الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التكريم - قصة قصيرة

أحمد اسماعيل اسماعيل

2006 / 3 / 25
الادب والفن


طرقات متتالية وقوية تنزل على باب دارنا، فينتفض لها جميع أفراد العائلة، تاركين فرشهم لينتصبوا في فناء الدار، وقد استولى عليهم الخوف والذهول، وكأني بهم في حضرة شيء غريب ومخيف.
-من عساهم أن يكونوا؟ وفي هذا الهزيع الأخير من الليل ماذا يريدون؟؟ كان هذا السؤال الأوحد الذي شغل بال الجميع، وإن لم تنبس به شفة.
ازدياد الطرق على الباب، وبإلحاح شديد، جعل كل النظرات التي غشاها الفزع تلجأ إليَّ –مستفهمة ومستغيثة- أنا رجل البيت وعماده، لكن الخوف الذي استيقظ لتوه في داخلي، خوفي أنا، كان قد شل حركتي تماماً، وعقد لساني بألف قيد، ويبدو أن أبي العجوز قد يئس من استيعابي للموقف فبادر هو واتجه صوب الباب ليفتحه، سأل بخوف:
-مـ…ـن؟
فأتاه أكثر من صوت مجيباً:
-نحن.. افتح بسرعة و..إلا.
وما إن مسَّ والدي مفتاح الباب وسحبه، حتى اندفع إلى الداخل ثلاثة من رجال الشرطة، وكأنهم وحوش كاسرة، وعلى الفور اتجهوا صوبي، وضعوا السلاسل في يدي ثم دفعوني بعنف، وفي الخارج حشرت في سيارة جيب عسكرية سرعان ما انطلقت بنا كالبرق.
توقفت السيارة أمام بناء لم أره في حياتي قط، قذف بي الرجال من داخل السيارة، ثم دفعوني إلى داخل البناء. أغلقوا الباب عليّ ورحلوا، فوجدت نفسي وأنا أسير وحيداً في ممر طويل وغريب، كانت جدره وأرضيته وسقفيته كلها من المرايا العاكسة، وكلما سرت فيه أكثر وأمضيت في التقدم، وحيث يممت وجهي، أجد صورتي وقد اتخذت أشكالاً مثيرة للفزع والقرف الشديدين.
انتهى بي السير في هذا الممر إلى باب عريض بعض الشيء؛ له شكل مهيب وجليل. طرقته بتردد وخوف. أتاني الجواب بأن أدخل، فدخلت. كانت الغرفة خالية تماماً من أي أثاث، بينما رجل يجلس خلف طاولة وقد غرز نظراته في سجل أسود ضخم، حييته، رفع إليّ وجهاً متجهماً حاد القسمات، لم يكن غريباً علي، ولكنني لم أتعرفه. أخذ يتفحصني بعينين تقدحان شرراً، وبعد صمت استطال لثقله، تبادلنا خلاله النظرات، راح يحاصرني بأسئلة، بل باتهامات كانت كالأنشوطة تلتف حول عنقي شيئاً فشيئاً، ووجهه خلال ذلك يتبدل ويتعدد ليتخذ صورة أناس أعرفهم ولا أعرفهم، وأنا مستلب تماماً، مأخوذ ومرعوب، وأخيراً قال لي وهو يصر على أسنانه:
-أنت دودة: دودة قذرة.. ويجب أن تسحق كدودة.
وبكل برود وإصرار قام من خلف طاولته، رماني أرضاً، ثم أخذ يطأني بقدمه. أطلقت صيحات النجدة والاستغاثة، وهو يمعن في سحقي بلا رحمة ولا شفقة، وأنا من شدة ألمي أستغيث وأصرخ، وقدمه كجبل هائل تجثم فوقي، تضغط وتسحق جسدي حتى.. حتى وجدتني أفتح عيني مرعوباً على صياح زوجتي تصرخ فيّ:
-نوري.. نوري.. قم يا رجل. أنت تحلم وبابك يكاد ينخلع من شدة الطرق عليه.
حقاً، كان توالي الطرق القوي على الباب لحوحاً ومزعجاً، فاتجهت بسرعة لأفتحه، وأنا مصمم –من شدة حنقي- أن أمسك بخناق هذا الطارق المجنون. فجأة، وقبل أن أمس قفل الباب، أحسست بقدمي وقد تسمرتا في مكانهما.. مالي يا رب؟! أهو الخوف يستيقظ في داخلي مرة أخرى.. أم ماذا؟؟.
تلفتّ حوالي مرعوباً ومستغيثاً، لعل والدي يبادر فيفتح الباب، أو فلتبادر أمي، أو زوجتي.. أو حتى طفلتي هناء.. لا يهم، المهم ألاّ أفتحه أنا، إلا أن ازدياد الطرق على الباب جعل والدي يصيح فيّ:
افتح يا ولدي.. ما بك! ألازلت نائماً؟
وما إن مسست قفل الباب وسحبته، حتى اندفع إلى داخل الدار ثلاثة رجال فبادرني أحدهم قائلاً:
-لماذا تأخرت يا سيد نوري؟ إنهم بانتظارك. هيا.
-بانتظاري؟! من؟
سألتهم كالمصعوق، فلم أتلق جواباً، ولست أدري سبباً لذلك. أهي حالة العجلة والإرباك التي هم فيها، فلم يصلهم صوتي، أم هو الخوف خنق صوتي، فلم تنبس شفتي بحرف.
صعدت إلى السيارة بعد أن ارتديت ثيابي على عجل، وأنا نهب لجيوش من الأسئلة والهواجس المقلقة: (من هم بانتظاري يا ترى.. أيعقل أنهم كشفوني.. أبهذه السرعة؟!). تمنيت لو أستطيع أن أسألهم عمّن ينتظرني.. ولماذا؟ ولكن إحساسي بالخوف وبالخجل منعني فصمت، لكن هواجسي لم تصمت بل ظلت تصرخ وتنبح في داخلي:
(أيعقل أن قسم المراقبة والتفتيش قد قدم من العاصمة، ممكن.. يجوز.. ولم لا إن صح ذلك يا نوري يا أبو العز وجاءت اللجنة. فإنها والله نهايتك، ويا لها من نهاية، ستخرج وحدك -بعد التدقيق- من المعمل إلى السجن مباشرة، وربما إلى حبل المشنقة، لأنك ستكون المزور والحرامي الوحيد في هذا المعمل كل المصائب ستقع على رأسك، أما أولئك الذين صار لهم سنوات وسنوات وهم ينهشون و(يهبشون)، يزورون في الحسابات،يدخلون بضاعات وهمية، يخصمون من ساعات عمل العمال، و.. و.. فلن تطولهم يد طبعاً. بل ستحمل وزرهم أنت، أنت وحدك.
ومديرك المحترم سيخرج هو أيضاً- بعد أن ورطك- مغبوناً وطيباً جداً، فهو ابن حرام مصفى، يلعب على مائة حبل ولا يقع، ولن يبقى وقتها في الميدان غيرك يا(حديدان).. آه يا رب، ما هذه الورطة، كيف الخلاص الآن..))
-أبا النور.. يا سيد.. ألا زلت نائماً -تفضل.
هزني أحدهم من كتفي وهو يدعوني للنزول من السيارة والتي توقفت أمام باب المعمل.
ما إن ترجلت وسرت بضع خطوات باتجاه مكتب المدير، حتى هالني منظر هذا الجمع أمامه، أحسست بخدر وثقل في قدمي، كان الخوف قد تملكني تماماً، الخوف: هذا الوحش الذي أحال حياتي إلى جحيم لا يطاق، وذلك بعد أن أعطيت ضميري إجازة أبدية- كما نصحني السيد المدير، ورحت أسايره وأنفذ كل ما يطلبه مني، مثلي مثل آخرين غيري.
-الأخ نوري.. أهلاً. تعال .. تفضل إلى هنا.
تلفت ناحية الصوت فإذا بمديرنا يدعوني إلى صعود المنصة، وقد تربع عليها هو وهيئته الإدارية، وابتسامة متزلفة من تلك الابتسامات التي يصطنعها المسؤولون في المناسبات قد رسمت بإتقان على شفتيه. وما إن صعدت إلى المنصة وتكورت على كرسي، حائراً مضطرباً، حتى وجدت السيد المدير يتقدم من (الميكرفون) وهو يستل من جيبه ورقة، وبعد نحنحات وحمحمات قصيرة، فض ورقته ثم راح يخطب في جموع العمال المتجمهرة أمام المكتب. بداية، هنأ العمال بيوم عيدهم، الواحد من أيار، والمصادف اليوم، ثم حثهم على المزيد من التفاني في الإنتاج من أجل رفاهية المواطن وتقدم الوطن، كما تحدث عن الأهمية الوطنية لعملنا في هذا المعمل، والذي يقدم خدمة جليلة للشعب، ولم ينس أن يهاجم الإمبريالية العالمية شارحاً لهم دورها القذر في إفقارهم ونهب الأوطان و.. و الخ، ثم قال:
-يا عمالنا الأعزاء، أيها الأبطال، وكما اعتدنا أن نكرم في هذا اليوم المبارك من كل عام أحد المبرزين من عمالنا، أحد الذين وهبوا أنفسهم لخدمة الإنتاج وتطويره، أحد الذين عرفنا فيهم الإخلاص والتفاني، فإننا كإدارة، وبترشيح من وحدتكم النقابية، وباسمكم جميعاً، وجدنا أن نكرم، هذا العام، السيد نوري أبو العز.
ولم أدر ماذا حصل بعد ذلك، ولا كيف انتهى الاحتفال في ذلك اليوم. لكن ما إن قلدني السيد المدير الوسام، حتى تحلق حولي جمع من الحضور مهنئاً ومباركاً، وأنا وسطهم مذهول وموزع بين التصديق والتكذيب لما يجري، ويدي ترتفع آلياً ليشد عليها المهنئون والمباركون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بسبب دهس سيدتين


.. كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال




.. هنا صدم الفنان عباس ا?بو الحسن سيدتين بسيارته في الشيخ زايد


.. إيران تجري تحقيقا في تحطم المروحية.. وتركيا تتحدث عن رواية ج




.. ضبط الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في الشيخ