الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
مغزى الإنتصارات في أميركا اللاتينية ودلالاتها
موريس نهرا
2006 / 3 / 25اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
ظاهرة النهوض التحرري الديمقراطي اليساري ونجاحاته في أميركا اللاتينية، ترتدي أهمية كبيرة لا تقتصر على تلك المنطقة، بل تتصل أيضاً بمضمون الصراع العالمي الجاري بين المنحى السائد للعولمة الرأسمالية المتوحشة والمتأمركة، وبين قضايا الشعوب ونضالها دفاعاً عن مصالحها الوطنية والديمقراطية والإجتماعية. ولا يمكن النظر إلى هذه الظاهرة بمعزل عن المسيرة التاريخية لتلك الشعوب. فبعد نضال قاس وطويل للخلاص من السيطرة الإسبانية، ومع أفول هذه السيطرة في أواسط القرن التاسع عشر تقريباً، أخذت تبرز مطامع وتدخلات الولايات المتحدة الأميركية في بلدان تلك القارة لإحلال سيطرتها بديلاً عن السيطرة الإسبانية، ومنعها من بلوغ إستقلالها الفعلي.
وقد رأى القائد والمحرر، الفينزويلي سيمون بوليفار هذه المطامع بصورة مبكرة عندما قال عام 1828 "إن قوة صاعدة في الولايات الشمالية ستأكل الأخضر واليابس وتنشر الجوع وسط شعوبنا بإسم الحرية." كما أن المفكر والقائد الكوبي خوسيه مارتي، قد حذر من مطامع الولايات المتحدة وخطرها، قبل أن يستشهد في العام 1895 في معركة نضالية تحررية في سانتياغو دي كوبا. وبالفعل فإن الولايات المتحدة اعتمدت نهج اليد الطليقة لبسط سيطرتها على بلدان أميركا اللاتينية، واستمرت بإستخدام كل الوسائل لمنع تفلت تلك البلدان، ومنها العدوان العسكري المباشر والمكشوف، كما جرى على سبيل المثال في غواتيمالا عام 1954، ومحاولة الغزو الفاشلة ضد كوبا في خليج الخنازير عام 1961، والدومينيكان في السبعينيات، وجزيرة غراناد الصغيرة في أوائل الثمانينيات، وبعدها جمهورية بنما عام 1986... الخ. بالإضافة إلى أشكال التدخل الأخرى كإحداث إنقلابات وتنصيب أدوات وديكتاتوريات عن طريق الإستخبارات C.I.A كالإنقلاب العسكري ضد الرئيس البرازيلي المستقل، غولار، عام 1964، وإغتيال سلفادور الليندي عام 1973 الذي وصل إلى الرئاسة في تشيلي بإنتخابات ديمقراطية، وإغتيال رئيس أساقفة سان سلفادور، أوسكار روميرو، وهو يلقي عظة على مذبح كنيسة العاصمة، وكان يدعو إلى رفع الظلم والجوع عن الفقراء، ولتحقيق قيم العدالة وحق الإنسان، تمشياً مع لاهوت التحرير في كنيسة أميركا اللاتينية.
وإن هذه الحالة من القهر والتسلط، والفقر، قد أوجدت طموحاً مشتركاً أو متماثلاً لتلك الشعوب، برز في إنتفاضات وأهداف قادة ومناضلين كبار في تلك القارة، وفي التعاطف والزخم الشعبي اللاتيني الكبير مع الثورة الكوبية. ولم يكن تحول القائد الشهيد أرنيستو تشي غيفارا إلى بطل ثوري شبه أسطوري، وإلى رمز كفاح تلك الشعوب من أجل حريتها وحقها في الحياة الكريمة، سوى التأكيد على ذلك.
أما الستراتيجية الأميركية الساعية لصياغة العالم وفقاً لمصالح إحتكاراتها الضخمة، بعد سقوط التوازن الدولي الجديدة، تستخدم كل الوسائل من الضربة والحرب الإستباقية، إلى "الديمقراطية وحقوق الإنسان". ولعل النيوليبرالية لا تحتاج بالضرورة، ودائماً، إلى ديكتاتوريات مكشوفة، لكنها ووصفات صندوق النقد الدولي الخادمة لها، كشفت بالتجربة، ليس عدم ملاءمتها لحل الأزمات والمشكلات فقط، بل وأن فرضها الخصخصة وفتح الأسواق لسيطرة الأقوى وإفلاس الأضعف، حولت فئات جديدة كانت ميسورة نسبياً ومالكة لمؤسساتها، إلى مجرد خدم لأصحاب الشركات الخارجية الكبرى ورأس المال المعولم. فبقيت الأزمات وتفاقمت، اتسعت البطالة ورقعة الفقر، وتنامت المديونية والتضخم النقدي، وتعمقت التبعية.
أما بشأن الديمقراطية، فقد كشفت الممارسة شكليتها واستخدامها كقناع، ليس لكونها فاقدة المضمون الإقتصادي والإجتماعي فقط، بل ولأنها عندما تتحول، حتى في إقتصارها على المجال السياسي إلى فرصة لفوز تيار يرفع شعارات التحرر الوطني والسيادة والإستقلال الحقيقيين، والإصلاح الإقتصادي والإجتماعي، تنزع أميركا قناع الديمقراطية عن وجهها، وتعود إلى جوهر سياستها المعادية للنهج الإستقلالي وللقوى الديمقراطية، وتلجأ إلى كل الوسائل لإسقاط هذه القوى رغم صعودها إلى السلطة عن طريق الديمقراطية والإنتخابات. هذا ما يظهر واضحاً في عداء إدارة بوش للرئيس الفينزويلي هوغو تشافيز، الذي يمثل أمل فقراء فنزويلا البالغة نسبتهم حوالي 80% من شعبها، والذي وصل إلى الرئاسة بدعمهم ومساندة القوى اليسارية، وبحماية الجيش الذي أتى من صفوفه.
وفي ظل حماوة الصراع مع الرجعية الداخلية وضغوط إدارة بوش، يزداد نهج تشافيز جذرية وقوة بين الجماهير الفقيرة، التي ملأت شوارع العاصمة كراكس، وأفشلت الإنقلاب العسكري الذي دبرته الإستخبارات الأميركية، وأعادت تشافيز إلى سدة الرئاسة.
وبسبب هذه السياسية الأميركية العدائية، يرتدي وصول قوى استقلالية وديمقراطية يسارية إلى السلطة، طابعاً صراعياً مكشوفاً مع الإدارة الأميركية، حتى وأن تفاوتت إمكانيات وبرامج هذه القوى، وعلاقتها بموازين القوى داخل بلدانها. فنجاح لولا في البرازيل، وكيشنير في رئاسة الأرجنتين، ويسار الوسط في الأورغواي، وتشيلي، وفوز الرئيس إيفو موراليس الآتي من أصول هندية، ومن موقع نضالي نقابي وجماهيري، في بوليفيا ـ إحدى أفقر بلدان أميركا اللاتينية، التي استشهد على أرضها أرنيستو تشي غيفارا، عام 1967، يشكل دليلاً يؤكد أن مساراً شعبياً صاعداً يشق طريقه وسط صراع وتحديات كبيرة، قد تحدث فيه بعض إنتكاسات، لكنه يتواصل بزخم واندفاع، مستفيداً أيضاً من انشغال الإدارة الأميركية وتعثر احتلالها في العراق، ومن الصعوبات وحالة الممانعة والإعتراض، التي يواجهها مشروعها (الشرق الأوسط الكبير) في منطقتنا.
ويمكن القول أن هذا المناخ الشعبي المذكور، يبنئ بإحتمال فوز المرشح "أومالا" في الإنتخابات الرئاسية القريبة في البيرو، وهو أيضاً من أصول هندية، وموقع إشتراكي. كذلك الأمر لمرشح الحركة السندنية دانييل أورتيغا. وهذا الإحتمال ليس بعيداً عن المرشح للرئاسة في المكسيك لوبيز أوبرادور، (يسار الوسط)، الذي في حال إنتصاره، تصبح البلدان الأساسية في أميركا اللاتينية في إتجاه سياسي وطني وديمقراطي متقارب، ومواجه بقوة أكبر، إدارة بوش وممارستها حيال شعوب وبلدان أميركا اللاتينية.
إن التحديات والمشكلات التي تواجهها تلك البلدان التي انتصرت فيها القوى الديمقراطية اليسارية في الإنتخابات، تجعل تعاونها والتنسيق فيما بينها حاجة وضرورة، سواء في المجال الإقتصادي وإنعكاساته الإجتماعية، أم في مواجهة الضغوط والتدخلات الأميركية الشمالية، وهذا ما تجلى في إقدام عدد من بلدان أميركا الجنوبية. (البرازيل والأرجنتين والأورغواي والباراغواي وفينزويلا، ثم بوليفيا وتشيلي ـ انضمتا أو أنهما قيد الإنضمام) على إنشاء سوق الجنوب المشتركة (مركوسور). والجدير ذكره أن بلدان الجنوب قد واجهت وأفشلت منذ أشهر فقط، مشروع إدارة بوش، الرامي لإيجاد أكبر سوق حرة في العالم لصالح إحتكاراتها، تمتد من ألاسكا إلى جنوب الأرجنتين.
فبلدان الجنوب هذه، تطمح لتجسيد شخصيتها ومصالحها الأساسية الوطنية والإقتصادية ـ كما أن فينزويلا، وكوبا، والبرازيل، اتفقوا على إنشاء قناة تلفزيونية تمثل صوت شعوب أميركا اللاتينية وقضاياهم ومصالحهم، في وجه السيطرة الإعلامية الأميركية شبه الكلية على الإعلام العالمي، الذي يمارس تأثيراً كبيراً على الوعي، وفي تشويه الحقائق.
ولا بد هنا من الإشارة إلى الدور البارز الذي يقوم به الرئيس تشافيز، الذي يبدو كزعيم أميركي لاتيني سواء في علاقاته مع رؤساء وقادة عديدين بينهم الرئيس فيديل كاسترو، أم في دوره وما يقدمه من تسهيلات لبلدان أميركية لاتينية ببيعها بترول تحتاج اليه، ومن بينها كوبا، بأسعار السوق، ولكن بآجال طويلة وتسهيلات بالدفع. كما اتخذ تشافيز مبادرة ببيع طاقة للتدفئة بأسعار مخفوضة لفقراء ماساشوستس ونيويورك.
إن الأهم في مغزى ودلالات هذا النهوض والإنتصارات المذكورة في أميركا اللاتينية يتلخص بالتالي:
إن الرضوخ للولايات المتحدة الساعية للهيمنة على العالم ليس قدراً، حتى في المنطقة التي كانت تعرف بالحديقة الخلفية للبيت الأبيض. وقد قدمت هذه النجاحات تأكيداً جديداً وإضافياً للمثال الذي شكله صمود كوبا وثورتها، رغم حصار إقتصادي مستمر منذ 45 سنة. مما يعزز ثقة الشعوب بقدرتها على الإنتصار.
إن مقولة نهاية التاريخ التي تحدث عنها فوكومايا بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي ليعمم نظرية الإنتصار النهائي للرأسمالية وخلودها، قد أتت هذه الإنتصارات وآفاقها المفتوحة على تغييرات أكثر عمقاً وجذرية، لتكشف عدم صحتها، حتى لو لم تصل بعد هذه القوى الديمقراطية اليسارية المنتصرة، إلى طرح تغييرات ومهمات تتخطى الطابع الرأسمالي لتلك الأنظمة.
إن حركة النهوض التحرري وإنتصاراتها رفضاً للسيطرة الخارجية، والأنظمة الديكتاتورية والقمعية، وحالة البؤس والفقر، جسدت المسار الموضوعي الذي تترابط فيه قضية الإستقلال والسيادة الوطنية، مع قضية الديمقراطية وإطلاق الطاقات الشعبية، ومع المضمون الإجتماعي. مما يؤكد التلازم بين الوطني والديمقراطي... فأية شعارات وطنية ترفعها أنظمة أو حركات تعتمد القمع وتحرم شعوبها من الديمقراطية، تنتهي إلى المساومة مع الخارج أو العجز والهزيمة أمامه. وإن تسويع القبول بالسيطرة الخارجية بإسم شعار الديمقراطية، هو أمر يحمل الكثير من الأوهام أو الخداع.
إن الحملة العدائية الأميركية ضد قوى وصلت إلى السلطة بالإنتخابات، وبحضور مئات المراقبين وممثلي وسائل الإعلام الأجنبية، واعتبار إدارة بوش مؤخراً، إن كاسترو، وتشافيز، وموراليس، هم محور الشر في أميركا اللاتينية، يكشف بوضوح قاطع زيف الإدعاء الأميركي بالحرص على الديمقراطية وتعميمها في العالم. وهذه السياسة الأميركية هناك، هي نفسها في منطقتنا، وان اتخذت أحياناً اشكالاً أخرى. فاستخدام الأساطيل والدبابات لتصدير "الديمقراطية" إلى العراق، ولجوء الإحتلال الأميركي بعد تعثره فيه، إلى تأجيج نزاعات مذهبية خطيرة قد تصل إلى حرب أهلية، والتحريض على محاصرة "حماس" وحرمان الشعب الفلسطيني من المساعدات المادية المعتادة، مع أنها فازت في الإنتخابات. كل ذلك والكثير من الأمثلة، وأقلها ما جرى ويجري في سجن غوانتانامو وأبو غريب وسجن أريحا، بإدارة وإشراف السلطات والأجهزة الأميركية، لا يترك مجالاً للإنسياق وراء خدعة الديمقراطية الأميركية الموعودة، إلا للذين يفضلون أن يخدعوا أنفسهم.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. شاهد حجم الدمار الهائل الذي أحدثه إعصار ميلتون في أنحاء فلور
.. استراتيجيات جديدة.. كيف تعتزم إسرائيل إرباك إيران عسكريا؟
.. تقديرات إسرائيلية أولية بإطلاق أكثر من 20 صاروخا باتجاه خليج
.. سفن حربية تركية تبدأ إجلاء رعايا وأجانب من بيروت وسط الغارات
.. صحة غزة: استشهاد 63 شخصا جراء غارات الاحتلال على مناطق متفرق