الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كل الصباحات .. باردة

محمد السعدنى

2018 / 9 / 10
الادب والفن


في صباح يوم بارد وفى ساعة الذروة وقف رجل في إحدى محطات المترو في العاصمة الأمريكية واشنطن، مرتدياً ملابس لاعب بيسبول وقبعته، وبدأ بعزف ست مقطوعات من موسيقى يوهان سباستيان باخ. امتد العزف لقرابة ثلاثة أرباع الساعة، بينما مر أكثر من ألف شخص، معظمهم في طريقهم للعمل. بعد ثلاث دقائق من بدء العزف، أبطأ رجل في سيره ثم توقف لبضع ثوان ليستمع للموسيقى ثم أسرع فى طريقه، بعدها بدقيقة تلقی عازف الكمان الدولار الأول من امرأة ألقت إليه بالمال دون أن تتوقف وواصلت السير. طفل صغير دون الخامسة هو من أظهر قدراً أكبر من الاهتمام، توقف لإلقاء نظرة على عازف الكمان، جذبته والدته تحثه على السير فواصل المشي، ملتفتاً برأسه طوال الوقت، وتكرر هذا الأمر مع العديد من الأطفال، حيث حاول جميعهم دون استثناء التوقف والاستماع فقد شدتهم الموسيقى، بينما ذووهم يجبرونهم على مواصلة المسير. عندما أنهى العزف لم يلاحظ ذلك أحد، ولم يصفق له أحد. لا أحد كان يعلم أن عازف الكمان هذا هو «جوشوا بيل»، أحد أشهر الموسيقيين في العالم، والحائز على جائزة جرامي، وأنه عزف مجموعة من المقطوعات الموسيقية الأكثر تعقيداً، وهو يعزف على كمان قيمته 3.5 ملايين دولار، وقبل يومين من عزفه في مترو الأنفاق، بيعت التذكرة لحفلته في أحد مسارح بوسطن بمائة دولار، بينما خلال هذه التجربة تلقى 37 دولاراً من ستة أشخاص فقط، منها 20 دولاراً من سيدة واحدة هى التى استطاعت التعرف عليه.
لم يكن جوشوا بيل يفعل ذلك محض مصادفة، وإنما فى تجربة مثيرة رتبتها معه جريدة "الواشنطون بوست" منذ قرابة عامين فى دراسة اجتماعية عن تعقيدات الحياة الحديثة وأولويات البشر وسرعة إيقاع العصر واهتمام الناس بالجرى وراء أعمالهم وطموحاتهم ومدى تأثير ذلك على إدراكهم لقيم الجمال من حولهم، ثم تحولت هذه التجربة إلى فيلم وثائقى.
فى الفيلم الوثائقى عُرضت تجربة الفنان جوشوا بيل، وتجارب موسيقيين مغمورين، عاشوا في الشوارع لسنوات طويلة وهم يقدمون فنونهم للعابرين. ومما قاله الفنان جوشوا بيل في الفيلم الوثائقي، أن التجربة التي خاضها في مترو الأنفاق كانت مفاجئة له وغير مرضية، وتساءل هل لم يتلق الاهتمام الذي يستحقه أو الذي اعتاد عليه لأن سياق تقديم الفن تغير؟. وهنا تطرح التجربة والفيلم عدة أسئلة منها: هل يمكننا أن ندرك الجمال في جو غير مناسب وساعة غير مناسبة؟ ثم هل نتوقف لنقدره؟ وهل من الممكن أن نتعرف على الموهبة في سياق غير متوقع؟ وهل طبيعة السياق المرافق للفن تؤثر فى قيمته؟ ثم هل كان للمكان والزمان إيحاء للمتلقي بقيمة الفن؟ حيث لا يستطيع المتلقي أن ينظر للفن نظرة نقية، دون تأثيرات وإيحاءات مصاحبة لهذا الفن. هل تخضع رؤيتنا للفن لأيديولوجيا معينة؟ ثم إذا لم يكن لدينا لحظة لنتوقف ونستمع لواحد من أفضل الموسيقيين في العالم يعزف أفضل موسيقى كُتبت لآلة الكمان، فكم من الأشياء حولنا أثناء مسيرة الحياة تفوتنا ونحن غير قادرين على الاستمتاع بها؟ وكم تغرنا أحياناً المظاهر، فَنُقدِر أشياء ونعتبرها جميلة، ونهمل غيرها ولانراها كذلك رغم أحقيتها بالاهتمام والإدراك والمتابعة.
المفارقة فى هذه التجربة "الدراسة" هى أن الأطفال وحدهم كانوا بفطرتهم النقية أكثر قدرة على إدراك الجمال فى الفن والإصرار على متابعته لولا قيود المجتمع ورغبات أولى الأمر ومشغولياتهم، فالأطفال بطبيعتهم خارج عوامل الأيديولوجيا وضغوط الوقت الحاكمة، وربما حب الاستطلاع كان هو الدافع وراء اهتمام الأطفال. ولعلى لا أكون مغالياً إذا قلت أن طبيعة العصر المتسارع الإيقاع المتزايدة معه متطلبات الحياة العملية تدفعنا جميعاً نحن البشر لا فرق بين شرق وغرب للتركيز على النافع دون الجميل الذى غيبناه عن عالمنا مع ما يمكن أن يضيفه لحياتنا، غير عابئين أننا بذلك قد خالفنا ناموس الكون الذى أبدعه سبحانه ووضع للجمال فيه حيزاً لا ينبغى تجاوزه والافتئات عليه، فاستحالت حياتنا جافة صعبة معقدة، رحنا نشكو منها ومن متاعبها بينما نحن السبب فيما آلت إليه من مشقة ومكابدة وتعب. ولأن الصنعة غلابة، فتقديرى العلمى أن من صمم التجربة وقع فى خطأ منهجى باختياره ساعة الذروة الصباحية حيث مواعيد العمل الضاغطة والمدارس، بينما لو اختار ساعة العودة من العمل لكانت نتائج التجربة أكثر تعبيراً وموضوعية. عموماً لقد عقدت الواشنطون بوست تجربتها مع جوشوا بيل ذات صباح يوم بارد، وما أكثر الصباحات الباردة فى أيامنا وحياتنا الباردة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي


.. الأسطى عزيز عجينة المخرج العبقري????




.. الفنانة الجميلة رانيا يوسف في لقاء حصري مع #ON_Set وأسرار لأ