الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحيادُ في الدستور ، وهْمٌ وخديعة / الحالة الليبية نموذجا

محمد بن زكري

2018 / 8 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


ليست و لم تكن الدساتير يوما - و القوانين ضمنا - نصوصا تشريعية محايدة ، غير ذات صلة بمصالح و تطلعات قوى اجتماعية مُعيّنة ، في ظروف تاريخية مواتية ، و تحت تأثير أو بتوفر عوامل ضغط مساعدة ؛ فالدستور ليس مجرد صياغات فنية حقوقية نمطية ، يختص بها قانونيون مهنيون (تكنوقراط) ، يضعون على ضمائرهم عصابة العدالة العمياء . بل هو وثيقة تعاقدية تعكس مصالح و أهدافا اقتصادية و اجتماعية و سياسية و ثقافية ، غالبا ما تكون هي مصالح الطرف الأقوى أو المنتصر ، في حراك الصراع الاجتماعي - بمختلف تمظهراته - أو الطرف الأكثر تنظيما و الأقدر على الحشد و استقطاب الأصوات المؤيدة . فالمنتصرون ، أو اللاعبون الأقوى حضورا على المسرح السياسي ، هم دائما في الواقع المتعين تاريخيا - وفي التحليل الأخير - مَن يُملون كتابة تلك النصوص التشريعية ، و يكيّفون صياغاتها لتتطابق مع مصالحهم الآنية ، و لتخدم أهداف مشروعهم المستقبلي ، بما قد ينحط بالدستور في بعض بنوده ، إلى مستوى عقد إذعان جماعي ، تتمكن الطبقة أو الفئات المهيمنة - اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا - من تمريره بالاستفتاء الشعبي ، و فرضه كمرجعية حقوقية حاكمة ، ملزمة للمجتمع و الدولة .
إن حرفا واحدا ، في كلمة واحدة ملتبسة الدلالة في موقعها من صياغة جملة واحدة ، ضمن سياق فقرة واحدة ، من نص مادة واحدة في الدستور - أو في أي نص تشريعي - قد يؤدي في التطبيق إلى إلحاق أضرار سيئة جدا ، بالمصالح الحيوية و الحقوق الأساسية (الحق في الرعاية الصحية ، و الحق في التعليم ، و الحق في العمل ، و الحق في الضمان الاجتماعي ، و الحق في حرية التعبير / مثلا و ليس حصرا) ، لفئة أو فئات اجتماعية محددة ، غالبا ما تكون هي الطرف الاجتماعي الأضعف أو الخاصرة الرخوة ، من الأغلبية الشعبية : المُفقرَة ، و المعرضة للاستغلال و القمع ، و الأقل نصيبا من الثروة القومية ، بقوة القانون ؛ و خاصة في المجتمع المنقسم رأسيا ، تحت ظروف الفرز الطبقي الحاد . و قد يؤدي التباس أو ميوعة دلالة صياغة مادة تشريعية ما ، إلى الإضرار بالمصالح الحيوية للشعب كله ، أو قد يؤدي - على نحو ما - إلى أزمة دستورية تعطل الحياة السياسية للبلد ، و تُدْخله في دوامة من صراع الإرادات ، كما حصل فعلا في مسألة الطعن الدستوري بعدم صحة انتخاب مجلس النواب ، و في تعطيل العمل باتفاق الصخيرات .
و إن مواد الدستور ليست نصوصا نمطية ، تصلح لكل النظم و في كل الظروف التاريخية ، أو صياغات حقوقية في هيئة تراكيب أدبية بلاغية مشحونة بالرموز القابلة لأكثر من تفسير ؛ و إلا كان ثوبا فضفاضا ، يتم تفصيله على مقاس الطرف أو الأطراف الأقوى في صراع فرض الهويات و الإرادات . بل هو ، من حيث المبدأ ، وثيقة تعاقدية (توافقية) تعكس مصالح اقتصادية و اجتماعية و سياسية ، يتوجب - في الحالة الليبية - أن يراعى فيها التوازن بين المصالح العامة للأطراف المتعاقدة كافة ، مع ضرورة التنصيص الدقيق على ضمان حقوق المواطنة (الاقتصادية و الاجتماعية) ، واجبا على الدولة تجاه كل فرد من أفراد الأغلبية الشعبية ، التي كانت مطالبها المعيشية و حقوقها المادية و المعنوية ، في جوهر و صلب انتفاضة فبراير (غير المكتملة) ؛ فلا شرعية تعلو فوق شرعية مطالب و أهداف انتفاضةٍ حقوقية ، دفع فيها الفقراء و المفقَرون ثمنا باهظا من دماء أبنائهم ، مما لا مجال معه للقبول بالحلول الوسط ، كي تصير الانتفاضة إلى الاكتمال ، كمرحلة أولى من مراحل التغيير و إعادة البناء ، بمنظور الثورة الاجتماعية الشاملة .
و لأنه ليس من دستور محايد تماما ، فهو قد يكون جزءً من الأزمة و ركنا أساسيا من أركانها ، و ليس حلا لها ، كما في الأزمة السياسية ، المفتعلة على خلفية دستورية ، التي ما انفكت تعصف بالدولة و المجتمع و كل شيء في ليبيا ، على مدى أشد فترات التاريخ الليبي الحديث ظلامية و ظلما ، منذ صدور الإعلان الدستوري المَعيب ، لانتفاضة فبراير الشعبوية ، بتاريخ 3 أغسطس 2011 ، و خاصة بعد الانتخابات النيابية لسنة 2014 ، و بالأخص مع بلوغ الأزمة أقصى درجات الفوضى و اللاعقلانية في إدارة الشأن العام ، منذ تمكين المجلس الرئاسي من وضع اليد على السلطة في عاصمة الدولة الليبية طرابلس ، على نحو ما جرى و لا زال جارٍ ، وصولا بالأوضاع المعيشية لأغلبية الشعب الليبي إلى الحضيض ، تحت مستوى خط الفقر المطلق . فإن الرهان على اعتماد مشروع الدستور الجديد (مسودة أبريل 2017) ، كأساس لحل صحيح لأزمة الصراع (القبلي و الجهوي و الأيديولوجي)على السلطة ، و الذي هو في أساسه صراع فئوي و طبقي على الثروة ، إنما هو مصادرة على الوهم ، من قبل الجماهير المطحونة مغيبة الوعي ، و هو في الوقت ذاته خديعة يمارسها تحالف الكومبرادور و الكهنوت و دعاة الليبرالية الجديدة ، لاستمرار إحكام القبضة على البلد و مقدّراته .
و لذا فإنه في ظروف ما ترزح تحته البلاد من ويلات : التضخم ، و انفلات الأسعار ، و انهيار سعر صرف الدينار (رغم دخل عشرات ملايين البترودولار يوميا !) ، و نضوب السيولة النقدية من البنوك ، و فساد الاعتمادات المستندية ، و رفع الدعم عن الغذاء و الدواء ، و تحكم السوق السوداء بالاقتصاد و السياسات المالية و النقدية للطغمة الحاكمة ؛ جرّاء تحرير الاقتصاد و إطلاق قوانين السوق . و في ظروف ما يكابده المواطنون (بنسبة لا تقل تقديريا عن 90% من تعداد السكان) ، من تدهور الأوضاع المعيشية إلى درجة العوز و العجز عن سد الرمق ، جراء سياسات الإفقار و التجويع ، لحكومات تحالف الوكلاء التجاريين و الإسلاميين و الليبراليين الجدد .. من جهة ، و من جهة أخرى جراء التشظي الاجتماعي و الفوضى الاقتصادية و الانقسام السياسوي ؛ حيث تَسارع الفرز الطبقي بوتائر غير مسبوقة الحدة ، متخفيا وراء المطالب المناطقية و الجهوية و القبلية و الإسلاموية ..
فإنه ليس مقبولا ، على وجه الإطلاق ، أن تنفرد مجموعة سياسية ما أو فئة اجتماعية ما أو تكتل مصلحي ما أو لجنة ما أو (هيئة تأسيسية ما) ، بصياغة الدستور ؛ الذي يجب أن يكون انعكاسا حقوقيا لآمال و تطلعات و مصالح تلك القوى الاجتماعية المغبونة .. ضحية التهميش و الاستغلال و القمع ، التي تمخضت معاناتها المضنية عن انطلاق انتفاضة فبراير الشعبوية العشوائية ، حيث كان أبناء الفقراء و المفقَرين ، من الشباب الذين عانوا طويلا من الإهمال والبطالة والحرمان و فقدان الأمل ، هم وقود أحداثها الدامية ، و هم من دفعوا تكلفة استحقاقاتها الباهظة ؛ دون أن يكون لهم - في واقع الأمر - أي ارتباط بأية أيديولوجية أو أي حزب أو أي برنامج تنفيذي محدد أو أية قيادة سياسية أو أية جهة تنظيمية .
ولأن الأغلبية الشعبية و الفئات الاجتماعية الأقل حظا من الثروة الوطنية ، هي التي احتضنت الانتفاضة وغذتها بعشرات الألوف من أبنائها الناهضين ضد سياسات الإفقار و الإقصاء و الإلغاء و كتم الأنفاس ؛ فإن مشروع الدستور الليبي الجديد ، يجب أولا في المضمون : أن يعكس في صياغة كل باب من أبوابه ، صورة المصالح الحياتية اليومية لقواها الشعبية الأساسية .. بكل الوضوح و القوة والحسم ، وأن يعبر في كل مادة من مواده تعبيرا واضحا و دقيقا ، جليّا لا لبس فيه ، عن مطالب و أمال الجماهير الشعبية لانتفاضة فبراير .. في الحرية ، والعدالة الاجتماعية (انحيازا لمحدودي الدخل) ، والكرامة الإنسانية ، كحقوق ثابتة مصانة لكل مواطن . و يجب ثانيا في الشكل : أن يُطرح مشروع الدستور الجديد ، لأوسع مشاركة مِن قِبل الشعب الليبي ، ليس للاستفتاء عليه ، بل لمناقشته مادة مادة ، ليصار من ثم إلى وضعه في صيغة تجميعية (توافقية) ، ينجزها ممثلو الشعب ، في أول مجلس نواب تفرزه انتخابات نيابية قادمة ، و يمكن أن يطرح من بعد للاستفتاء العام بـ (نعم) أو (لا) ، على أساس إقراره بالأغلبية المطلقة ، ليصدر في صيغته النهائية كوثيقة قانونية أساسية ، تكتسب شرعيتها و قوتها الإلزامية ، باسم الشعب .
وإنه لواهمٌ أو مُغيّب الوعي ، كل من كان ينتظر وثيقة دستورية بغير الصيغة التي انتهت إليها ، في مسودة أبريل 2017 للدستور . ففي واقع مجتمع متخلف عصريا ، و جمهور مستلب دينيا و ثقافيا ، و سلطة يقودها تحالف الكومبرادور و الكهنوت و دعاة النيوليبرالية ، و استبدادية ميليشيات مسلحة إسلامية و جهوية و مجالس عسكرية قبلية .. يحكمها التعصب الأعمى ، و (نخب) متعلمة تتغطى بعباءة شيخ القبيلة و تُنَظّر لنظام الوجهاء و الأعيان (اللوياجيرغا) ، و حكومات فاسدة عميلة تستقوي بالأجنبي و تستعين بفتاوى شيوخ السلفية المدخلية و الوهابية ، و تاريخ وطنيّ مزوّر ؛ لم يكن واردا - على وجه الإطلاق - أن يظهر مشروع دستور جديد بغير الصيغة التي ظهر بها في مسودة أبريل سالفة الذكر ، دستورا منحازا لمصالح الراسمالية الطفيلية الحاكمة (الوكلاء التجاريون و دواعش المال و الأعمال) ، متبنيا و داعما لقوى و قوانين السوق ، مؤسِّساً لقيام دولة دينية مناهضة للديمقراطية و معادية لحقوق الإنسان .
فحذار حذار من الطوباوية - حتى لا أقول السذاجة - والنزعة التبسيطية الديماغوجية ، التي تُصور الشعب وكأنه مجتمع من الملائكة المنزهين عن الغرضية ، أو كأنه كتلة متجانسة من البشر المبرمجين سواسيةً ، لا فرق فيه بين المواطنين الأثرياء المترفين ، مليونيرات الفساد المنظم و السطو - بالقانون - على المال العام .. و بين المواطنين المُفقَرين و المعدَمين ، الذين يتضورون جوعا و يفقدون كرامتهم الإنسانية و يسقطون إعياءً و موتاً ، في طوابير توزيع ما تيسر من السيولة النقدية - خصما من رواتبهم و مدخراتهم - في انتظارٍ ذليل أمام البنوك ، أشد هوانا و مذلة من الأيتام على مآدب اللئام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.


.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب




.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب


.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات




.. مستقبل مجهول ينتظر طلاب غزة بعد 200 يوم من الحرب