان"؟ هل جننت، كيف ننفصل؟ لم يبق على زواجنا غير شهرين.
- قلت سننفصل و كفى.
- مابك؟ ماذا أصابك؟ أجبني.
و مع إلحاح " دعاء" على معرفة سبب الانفصال، تكلم " غسّان" بسرعة: أنا مريض بالسرطان، و سأموت بعد أيام قليلة.
قالت " دعاء" و هي مصدومة: أنت تمزح؟
- لست أمزح، إنّها الحقيقة.
تصاعدت عديد الأسئلة القلقة إلى عينيّ " دعاء" ثمّ ذهبت مسرعة تجرّ خطوب الهزيمة و الانكسارات.
حلّ المساء حزينا بعد أن وهب سحر اشراقته للغروب، و مدّ " غسّان" كفيه لعلّ تسكب فيهما تعاويذ الأمل و نظر أمامه فلم ير سوى حدائق الظّلال و كراسي تغادر مرتع الدّلال بعد أن فارقت شجن الأصيل معلنة حدادها و استسلامها.
ركن إلى غرفته و بعد لحظات جاءته رسالة من " دعاء" تعلن فيها انفصالها عنه، و تعيد خاتمه الذّي وهبها إيّاه بكلّ حبّ و صدق.
أيتّها الزّهرة اليافعة التي منحتها كلّ ندايا، أيتّها الرّيحانة الآسرة التي وهبتها سحر اللّقاء، الآن بعتني لمّا حلّت مقصلة روحي تعتصرني، تعذبني، تصارعني في حلبة الحلم المستحيل، ما أقساك من نفس!
تأملّ ملامح روايته من جديد، و جلس أمام شرفة نافذته ينظر إلى النّجوم و هي تغمر السّماء حبّا و ياسمينا ثمّ سرعان ما تراخى الأفول يحجب غرفته فأدرك حينها أنّ هذه الشّرفة تحمل يقينه المحتوم.
مرّت الأيّام تختمل دلعا أمام محرقة أحلامي، هجرتني حبيبتي، هجرني أصدقائي، هجرتني الكتابة أضحيت كفراشة مصلوبة على أوتار الزّهر المعذّب، احترقت فعلا مثلها في شرنقة الوجع، و وميض الجرح يضيئني بلا رحيل.
كانت أمّي هي بلسمي و موقدة أفكاري بكلماتها العذبة الصّافية صفاء البحر: يا بني لا تحزن، عسى أن تحبّ شيئا و هو شرّ لك، و عسى أن تكره شيئا و هو خير لك. كن صبورا و ضع ثقتك الكاملة باللّه ستنتصر.
كم هي معادلات الحياة موجعة، كم هي قوانين الطّبيعة صعبة، هذه حياتي كثلة من الجراحات، اغتسلت رذاذا سخيّا من الوجع، أحرقتني اللّحظات الصّاخبة بلهيبها، فصرت أسير رعشة الفناء.
نهضت من زوبعة ذكرياتي الماضيّة و أعدت تلك الأوراق إلى مكانها بعد أن كتبت عليها بحبر آهاتي لكن صوت الأمل ما زال يعشعش في سماواتي عارضا عليّا معاهدة صلح.
جمعت إشعاعات روايتي " أجنحة حالمة" التي كسوتها بعبق الألق و العنفوان، الآن سأصير كاتبا عظيما.
انغمست في طقوس لذّة الكتابة و أكملت الرتوشات الأخيرة منها، ثمّ تمدّدت على مساحاتها الهيفاء أقتنص بهجة و عطاء. الآن أنا أسعد شخص بالعالم، شكرا يا إلهي، شكرا يا أمّي، شكرا...
جاء اللّيل مغرّدا و في مقلتيه تسامرت و تلاقحت حكايات الأمل و التيه اللّذيذ، نظر " غسّان" إلى الأوقات المارّة قائلة: توقفي، الآن هزمتك، ثمّ ارتسمت على شفتيه ابتسامة النّصر، ثمّ امتطى دروب المستحيل معلنا حربه على السّاعات التي لاحت للحلول.
مرّت عدة أشهر انتهى "غسّان" من كتابة روايته رواية حلمه الكبير، و ألوان البهجة تعطّر حنايا روحه: الآن شارفت على النّهاية، سأرحل الآن تاركا ورائي أحلامي السّاحرة. ثمّ لاحت على شفتيه دمعة الفرح، نظر إلى الأفق يسأله عن آخر رسائله و أمنياته، ثمّ تهاوى كالموج الأسمر على معابر الذّاكرة.
مرّت ستة أشهر و حان موعد إعلان جائزة أحسن عمل إبداعي روائي، أعلن اسم الفائز إنّه " غسّان" الكلّ يسأل عنه، و ينادي عليه لكنّه غير موجود.
تقدّمت والدته إلى المنصّة و السّعادة تملأ وجهها: أشكركم جزيل الشّكر على هذه الجائزة العظيمة، كنتم تسألون عن ابني، سأجيبكم ابني غادر الحياة منذ ستة أشهر، كان يتطلّع بشغف إلى هذا اليوم السّعيد ترك هذه الأمنية الوحيدة المتمثّلة في روايته، إنّه شاب مفعم بالنّجاح و الطّموح، تحدّى وجع السّرطان و احتراق الكآبة و غبن الهزائم بدفء الكتابة، لقد ترك لكم هذه الرّسالة.
الآن
أقف على معابر ذاكرتي
أراقب اغتراب أزمنتي
و جرحا تعربد في أوردتي
و خريفا جاء حزينا في أرصفتي
و أنينا أشرق في مخيلتي
سأتحدّى تلك الرّيح التي أرهقتني
و الشّطآن التي مزقتني
سأكون قارب حلم في صبوتي
سأكون مواسم من زهر
يتغنّج، يتدلّل، يتناسل على صفوتي
سأنثر حروفا من لازورد المستحيلات
و أنير بها محراب الانكسارات
و أعود كالوليد لحضن أمّي
لأعزف على تجاويفها
رذاذ جموح أحلامي
التي ستضحك بعيدا
في مواسم الرّحيل
و أكون كالوميض المنتشي
ارتفعت التّصفيقات من قبل الحاضرين، الذّين وقفوا وقفة احترام و جلال لروح ذلك الشّاب الهارب من أزمنة الصّقيع.
... الآن سأنام سعيدا على تحف فتوحات أحلامي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع