الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الصمود والهوية في لوحات فلسطينية -الجزء الأول

سعيد رمضان على

2018 / 7 / 26
الادب والفن


تمهيد
الفنان الفلسطيني يأخذ على عاتقه الهم الاكثر ثقلا " الحرية " أنها القضية المرتبطة بحتمية وجوده كإنسان وفنان .
وفى قراءتنا تلك سنرى كيف يسجل المعاناة التي يعيشها، من أجل غيره ، من اجل غد مختلف ، من اجل حياة كالحياة ، ووطن كبقية الاوطان.
هذا ليست قراءة فى الفن الفلسطيني ، بل محاولة للوصول للمعنى الكامل لصراع الفنان مع نفسه حتى يستمر في الصمود ، ومع الاخرين ليحقق ذاته وضد الاحتلال من اجل حريته وحرية بلاده .
وبانفراد محزن قدر للفنان الفلسطيني ان يعيش وسط قلق نفسى، يعيش مشردا ومنفيا ، حاملا ذلك الاحساس العميق بالغربة ، ومع ذلك فهو يمسك ريشته معبرا عن كل ما يختلج في نفسه من صراعات وأماني وفى ظروف ليست مواتية يعزف على اوتار لا تعرف الصمت .. انها قوة هائلة تلك التي يمتلكها.. الصمود في ظروف مدمرة .
في جميع اللوحات ايقاع لا ينقطع من موسيقى عشق الوطن، وعزف على انغام المقاومة، اما الصمود فهو الخبز اليومي للحياة، وفى شتات الظلمة يبحث الفنان على ضوء شمعة عن التاريخ والتراث والهوية .
انها حقا وحدة التوازن بين الذات الضائعة وتلك التي تؤكد وجودها ،هذه هي حياته وذاك هو فنه .. وعلى ومضات الأمل يغرق في عشق الوطن داخل ذات أبية متواضعة جدا، لكنها منتفضة ومثقلة بالمشاعر في الوقت نفسه.
المشكلة الصعبة التي واجهتنى في البداية موضوعة على حدود - أو حتى خارج – الفن ذاته؛ إنها مشكلة بقدر ما تبدو متواضعة فهي ايضا شائكة ... يتداخل فيها القلبي مع العقلي ، انها تتطلب منى أن افعل أكثر من القراءة الفنية عند التعامل مع سؤال "الحياة و الموت" الأساسي الذى يواجه الذات الفلسطينية .
ينبغي علي ان انصت برهافة وصدق لريشة فنانين تحكي عن تاريخ ممتد الجذور ، تروي الأرض الفلسطينية بفيض من الثراء الإنساني ، ليشعر بها الفلسطيني وغير الفلسطيني .. ومن خلال الخطوط والالوان ارى المقاومة تتجسد ضد الطمس لمعالم المكان والتاريخ والتراث ، وهكذا يبرز الفنانون الفلسطينيون ، أسلوبهم الخاص بالنضال والمختلف عن اساليب الآخرين من خلال توطيد الصلة بالوطن عن طريق الفن ، لبعث وطنهم بتاريخه وتراثه وإنسانيته في الذاكرة الجمعية.
وربما يكون ملائما بشكل كبير للذات المناسبة للبحث في الفن الفلسطيني ، ان تشعر بذلك الشجن العميق لموسيقى الظل والنور، ان تشعر بالقلق .. وان تعيش حقيقتها لتغرق فى نبض الحياة .. هكذا يمكنها ان تدرك جوهر الحرية التي ينشدها الفنان الفلسطيني .
1- مدخل
اشرق الفجر يوما على فلسطين ، بدا انه لا فرق بينه وبين أي فجر أخر، لكن من الآن فصاعدا وعلى امتداد المدن والقرى والشوارع والازقة .. بدأ كل شيء يتغير شيئا فشيئا .. الى ان تلاشى كل شيء ... مع جو مغلف بالاحمرار، وسماء يتساقط منها الدموع ، وأنات الوجع التي تتصاعد من الارض الفلسطينية مستقبلة فى احضانها شهدائها ، ومودعة من تشردوا منها .
ومن مكان ما ... ربما من نافذة مرسم .. او حجرة ... او ربما زاوية زقاق ما .. شعر فنان فلسطيني بالتوتر ... وان فلسطين التي تذوب أمامه وتختفى تدريجيا تقفز الى دواخله لتكبر فى قلبه شيئا فشيئا ... غزته اشجار الزيتون ، اغرقته البيارات، اوجعه الصبار، اشتاق لخبز الطابون .. وحجر الرحى وأغاني الحصاد .. وحارات طفولته المبكرة وافتقد الحرية ... انتابه الوجع وتجول قلقا ومهموما .. لكن الى اين يذهب ؟؟ ليس ثمة مهرب ، تجرفه الأحداث وتعجزه عن اختيار ما يريد ، يعيش المنفى على ارضه ، يتعذب فى الغربة الابدية تحت سماء وطنه ، وبعد صراع مرير جلس وحيدا امام صفحة بيضاء قابضا على ريشته ، بادئا بنقطه كاحتجاج ضد واقع بدأ يتصادم معه ، و ياللعجب تكبر النقطة وتتخذ اشكالا ، وتكتسى الوانا ... وتظهر الاحلام وهى تصارع الواقع الدامي .
تتألق مرارة التجربة ، ويضعه قدره امام مصيره .. التشريد والتهجير والموت وفراق الاهل عن الاهل .
ولا خلاص له من الضياع الا بالانغماس كليا فى وطنه.
بطاقة هائلة من التمرد ضد واقعه المرير ، بدأ معركة الصمود ، لكنها معركة غير متكافئة ، انه يحارب على اكثر من جبهة :
جبهة " ما الجدوى ؟ ..........." ما جدوى ما تفعله اساسا ؟ !
وهى جبهة تدفعه ليكون كائنا مهملا، محاولة دفعه الى الاستسلام لليأس .
وجبهة ثانية تحاربه كفلسطيني مرة وتحاربه كفنان مرة اخرى .. لانتزاعه من الجذور .. فالفن يخلد التراث والتاريخ ويقف حائلا ضد عوامل الزمن .
لكن فى معاركه الغير متكافئة يملك الفنان سلاحه ، تراثه وتاريخه .. والوضوح الشامل لقيم اودعها قلبه، جعلته يقاوم اليأس ومحاولات سحقه من جانب الاحتلال .
وهو عندما يقدم فقرات الحياة الإنسانية بعاداتها وتقاليدها وأساليب حياتها في مختلف الميادين، يرتد لتاريخه وتراثه
والى اكثر من الف سنة قبل الميلاد بداية "عصر التوليف بين ما ينقله و يتمثله الفنان الكنعاني، متجنبًا آفة التنافر بين أجزاء عناصر الحضارات المختلفة بأسلوب وطابع ذاتي خاص؛ أي إن الفنان الكنعاني يحمل في داخله عناصر الحضارات المجاورة مصهورة وممزوجة بأسلوب ذاتي خاص، متأثراً بهذه التيارات الحضارية المتنافسة؛ وهذا ما أعطى الفن الكنعاني شخصية متميزة ذات خصوصية. وقد أدى هذا التمازج دورًا رئيسيًا في صوغ الحضارة الفلسطينية؛ حيث إن الكنعانيين هم السكان الأصليين لفلسطين." "1"
بهذا تظهر الرموز في الفن ... فنجد شموخ الحصان العربي الذى يعبر عن الحرية والاصالة ، ثائرا ومنفعلا بغد ممتلئ بالحياة ، ينتفض ثائرا ضد الاغلال من اجل بقاءه ، حاملا على ظهره في شمس النهار ودفء الليل حفنة من الامل ، وهكذا ينفعل الفنان بالحصان كمعنى ورمز .
ويمكننا ان نرى المفاتيح في اللوحات الفنية ، مأخوذة كرمز من المفاتيح الكبيرة للمنازل التي نجدها في اثار الكنعانيين ، والتي اصبحت تعنى الان مفتاحا لفتح القدس ، وهى رمزيا تحولت لحبيبة ، بحاجة لمفتاح لفتح قلبها والدخول اليه للاستقرار فيه حيث يوجد الحضن الدافئ. وبمفهوم اكثر اتساعا تعنى عودة فلسطين لأهلها .. واهلها هم "هؤلاء المتجذرين في ارض فلسطين من الازمنة القديمة " 2
وحنين الإنسان الفلسطيني الى دياره القديمة بأحواشها المتسعة وعرائش العنب هو حنين لا يقاوم ، لأنه يرتبط بمباهج الحرية والكبرياء ولقاء الأحبة والأقارب واستعاده أيام الصبا , كما يرتبط ايضا بحياة الأجداد ، حياة بتفاصيلها وأمجادها باقية في الضمير الشعبي ، تتمدد في الأحاديث والأمثال والحكايات والسير والأشعار ، التي تقال" حول منجد النار في المساء حين يجتمع الشمل ويلتف الجميع حول الكبار ، فيتم تبادل الخبرات والتجارب ، يستمعون بلهفة ، فيتعلمون ثقافة مجتمعهم وقيمه وعاداته يوما بعد يوم ، فيكتب لهذه المجتمعات الاستمرارية بانتقال تراثها من جيل لجيل عبر تراث شفاهي ، يخلد في الذاكرة الشعبية." 3
سنجد ايضا جماليات التراث فى الثوب الفلسطيني المطرز بوحداته الزخرفية الكنعانية عند منطقة الصدر والاكمام والجوانب ومن الظواهر الهامة التي يتضح من خلالها مدى الحس الجمالي الذي تتمتع به الفلسطينية , هو دقتها وإتقانها لعمليه التطريز ، فعد الغرز وحصرها جزء من العملية حتى تأتى عمليه التطريز في النهاية متناسقة , كما تراعى أيضا المساواة في الأشكال التي يتم تطريزها , وأهمية التطريز ترجع لأسباب عدة كتزين الثوب لاستخدامه في مناسبات الزواج والأعياد . ونرى هذا الثوب فى اغلب اللوحات التى تجسد المرأة الفلسطينية رمز الأرض التاريخ والوطن . وفى اللوحات ايضا تظهر الكوفية مع العقال كغطاء موحد للراس من عام 1936..كرمز للقوة ولوحدة الفلسطينيين وللهدف المشترك .
اما الصبار الذى يحيط بالحقول الفلسطينية منذ قديم الزمان، فقد تحول فى لوحات الفنانين ليكون رمزا للصبر والحياة فى بيئة غير مواتية محاصرة بكل عوامل الموت ، الا من قطرة أمل تسقط من السماء ، فتعين الحياة المترنحة باتجاه النهاية الى الصمود . الى غير ذلك من رموز سنتناولها فيما يلى من صفحات .
نحن إذن في نطاق فنى متسع ، مبنى على التراث والتاريخ ، وهو فن بقدر ما هو صراع ضد الاندثار والضياع ، يحمل في طياته ككل فن صراع الظلمة والنور .
وقد يميل بعض النقّاد إلى أن يتوقعوا الرتابة في هذا الفن ، وقد يتساءل الناقد الغير مطلع عن المدى المتاح لفنان ارتبط بالوضع الفلسطيني ما دام هذا الوضع قد حدّد لهم مسار فنهم كما سبق ان حدد لهم مسار حياتهم، لكنهم نسوا ان الالتزام لا يعنى الجمود، فقد التزم بيكاسو وابدع الجرانيكا مؤكدا بذلك ان صياغة العمل الفني تحدد كيان الفنان الفكري وموقفه الإنساني... لوحات أخرى مماثلة تؤكد ذات الموقف مثل لوحة معركة انغياري لـ ليوناردو دافنشي والثالث من مايو لـ فرانشيسكو دي غويا ووجه الحرب لـ سلفادور دالي وتمجيد الحرب للفنان الروسي فاسيلـي فيرتشـاغين، 1871 وبعض أعمال ديلا كروا وبريغل .. لقد عبروا عن دواخل اكثر عمقا ، ثورة الفنان ضد الطبيعة المتوحشة للحروب.
وامام مذابح دير ياسين وصابرا وشتيلا وتدمير المخيمات ، ونهب القرى الفلسطينية وتشريد اهلها يعبر ايضا الفنان الفلسطيني عن ثورته فيطلق صرخته المدوية ضد الظلم وفزعه إزاء القتل الوحشي للأبرياء . ويعيش المعادلة الصعبة ، التزامه تجاه فنه والوضع الاجتماعي الذى يعيشه الناتج من الوضع الاكثر قسوة ... احتلال الوطن.. ومع ذلك لم يحدث احد الفنانين عن جمال أشجار الزيتون واعواد اللوز الخضراء ، لم يحدثهم احد عن سحر أغاني الحصاد اوعن كيفية حب بلدهم .. لقد حددوا موقفهم واستغرقوا فى فنهم بصمت ، فابدعوا وتميزوا وبرز بعضهم فى المقدمة.
النكبة مأساة طويلة ، والحصار مرارة مؤلمة ، لكن الفنانين الذين تمزقوا الهبوا خيال الاجيال بالرؤية البطولية ، بمواقف المقاومة والايمان ... ان الرؤية المأساوية فى الاعمال الفنية الفلسطينية ، لا تعبر عن اليأس بل عن الامل فى انتصار العدالة .
الفنان الفلسطيني يعزف على اوتار الوجع ، ولا يمكننا فصل الاداء عن آلة العزف وعن المفردات الفنية المستقرة فى ضميره، وهو ما يمنحه ثورة نفسية تجعله يتجاوز الحدود المفروضة عليه الى الابعاد ذات الضوء المتسع , والى الحدود التي تلامس الحلم .
ومن هنا يمكننا ان نضع اصبعنا على معانى الفن الفلسطيني ، فنجده يتخذ مساره فى فيضان جارف، من اللهفة والشوق للأرض ، الى الصراع من اجل الحرية واحيانا الى اليأس والوحدة ومنهما الى الانتفاضة والثورة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا