الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناسك في باريس . . سيرة الذات المشطورة التي تبحث عن هُوية ضائعة

عدنان حسين أحمد

2018 / 7 / 29
الادب والفن


صدر عن "دار أثر للنشر والتوزيع" بالدمّام كتاب "ناسك في باريس" لإيتالو كالفينو، ترجمة دلال نصر الله، وهو كتاب يندرج في إطار السيرة الذاتية، وأدب الرحلات، والسيرة المكانية إن شئتم. وبما أنّ كالفينو لم يقسِّم كتابه إلى أبواب أو فصول فحري بنا أن نسمّيها نصوصًا متنوعة جمعت بين السيرة الذاتية، والمقالة، والحوار وبلغت عشرين نصًا إضافة إلى مقدمتين مُقتضبتين، الأولى بقلم المترجمة دلال نصر الله، والثانية بقلم إستر كالفينو، وثبْت بثلاثة وعشرين كتابًا من كتب كالفينو يبدأ بـ "الطريق إلى بيوت العناكب" وينتهي بـ "ناسك في باريس"، مناطَ بحثنا ودراستنا.
وقبل الخوض في تفاصيل هذه النصوص لابدّ من الإشارة إلى أنّ كالفينو يعتمد في سرد الوقائع والأحداث على ذاكرته الشخصية ولا يعود إلى الكتب والمراجع كما يفعل غالبية الكُتّاب. ولو دققنا في مصادر إلهامه لوجدناها في الخلطة السحرية التي تجمع بين الواقع والخيال والأسطورة التي تقدّم نوعًا من الكتابة الجديدة التي تحتاج بالضرورة إلى قارئ نوعي مختلف.
لا تبدو هذه النصوص متواشجة فهي تتحدث عن موضوعات شتى تتوزع بين حياة الكاتب الشخصية، وظروف نشأته، ومراحل دراسته، وآرائه الفكرية والثقافية والسياسية، وطقوسه في الكتابة، ومعاينة الذات المبدعة. ولكي لا نشوّش على قارئ هذه السيرة الذاتية يتوجب علينا أن نعتمد التسلسل الزمني لحياة كالفينو بدءًا من طفولته، مرورًا بصباه وشبابه، وانتهاءً برحيله عن عمر ناهز الحادية والستين عامًا.
وُلد إيتالو كالفينو في 15 أكتوبر 1923 في سانتياغو دي لاس فيغاس بكوبا. كان والده خبيرًا زراعيًا، ومديرًا في معهد الزراعة التجريبية، وهو في الأصل ليغوري من سان ريمو، وأمه عالمة نبات من سردينيا. لم يتذكر كالفينو شيئًا من كوبا لأن أسرته غادرتها بعد عامين من ولادته. كان أفراد الأسرة برمتهم علماء وأساتذة جامعة، باستثناء كالفينو الذي ترك كلية الزراعة والتحق بكلية الآداب في تورين ليصبح واحدًا من عمالقة الأدب الإيطالي في القرن العشرين.
لم تمنع قراءات كالفينو الواسعة من الاستعانة بالشاعر والروائي تشيزراي بافيزي الذي كان يقرأ قصصه ورواياته الأولى، ويساهم في تقويمها ونشرها، بل علّمه كيف يشاهد تورين من خلال التجوال في شوارعها، والاستمتاع بطبيعتها الساحرة التي تخلب الألباب. فلاغرابة أن يرى في بافيزي أفضل روائي إيطالي آنذاك لكن تلك الأفضلية لم تمنعه من الإعجاب بكُتّاب آخرين أمثال إليو فيتوريني، وكارلو ليفي، وكاسّولا، وبازوليني من إيطاليا، وأرنست همنغواي وأدغار ألن بو من أميركا، وكثير غيرهم من بلدان أخرى.
انتمى كالفينو إلى الحزب الشيوعي الإيطالي مثل العديد من الأدباء والفنانين الإيطاليين وأمضى فيه قرابة إثنتي عشرة سنة مُقارعًا الفاشية، والنازية، والحروب، والأفكار العنصرية لكنه سوف يكتشف لاحقًا بأنّ السياسة باتت محل سخرية واستهزاء أفضل الناس من حوله لأنها مجال فاسد عليه أن يتجنبه، ويبحث عن قيم أخرى في الحياة مثل القيم الأدبية والفنية.
ما يهمنا في هذه السيرة هو الجانب الأدبي الذي يسلّط الضوء على قصص كالفينو ورواياته، وأبحاثه، ودراساته النقدية. وقد أظهر كالفينو اهتمامًا مبكرًا برموز المدارس النقدية الفرنسية مثل رولان بارت وجاك ديريدا الأمر الذي دمغ سردياته بمسحة فلسفية عميقة في مجمل إبداعاته، وخاصة في ثلاثيته الشهيرة التي انضوت تحت عنوان "أسلافنا" وتضمنت ثلاث روايات وهي "الفيكونت المشطور"، " البارون فوق الأشجار" و "الفارس الخفيّ".
قبل الثلاثية كتب كالفينو العديد من القصص ورواية واحدة خلال عشرين يومًا وهي رواية "الطريق إلى بيوت العناكب" 1946 التي نالت في وقتها نصيبًا من النجاح. وبما أنه لا يحب أن يكرر نفسه فقد احتشدت قصصه ورواياته بموضوعات متنوعة عن الاستلاب، والانشطار، والعالم الصناعي الغربي. ففي الثلاثية نرى "الفيكونت المشطور" مُستلَبًا، ومُتشظيًا في عصر الرأسمالية الجديدة، و كوزيمو في "البارون فوق الأشجار" يعيش مبتعدًا عن الأرض حيث يرى العالم بشكل أفضل. أما رواية "فارس بلا وجود" فهي تجسِّد رحلة البحث عن الذات أو الهُوية الضائعة لغالبية أبطاله الذين ينبثقون من الوهم والخيال والخرافات القابعة في أعماق التاريخ.
أنجز كالفينو كتاب "حكايات شعبية إيطالية" عام 1956 وقد استغرقه البحث سنتين متتاليتين لكنه سرعان ما هجر البحث ليكرّس نفسه للكتابة الإبداعية التي يعتبرها عملاً شاقًا وممتعًا لكنها تحتاج إلى عناية مركّزة سوف تنعكس على اللغة المتفجرة، والثيمة الذكية، والمقاربة الأسلوبية الحصيفة. ومثلما هجر السياسة والبحث سيتخلى كالفينو عن الصحافة أيضًا ليتفرغ لكتابة النصوص الإبداعية فقط فكتب في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي "ماركو فالدو"، "قلعة المصائر المتقاطعة"، "مدن لا مرئية" و "لو أنّ مسافرًا ذات شتاء" التي بلغ بها إلى نموذج "النصّ الفائق".
تشكِّل "مُذكرات أميركية 1959-1960" أكثر من ثلث الكتاب وهي سياحة بصرية وذهنية وثقافية في عدد من الولايات الأميركية من بينها نيويورك، شيكاغو، سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، لوس أنجليس، لاس فيغاس، نيو مكسيكو وغيرها من الولايات التي رآها وتمَثّلها جيدًا وكتب عن العديد من ظواهرها مثل "جيل البيتْنِكس" الذين وجهوا دعوة لآرابال، واستمعوا إلى قراءاته الشعرية. كما رصدَ تأثير اليهود في عموم الولايات المتحدة الأميركية حيث يسيطرون بنسبة 70% على دور النشر، و 90% على المسارح، والبنوك كلها لليهود، وكذلك الجامعات، وصناعة الملابس وما إلى ذلك. لقد شاهد كالفينو في هذه الرحلة التلفاز الملون، والحواسيب التي دُعي إلى مقراتها الرئيسة، واستمع إلى شروحات مفصّلة عن كيفية عملها، وأساليب تطويرها آنذاك. كما زار وول ستريت، وانتبه إلى سياسة ترويج عبادة المال المتأصلة في المجتمع الأميركي. كما سجّل ملحوظات سلبية وإيجابية عن المدن الأميركية، وهو ينصح الزائر بأن يتجول بالسيارة عندها سيكتشف أن 95% من الأمكنة في أميركا هي أمكنة "قبح، وقمع، وتشابه، وملل قاتل". ويمضي في رصده ليصف سان فرانسيسكو بالمدينة الأميركية الوحيدة التي تمتلك شخصية أوروبية، ولاس فيغاس بمدينة القِمار، ونيو مكسيسكو بمدينة الفقر والسكارى والمتسولين، أما نيويورك فهي المدينة الوحيدة التي يفكر بالإقامة فيها لأنها مدينة بلا جذور، ولا يخافها كثيرًا.
إن كتب الرحلات بسيطة، ومفيدة، وهي نوع آمن من الكتابة كما يقول كالفينو لأنها لا تحتاج إلى تقنيات وأساليب معقدة لكنها يمكن أن تذهب إلى ما وراء الأماكن والظواهر الموصوفة. لم يكن لكالفينو أن يحقق كل هذا النجاح لولا مؤازرة أصدقائه من الكُتاب والروائيين وعلى رأسهم بافيزي وناتاليا غينسبيرغ وفيتوريني الذي استحدث تعبيري "الواقع بنكهة خيالية" و "الخيال بنكهة واقعية" اللذين مهّدا الطريق لإعادة صياغة الثيمات القديمة بأساليب ومقاربات جديدة.
لم يكتب كالفينو عن بعض المدن التي عاش فيها أو زارها مثل تورين وباريس، وربما كان عليه أن يغادرها ليتمكن من الكتابة عنها، فأفضل الكتابات تتحقق حينما تكون نابعة من الفقد والغياب.
نخلص إلى القول بأن نجاح هذه السيرة الذاتية يعود إلى عوامل متعددة أبرزها مصداقية الكاتب، وتواضعه، وخلوّ كتاباته من نبرة الغرور أو التعالي على المتلقّين الذين يحتفون بفعل القراءة الجادة التي توازي النص النوعي المتفرّد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر