الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ارتفاع الرصيف لا يناسبني

طارق سعيد أحمد

2018 / 8 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


كما أحب أن اتسكع في شوارع وسط البلد بالقاهرة، أحب الجلوس في المقاهي الجانبية حيث اللاأحد فيها أعرفه أو يعرفني، ولأنني شاعرا وكاتبا مغمورا ــ وهذه نعمة كبيرة لو تعلمون ــ يصادفني قارئة أو قارئ من حين إلى آخر بعيد، حيثما أجلس بلا رفيق في الغالب، يتوددوا لي بإيمائة يد ترسل لي في الهواء معني السلام الذي يقع بين الأصدقاء المقربين وأحيانا قُبلة طائرة وأحايين أخرى تومئ أياديهم إلى تلك العلامة العالمية التي توحي بأنني أكتب أشياءا تروق لهم، قد تكون نصوص شعر أو مقالا عن كتاب قرأته مؤخرا لكاتب مستفذا أو مقالا معارضا لهذا النظام الوحْش ــ الذي يأكل معارضيه ليل نهار ــ وحمل على متنه استياءا تشاركنا فيه ضمنيا أو آخر يموج بصفعات من سجيل تضرب وجوه المتأسلمون وأفكارهم المتطرفة أمثال الإخوان وداعش.. وغيرهم.


قدريا لم يصادفني ــ أثناء جلوسي ــ قُراء النوع الثاني أولئك الذين يبغضو جل ما أكتبه ــ وهذه رحمة عظيمة لو تعلمون ــ لأنني ببساطة لا يمكن أن أحتمل تعليقاتهم السخيفة والمتخلفة والمفعمة بالشتائم وأرى وجوههم أيضا، لن يكون هذا عادلا أبدا.


بإستثناء مرة واحدة فقط وكانت في الاسكندرية في منطقة تكاد أن توصف بالشعبية، وليس مهما أن أذكر اسمها هنا في تقديري، كنت أجلس على احدى المقاهي المتراصة على البحر المتوسط ورمقني وهو يقترب مني احدهم وحين ضاقت المسافة بيننا أعاب علي إطلاق لحيتي والباقي يمكن تخيله.. كاد السلفي أن يقتلني ــ كان يقصر جلبابه ــ لولا تدخل السماء.


مع ذلك أحب التسكع والجلوس على المقاهي الجانبية، أدخن في غليوني أو السجائر التي تُلف يدويا، من تلك الزاوية ألفت أنظار الآخرون وتثار حولي التساؤلات العابرة كما يثيروا هم انتباهي وتساؤلاتي الثقيلة كلما عدت من رحلات خيالي أوأحلام اليقظة التي تنطلق ذهابا وإيابا وأنا على متن كرسي المقهى لا حول لي ولا قوة ولا تدخل مني إطلاقا في أي شئ يخص الرحلات المجانية تلك.. والرائعة طبعا، الكل يثير انتباهي بتباين يسمح لي أن أنتقي من بانوراما الواقع مشهدا أو أكثر تحوم حوله الدلالات وتتفجر في أعماقه المعاني كالبركان الثائر لأقدمه طازجا لقراء تلفُني مسؤولية اتجاههم وحب.


أعرف الفرق الآن بيني وبين صديق لي يكبرني في العمر والتجربة الإنسانية والإبداعية أيضا وهو أنني "أمتهن الكتابة" ــ بالمعنى الشامل للجملة ــ بينما صديقي كان يقول لي حينما كنت أعاتبه على ما أراه تقصير منه في اتجاه العالم لعدم رغبته في كتابة مقال رأي في أي شيء يتقنه أنه "لا يعمل عند الكتابة"، هذا الفرق أضعه الآن في قائمة الفروق الجوهرية بيني وبين الآخر القريب وأي آخر يتجنب تداعيات نشر آراءه وخصوصا السياسية منها ــ وأنا أشفق عليهم وأتفهم مخاوفهم ــ هؤلاء أهدوني دون أن يشعروا بسلوكياتهم تلك عدسة بل بالأحرى عداسات تجد مكانها في مجالي البصري، كلما نظرت من حولي في اتجاه الشارع كلما تسكعت فيه وتسكع هو فيَّ


لقد تذكرت عيني بطلة من بطلات الواقع الآن وللأسف لا أعرف عنها شيئا سوى أنها كانت إمرأة عجوز إلى الحد الذي يصعُب معه توقع عمرها ترتدي الأسود وتتكيء على عكاز معدني لونه أسود أيضا، وكنت أشاهدها من زاوية رؤية عريضة، وأنا جالس على مقهى ينزوي من ميدان طلعت حرب ويقترب من محطة مترو محمد نجيب ارتشف قهوتي وأدخن بينما هي تحاول أن تصعد عتبة الرصيف بكل الحيل الرياضية التي ترسبت في ذاكرتها الجسدية وبكل طاقتها الروحية والنفسية معا، لكنها فشلت في الصعود بكلتا قدميها المتورمه ووقفت للحظات تُفكر.. إذن ماذا علي أن أفعل؟، هكذا تصورت السؤال وهو يقفز إلى ذهنها لأنها لم تحاول أن تُكمل في طريقها أسفل الرصيف وتوقعت أنها تقصد الصيدلية والصيدلية التي تقبع فوق هذا الرصيف بالذات أو الماركت المجاور لها، وقبل أن أنفذ قراري بالوصول إليها ومساعدتها في انجاز هذا العمل المستحيل، والذي بدا وكأنه مغامرة ماجنة لصعود عجوز هضبة المقطم بقفزة واحدة، سبقني إليها شابا يتمتع بعضلات مفتولة وبصحة جيدة كان يجلس على بُعد منضده مني كانت هي الأقرب لها، حينها أسندت ظهري على الكرسي كما كُنت أجلس واضعا قدما على الأخرى اتابع الحدث بشغف وعن كثب.


ماذا توقعت للعجوز؟ مهما كان توقعك سيقترب في النهاية من الواقع بشكل أو بآخر، لكنني أحب أن أعتذر ــ قبل أي شيء ــ عن مقاطعتي لسرد حدوته العجوز الواقعية تلك عن آخرها، وذلك لأن العالم اختفى وتبدل في حدود تلك البؤرة الزمنية التي احتوتها واحتوتني، ولا أدري هل كانت رحلة من رحلات العقل الممتعة المباغته أم أن رؤيتي للعالم القديم حيث كنت أنا طفلا بالكاد يمشي هو الذي أتى؟ وأنا الآن أشعر بحضوره الثقيل!، الفرق بين المشهدين كان طفيفا جدا وما تغير تقريبا هو ألوان السيارات وموديلاتها حيث تراجعت لسنوات، وبدت وجهات البنايات أكثر بهجة، وفي عمق المشهد طفل يقف أمام الرصيف عاجزا على صعوده بكلتا قدميه الصغيرة.. أهذا أنا؟


عدت لتوي من رحلتي، ولم أجد العجوز المسكين ولا الرصيف الذي يعلو كلما حاولت قدم واهية أن توطأوه لأن سيارة جيب حمراء التصقت به بالتوازي معه، أطلقت صوتي مناديا النادل ــ وبالمناسبة هو يدعى أحمد وأنا مدين له بثمن كوب قهوة دوبل ــ لأسأله عن ما حدث للعجوز لكنه اعتذر لي لأنه لم يلاحظها من الأساس.. من يلاحظ اليوم مثل تلك الأمور؟ والإجابة .....


هكذا هي الحياة هنا مزيفة، زيف من نوع خاص فيه ترتفع الحياة فوق مستوى الإنسان ذاته، رغم واقعيتها التي يبدو حضورها ثقيلا ورغم أيضا استمالاتها إلى المأساة لكنها مزيفة ومخادعة و(...)، هذا ما يتردد على مسامعي كلما انصهرت في الشوارع والمقاهي أثناء تسكعي أو بمعنى أدق هو ما بلورته من معاني متناثرة انفكت من على ألسنة الناس أو تحركت وبرزت على ملامح وجوههم المتخشبة من فرط الشعور بالظلم والقهر والاحباط وخصوصا ما بعد الثورة التي أذابها نظام السيسي بكل ما أوتي من قوة!.


مع ذلك لا امكانية لتعديل هذا التصور عن طريق المناقشة المباشرة مع هذا الإنسان الذي انتجت له تجربة الحياة هذه المعاني الصلده عن الحياة والعيشه واللي عايشينها وذلك لأنها ــ وبمنتهى البساطة ــ كانت ومازالت تعلو عليه وترتفع كل مكونات الحياة أمام قدمه وأحلامه، كما كان يعلو الرصيف أمام أقدام العجوز والطفل


أما بالنسبة للحياة في حد ذاتها لم يفلح إلقاء اللوم عليها، ولن يصلح من الأمر شيئا، وهذا ليس اقترانا بالرأي الذي يدعيه البعض بأن الحياة جميلة ورائعة، لكنني أراها (أي الحياة) مجرد لفظة هشة لا قيمة لها في حد ذاتها، وذلك لأنها ليست فاعله ولا يمكن أن تكون فاعله ذات يوم، هي بالنسبة لي مجرد انعكاسه صغيرة جدا على مرآة العالم، ودليلي في هذا الشأن ــ قانونا بديهيا ــ يقول "إن الإنسان صانع للحياة وليست الحياة هي من تصنعه".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء وجرحى إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا في مخيم النصيرا


.. الشرطة الأمريكية تعتقل طلبة معتصمين في جامعة ولاية أريزونا ت




.. جيك سوليفان: هناك جهودا جديدة للمضي قدما في محادثات وقف إطلا


.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي




.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة