الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يمكن الحديث عن فلسفة عمومية ؟

أم الزين بنشيخة المسكيني

2018 / 7 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


ثمّة هشاشة مفزعة تصيب فضاءاتنا العمومية اليوم في حضارة العولمة حيث يُباع كلّ شيء ويُشترى، من أصوات الناس الى عقولهم وأقدارهم، في ورشة الاتّجار بالبشر كآخر معاني العبوديّة الجديدة في دول لم تعد تتقن لعبة صيانة حدودها ورعاية كرامة شعوبها. في هذا المختبر الكبير لبرنوغرافيا البؤس المعمّمة، ينحدر الفضاء العمومي نحو مفارقة عجيبة : من جهة يتمّ تسطيح نسقي للعقول والأذواق بأنماط من ثقافة البهرج الإعلامي سيطرت على الشاشة الصغيرة منذ سنوات واستفحل أثرها لدى عامّة الناس شبابا وشيبا. ومن جهة أخرى، استفحل الكهنوت المتزمّت وطفق في اكتساح قلوب الناس وإرساء أشكال من الوصاية عليهم، عبر قنوات إعلامية تتكاثر وتتعالى فوق أصوات الناس وآلامهم الحقيقية كلّ يوم. في هذه الأرجوحة المثيرة للدوار، تجد الفلسفة نفسها في أزمة حقيقيّة لأنّه لا أحد ينتظرها في أيّ مكان. فهي المتّهمة سلفا منذ زمان قديم بإفساد الشباب، وبعدم الاعتراف بتقاليد المجتمع وطقوسه الرمزيّة، قد صار وجودها بلا جدوى عند بعض أعدائها، وهي خطيرة ومزعجة ووجب تكفير المشتغلين عليها عند البعض الآخر. لكنّ هذا الأمر ليس جديدا على ثقافة اغتالت خلفاءها الراشدين، واتّهمت فلاسفتها بالزندقة، وأعدمت حتىّ المتصوّفة من أهلها. ثمّة ضرب من التوتّر التاريخي الذي عاشته الفلسفة مع مؤسّسة الكاهن ورجل الدين بشكل عامّ. فكيف يمكن للفلسفة أن تستعيد الكلمة اليوم في فضاء عمومي كلّ يرغب فيه في الكلام؟ وكيف التمييز حينئذ بين الكلام والضجيج؟ سقراط قضّى حياة كاملة، بتعبير مارلوبونتي، وهو يعلّم سكّان أثينا الفرق بين الكلام والضجيج. هل نحتاج الى سقراط جديد في ديارنا؟ وكيف يمكن للفلسفة أن تكون عموميّة أي متاحة للعموم دون أن تسقط في الابتذال وغوغائيّة المهرّجين ؟
من أجل معالجة هذا السؤال علينا الإشارة أوّلا الى تمييزات أساسية تفرضها علينا لغة الضاد بين العموم والعامّة وبين العموميّة والشعبيّة. فمن نافلة القول أنّ مفهوم العامّة في لغتنا هو مفهوم سلبي يحيل دوما على الرعاع والدهماء والقطيع ..غير أنّ مفهوم العموميّة المفترض هنا فلسفيّا إنّما يفترض دوما وجود فضاء عموميّ هو جملة الأفعال الرمزيّة التي تتدبّر شأن سياسة الحقيقة أو تجارب المعنى في أفق شعب ما. وهنا نأتي الى مفهوم الشعب والفلسفة الشعبية بحيث ترنّ هذه الصفة دوما رنينا سالبا محمّلا بمعاني الاحتقار لفئة الفقراء الذين لا يملكون غير مساكن شعبية وأطعمة شعبية وفنّ شعبي..في معنى دونيّ ولا يرتقي الى مصافّ "الفنّ الأصيل والعائلات الأصيلة..والذوق الخالص"..وهي معاني قائمة على تصوّر تقليدي اقطاعي طبقي يميّز بين المناطق الشعبية للمفقّرين والمهمّشين والمناطق الأرستقراطية للأغنياء وأصحاب الألقاب والوجاهة الاجتماعية العليا. غير أنّ هذا التصوّر قد صار مثيرا للسخريّة بعد كلّ التحوّلات العميقة منذ ولادة مؤسسة الفضاء العمومي التي تجد عبارتها الأولى في التصوّرات الحديثة للدولة الحديثة منذ روسو وتبلغ عبارتها القصوى مع هابرماس أوّل منظّر لمفهوم الفضاء العمومي كما يتجلى في الثقافة المعاصرة.
ما دور الفيلسوف في رسم ملامح الحياة اليوميّة لشعب ما ؟ عن هذا السؤال ثمّة إجابات مختلفة : الإجابة الأولى نجدها عند سقراط الذي عاش حياة كاملة من أجل التأسيس للمدينة في أثينا على قيم العدالة والشجاعة والفضيلة. فكان في تجوال دائم في شوارع مدينته يعلّم شبابها ما الحقّ ما الخير وما الجمال.. فكانت أسئلته مزعجة لكلّ الساسة والكهّان وانتهى به الأمر الى محاكمته والحكم بتسميمه وقد قبل بشرب السمّ طوعا سنة (399ق.م) . إنّ سقراط بعبارات لمارلوبونتي قد كان "يمثل أمامهم ليشرح لهم ما هي المدينة ..لكنّه لم يكن يرافع عن نفسه بل يرافع عن مدينة تقبل الفلسفة." فهل ثمّة مدينة تحتضن الفيلسوف؟ يكاد السؤال يرتدّ مهزوما مكسور الفؤاد في ثقافتنا العميقة التي كفّرت كلّ الفلاسفة من الغزالي الذي سمّي حجّة الإسلام الى ابن رشد قاضي القضاة والقائل بأنّ "الشريعة هي الأخت الرضيعة للحكمة". ورغم ذلك عرف العرب قائمة طويلة من كبار الفلاسفة الذين وقعت ترجمتهم الى لغات الغرب واعتماد أفكارهم أساسا للمرور بالعقل الإنساني الى سرعة مغايرة.
يقول الفيلسوف الألماني المشهور فريديريك نيتشه أنّ "الفيلسوف لا يمكن أن يخلق حضارة، إنّما يمكن أن يهيئها" وذلك في معنى دقيق هو استنفار القوى الحيّة فيها واستشراف العقول الحرّة الآتية دوما من المستقبل. لكن كيف تتمّ التهيئة للمستقبل صلب فضاءات عموميّة يستحوذ عليها الماضي بثقله المفزع من جهة، و حاضر الثقافة الاستهلاكية التي تنشر الابتذال وتؤسّس لهشاشة البشر في أوطاننا من جهة أخرى؟ وهل يساهم الفيلسوف في هكذا مهمّة ثقيلة؟ نيتشه مرّة أخرى يقول لنا ما يلي "لم يحدث لفيلسوف قطّ أن جرّ شعبا وراءه لأنّه يعيش في معبد العقل". لكنّ معبد العقل قد انفجر ولم يعد ممكنا أن يسكنه غير من يسمّيه غرامشي بالمثقّف التقليدي الذي لا ينخرط في هموم أبناء شعبه.
لقد أسّست الفلسفة الحديثة لفكرة الفضاء العمومي في تعبيرات مختلفة ارتآها الفلاسفة مناسبة في كلّ مرّة لطبيعة العصر الذي يفكّرون في أفقه. ومن أجل أن يكون ثمّة إمكانية للحديث عن الفلسفة من أجل عموم البشر، كان ينبغي للفيلسوف أن يعلن عن مساواة جميع البشر في العقل بوصفه أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وهو ما نعثر عليه ضمن مفهوم "الحسّ السليم" منذ كتاب حديث الطريقة(1637) لديكارت. لكن لأيّ شيء يصلح هذا العقل السليم الذي يتساوى فيه جميع البشر؟ علينا استعمال عقولنا كأهمّ دلالة فلسفيّة عميقة للإنسان الحديث، الذي جعل من مقولة كانط الشهيرة "تجرّأ على استعمال عقلك" شعارا لعصر برمّته هو عصر التنوير. وهنا ارتبطت فكرة التنوير التي أسّسها الفلاسفة في القرن الثامن عشر بخاصّة بفكرة حريّة التفكير واستقلالية الذات الإنسانية عن كلّ وصاية لاهوتيّة أو سياسيّة أو أخلاقية. إنّ تأسيس الفلسفة الحديثة فعل التفكير على مطلب العموميّة هو الذي أسّس لأفق الحداثة بما تتضمّنه من مكاسب مدنيّة قائمة على قيم الحريّة والعدالة والمساواة التامّة بين البشر. فليست الحداثة اذن غير قدرة الشعوب على التعايش معا في نوع من المواطنة العالمية في كون يتّسع للجميع. وهذا ما راهن عليه الفلاسفة منذ كانط الى هابرماس على أنحاء شتّى. ولقد استبق كانط في مقالته الشهيرة "ما هو التنوير؟" بتاريخ 1784 على فضاء عمومي كونيّ قوامه الاستعمال العمومي للعقل في كلّ المسائل وبخاصّة في المسائل المتعلّقة بالعقيدة. ههنا تنبني فكرة الفضاء العمومي الذي بوسعه احتضان الفيلسوف على حريّة أن يفكّر المرء بنفسه بعيدا عن ثلاثيّة "الكاهن والسياسي والإعلامي".
كيف يمكن للفيلسوف أن يستعيد مكانته ضمن فضاءاتنا العموميّة هو الذي أسّس لهذه الفضاءات وجعل إمكانية التعايش على تواصل سلمي بين العقول والذوات ممكنة منذ قرنين من الزمن؟ وهنا دعنا نشير الى عقم بعض الأسئلة الشائعة بيننا المحبطة والمخيّبة للآمال حول "غياب الفيلسوف، استحالته بيننا، فشل هذه الثقافة في إنجاب فلاسفة". نعم لا يكفي أن نتقن التسآل بل نحتاج الى أسئلة خصبة تصنع الأفق بدلا عن المستنقعات. فلنقل إذن أنّ الفيلسوف يوجد دوما ههنا في أسئلتنا المحرجة، صلب المأزق الكبير الذي نعيشه في عصر العقول المرتعشة، ضمن آلام شعب يتعثّر في أحلامه كلّ يوم..نعم الفلسفة حاضرة دوما بيننا: هي مساحة هذا التوتّر الذي تعيشه العقول الصادقة إزاء ما يحدث لنا من لوبيات تهريب البشر وتفقيرهم وتعطيل أقدارهم..إنّ الفيلسوف هو من يضطلع بهذه المساحة القلقة، مساحة الرعب وركح القساوة ومشهد البؤس المعمّم. ما تقترحه الفلسفة هو فقط : عدم التسليم بأنّ ما يحدث هو الممكن الوحيد. ما يطلبه الفيلسوف هو الإيمان بإمكانية الحقيقة بيننا دوما ومرّة أخرى. وما يستطيعه الفيلسوف هو طلب المستحيل، لأنّ المستقبل لا يولد الاّ من جهة اللامتوقّع. وكما يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري "لا بديل لنا عن هذا العالم لكنّنا نملك بديلا صلب هذا العالم نفسه". وهذا البديل ينمو كلّما رفض الفيلسوف الانخراط ضمن سرديّة عدميّة العالم. من أجل ذلك فالفيلسوف في كلّ مرّة مطالب بأن يكون خبرا سارّا لعصر برمّته، والاّ تحوّل الى نواح ميتافيزيقي لا ينتهي.
ما يراهن عليه الفيلسوف اليوم هو التالي : ألاّ تبقى مساحة الحياة التي بحوزة شعب ما حكرا على الساسة والكهّان وصنّاع الرأي. على الفيلسوف أن يتدخّل من أجل التأسيس لخطاب مغاير ينقذ ثقافة العقل ويحفظ كرامة البشر معا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخاوف من استخدامه كـ-سلاح حرب-.. أول كلب آلي في العالم ينفث


.. تراجع شعبية حماس لدى سكان غزة والضفة الغربية.. صحيفة فايننشا




.. نشاط دبلوماسي مصري مكثف في ظل تراجع الدور القطري في الوساطة


.. كيف يمكن توصيف واقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟




.. زيلنسكي يشكر أمير دولة قطر على الوساطة الناجحة بين روسيا وأو