الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللكمة المضادة

صبحي حديدي

2006 / 3 / 28
الصحافة والاعلام


في عام 1906، وضمن سياق خطبة رسمية، نحت الرئيس الأمريكي الـ 26 تيودور روزفلت (1858 ـ 1919) عبارة طريفة، فظة بعض الشيء مع ذلك، في وصف طراز خاصّ من الكتابة الصحفية: "النكش في السماد الحيواني" Muckraking، أو بمعنى أصحّ تأويلاً للمحتوى: النكش في القاذورات، وتقليب أو إظهار ما هو مستور من أوساخ وقبائح، وعلى نحو أشدّ مضاضة وقسوة من نشر الغسيل القذر. ولقد استمدّ روزفلت فكرة النحت تلك من شخصية حامل المِدَمّة Rake، أداة تسوية العشب وتقليب التربة والسماد، في رواية الإنكليزي جون بنيان "رحلة الحاجّ"، 1678: "إنه رجل ليس في وسعه أن ينظر إلا إلى أسفل، والمِدَمّة في يده؛ والذي بُورك بتاجّ سماويّ بسبب شغله هذا، لكنه لم يتطلع إلى أعلى، ولم يكترث حتى بإبصار التاج، وظلّ يشغل نفسه بنكش القاذورات في الأسفل".
لكنّ الحياة، وتطوّر تقاليد الكتابة الصحفية وأخلاقياتها، تكفلت بتطهير التعبير من مضمونه السلبي الفظّ، وبات على العكس صفة حميدة لذلك الصحافي ـ المحقق الذي يكشف أستار وأسرار قضية سياسية أو اجتماعية أو مالية تمّ إخفاؤها عن المجتمع، بتواطؤ من هذه السلطة أو تلك في أغلب الأمثلة. وهكذا، ومنذ إطلاق العبارة، شهد العالم عشرات الأمثلة على ذلك الصحافي الذي يتعب ويكدّ ويغامر ويجازف حتى بحياته من أجل إماطة اللثام عن هذه الفضيحة أو تلك: صمويل هوبكنز آدامز في سلسلة تحقيقاته "الدجل الأمريكي الأكبر"، 1905، حول التلاعب بالأدوية؛ راي ستانارد بيكر، في كتابه "اقتفاء اللون"، 1908، حول التمييز العنصري؛ شارلوت بيركنز غيلمان، حول إساءة تشغيل الأطفال؛ أبتون سنكلير، في "الغاب" 1906، حول تعليب اللحوم؛ ثمّ، لكي نضرب مثالاً من العقود الحديثة، سيمور هيرش الذي كشف مذبحة "ماي لي" في فييتنام، وفظائع سجن "أبو غريب" في العراق، بين أخرى كثيرة...
وفي حدود ما أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، لا أعرف جهة صحفية تمارس "النكش في السماد الحيواني" لسياسات الولايات المتحدة، بصفة خاصة ولكن ليس حصراً، مثل النشرة نصف الأسبوعية والموقع الإلكتروني "اللكمة المضادّة" CounterPunch (www.counterpunch.org)، الذي يديره من أمريكا الصحافي الإرلندي اليساري المعروف ألكسندر كوبرن، وذلك منذ عام 1994 حين انضمّ إلى صاحب النشرة الأصلي كين سلفرستين، بالتعاون مع جيفري سانت كلير. وطيلة عقدين قبل هذا، ولكن الآن أيضاً، لم يتوقف كوبرن عن تشريح ما يُسمّى «الحلم الأمريكي»، بدأب وعناد ويقظة وسخط وسخرية وجسارة، وكذلك برصانة وعمق وموضوعية قلّما نجد لها مثيلاً في الأساليب الصحفية الراهنة.
في حرب الخليج الثانية، 1990، كان أوّل من امتلك شجاعة التشكيك في صحّة حكاية حاضنات الأطفال الرضّع حين كان السواد الأعظم (في الغرب والشرق على حد سواء) يذرف الدموع السخية توجّعاً من هذا السلوك «البربري». وأثبتت الأيام أن الحكاية مفبركة تماماً، وأنّ مؤسسة عملاقة مختصة بالعلاقات العامة قبضت مبلغاً خيالياً لإعداد السيناريو، الكفيل بكمّ أفواه مَنْ ينوي الاعتراض على الحرب. وكان كوبرن هو الذي ذكّر العالم بأسره أنّ البطل القومي البريطاني، حامل جائزة نوبل، ونستون تشرشل هو أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة، وتجريبها على بدو العراق في الجنوب، تحت الذريعة الصريحة التالية: « الأسلحة الكيماوية تمثّل تطبيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أيّ ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود».
وحين فاز بيل كلينتون في انتخابات الرئاسة الأولى، كان كوبرن أوّل مَنْ كشف النقاب عن أنّ عمليات تبييض أموال المخدرات، وتسويق البضاعة، وتدريب مختلف «كوادر» المهنة من طيارين وموزعين ومبيّضي أموال... كلّها كانت تجري في بلدة مينا، ولاية أركانسو، حيث كان كلينتون هو الحاكم، ورفض مئات العرائض التي طالبت بإغلاق مطار البلدة الفاسد. كما برهن كوبرن أنّ مقرّ الحاكم في ليتل روك كان مسرحاً لأكثر من فصل واحد في فضيحة إيران ـ غيت وصفقات الأسلحة إلى عصابات الكونترا: هناك نسّق أوليفر نورث مع بودي يونغ (المسؤول عن أمن كلينتون الشخصي)، وعميل الـ CIA فيليكس رودريغز (الذي ظلّ يفاخر بأنه انتزع ساعة تشي غيفارا واحتفظ بها للذكرى حين كان الثوري الشهيد جثة هامدة).
وكما يدلّ الاسم ذاته، ينهض الجوهر الوظيفي لنشرة كوبرن وسانت كلير على تسديد اللكمات المضادة، ليس إلى صانعي الفضائح والقاذورات والجرائم وحدهم، بل كذلك إلى الإعلام المكرّس (من "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، إلى الـ CNN ومختلف الفضائيات العملاقة). لائحة الكتّاب المساهمين واسعة تعددية، من نوام شومسكي والراحل إدوارد سعيد وروبرت فيسك، إلى رالف نادر وتانيا رينهارت وليني برينر؛ حول مسائل عريضة كونية وأمريكية، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية، لا تغيب عنها البتة القضية الفلسطينية، والعراق، ومختلف أكاذيب الإدارة الأمريكية: من تصدير الديمقراطية إلى الحرب على الإرهاب، دون نسيان حقوق الإنسان!
لكمات مضادّة، إذاً، تنطوي على مزيد من النكش في السماد القذر الذي تكدّسه الإمبراطورية الأمريكية، هنا وهناك في أربع رياح الأرض!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب.. قطط مجمدة في حاوية للقمامة! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. موريتانيا: مع تزايد حضور روسيا بالساحل.. أوكرانيا تفتتح سفار




.. إسرائيل تحذر من تصعيد خطير له -عواقب مدمرة- بسبب -تزايد اعتد


.. هدوء نسبي مع إعلان الجيش الإسرائيلي عن -هدنة تكتيكية- انتقده




.. البيان الختامي لقمة سويسرا يحث على -إشراك جميع الأطراف- لإنه