الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنثيات البحر

يحيى نوح مجذاب

2018 / 7 / 31
الادب والفن


أُنثيات البحر

أَنَسَة – بفتح الألف والنون والسين – وهي غير ما تُكنَّى بها الصبيّة العزباء.
كلمةٌ جذرها واحد واشتقاقاتها عدة ..
أَنَسَة قدحت في الذهن كمدينة غريبة لا مكان لها في تشبيكات خطوط الطول والعرض؛ يو-تي-إم، ولامبرد، وجي-پي-إس، في هذا الكوكب المُعَلَّق في الفضاء منذ ما يربو على الأربعة مليار وخمسمئة مليون عام أرضي. هادئة غريبة خيالية أسطورية، فضاؤها شاسع كالقدر، دروبها ليست كالدروب، ترابها بُنّي ذو دكنة غريبة يتدرّج لونه بانكسارات عجيبة كلما تعمّقت المسافات في رحلة الأسفار الطويلة والقصيرة ويتحول الى اللون الصحراوي المُبهر المُضيء.
مدينة خالية إلاّ من نساء اعتمرت رؤوسهن عصائب سود كالغُدفان، وجوهٌ مضيئةٌ مصابيح كاشفة مُشرقة حتى في عمق الليالي المُدلهمَّة. مدينة انبثقت كينونتها في عماء من ديجور أخرس؛ محطات هادئة، قطارات ساكنة حتى في حركتها يكادُ لا يُسمع هديرها؛ لا كما ألفها أهالي الهند الذين يتناسلون كالقطط والأرانب حتى باتت أراضيهم وتخومهم شبيهة بِقارّة منبثقة من جُغرافية العالم القديم.
الكلمة غريبة لا يألفها المبهورون برطانة اللّكنات واللهجات وأصول اللغات الحية والمندثرة ليستكشفوا أسرارها وخباياها، ولأن الإجابة على مُبهمات الوجود ومتاهاته وإغفالات المعرفة كانت جاهزة دوماً في زمن لحظي لا يزيد عن معجزة الذي كان عنده علم من الكتاب عندما أحضر عرش بلقيس للنبي سليمان (أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك)، بذات الوقت أو ربما أقل، امتدت الأصابع تضرب لوحة المفاتيح السود بحروفها وإشاراتها ورموزها المصفوفة باحثة عن لغز الكلمة، وعندما سبرت بِخِفّة مجاهيل الشبكة العنكبوتية جاءت المعلومة بلمح البصر؛ صور متحركة لجسد يتلوى رقصاً، وأصوات منبعثة أُغنيات لعالم أثيري في دنيا أشد غرابة. إيقاعات هارمونية متناغمة ساحرة لبقعة منسية من عالم غريب. امرأة ألبانية هي نتاج تلاقح لثقافات حملت سحر الشرق وجماله وقدرة الغرب وطاقاته بلغة غير مألوفة لأسماع الكثيرين ممن عشقوا لعبة اللغات واشتقاقاتها، لكن الصوت الآتي من الجسد المشتعل المُتلوي يقظةً وفخامةً وحباً وهلعاً وإيروسية، ألوان عجزت أطياف الشمس عن مجاراتها وتعريفها وتخليدها. لقد كانت الصور لا تعكس الضوء فقط بل الأعطار الفائحة.
ألبانيا، أرض النسور، واللغة المستمدة من الدوثروكي القديمة، ونساء تيرانا ثم عصائب النساء المليكات المحجبات الملثمات المُنسدرة جلابيبهن على أخامص الأقدام في غطسة الحلم.
الريح لم تكن تعول فقط بل كانت تلفُّ الآكام، وقيظ الصيف اشرأبت عنقه ولم تعد للبوارح والسموم مواطئ قدم. أما هو فقد كان منبهراً من صور الأشكال والعالم الذي لا يخضع لفيزياء الكون أو أخلاق الأقوام الضالة والمتحضرة. مزيجٌ من كينونات لا تحدُّها خطوط واضحة أو معالم خاضعة لتفسير العقل الأرضي الذي حُفظت معارفه وأعرافه بأنماط لولبية حملتها جينات تريليونيه منذ الأميبا الأولى ونشأة الحياة في الكوكب الأزرق وحتى عالم الروبوتات التي تحرِّكها عقول البشر، ومن حادَ عن خط المعرفة والأعراف الموروثة سجنه طواغيت العقائد الدوغمائية كغاليلو، أو بات منبوذا كإخوان الصفا.
اخترق المدينة بمركبة وحيدة إطاراتها خشب الزان كان يسمع صريرها. مدينة ساكنيها قد غادروا منذ انبلاج الصبح المنير، وبقي هو وحيداً غريباً مع إطلالات هذه النسوة اللائي يخفين أجسادهن الآلهات القديمة، ويشعُّ من نظراتهن فجورٌ ورغبة، وحكمةُ وصبرُ الصيَّادين، وعلى الجانب الثاني من سجل الزمن رقصت أنسا عارية الا من رداء لحمي التصق بجلدها الناعس الرطب حتى لم تعد مساماته تتنفس، التواءات مكبوتة وزخارف وَشَمَت الأَكُفَّ والأذرع والأفخاذ والسيقان، وحتى بواطن القدم. كان الصوت منداحاً شجياً قوياً متمرداً أوبرالي النمط ذو طبقة سوبرانو، وهي بجسدها الهائل محاطة بمجاميع من أُنثيات شققن سطح البحر بنسقٍ متحرك كألسنة لهب.
العري إذا احتوته موسيقى الخلود خرج من دائرة البهيمية وارتقى الى ذرى الإبداع والفن.
كانت غطسة عميقة حيث الجسد يلتحف نجوم السماء والأعين منغلقة لا ترى إلاّ أعماق الذات المنصهرة في أتون الكون.
إنها قدحة الفكر ورحلة الرؤيا والحلم في العالم المجبول بالغموض والغرابة.
يحيى نوح مجذاب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا