الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاثة مشاهد قصصية

احمد الباسوسي

2018 / 9 / 11
الادب والفن


لحظة
كل شيء كان يسير على ما يرام، أمور البيت، الأولاد، العمل ومشاكله العادية، علاقته السرية بصديقته، حيويته ونشاطه الجسدي، كل شيء كان طبيعيا ولافتا لأنظار جميع المتعاملين معه. باختصار كله في العادي حسبما يقولون. لكن الذي حدث بالأمس كان فارقا ومدهشا. خرج مثل المعتاد في المساء لممارسة تمرين المشي شبه اليومي على طريق جانبي بطيئ بالقرب من البيت، المسافة بين بيته وطريق المشي تسمح له بالترجل وكان يحب ذلك، خطف سلسلة مفاتيحة من فوق الكومودينو، دسها في جيبه وكذلك هاتفه المحمول، استثقل دس حافظته المحشوة باوراقه الشخصية والنقود في جيب بنطاله، تركها ومضى سريعا ليركب الطريق الاسفلتي الجانبي شبه المظلم ويبدأ تمرينه المعتاد. الظلام يتعمق، حركة الأقدام المترجلة تكاد تختفي من حواليه، لم يعد هناك أصوات أو أشباح بشرية يمكن رؤيتها من بعيد، انفاسه تتلاحق مثل قطار سريع يمضي من دون سيطرة، توقف في مكانه، اضاءة أعمدة الانارة الباهتة بدأت تتراقص ثم تأفل في عينيه المرهقتين، الأرض من تحته ترتعش بشدة، كل شيء يطوف حواليه، نغزة الصدر القوية القصيرة، والسقوط جوار الرصيف تزامنا معا بطريقة مدهشة في لحظة سرقا فيها الزمن قدرة صاحبنا على الصمود. في الصباح المبكر التالي عثر عمال النظافة على جثة لرجل بدين راقد على ظهره، فاردا ذراعيه الى منتهاهما، وعيناه تطالعان السماء في استسلام، لم يعثر العمال في ملابسه على اوراق هوية. ولم يتعرف عليه أحد من المارة. بعد عدة ايام نشرت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي صور ومناشدات للبحث عن رجل مفقود ومطالبات بعودته الى اسرته واطفاله المكلومين.
احتيال
قالت الجميلة لصاحبتها الجميلة " لم اعد اتحمل غموضه ومراوغاته ومناوراته"، صاحبتها الجميلة لم تبد اندهاشا، طالعت الشارع، وقطرات العرق التي تنز من جبينها المهموم المتعب. خيوط الزمن تمضى من دون تحفظ، تنسج شبكة من الكآبة والأخاديد الدقيقة على جبين ورقبتي الصديقتين الجميلتين. استدارت الجميلة في اتجاه الشارع توقف سيارة أجرة، صاحبتها الجميلة اخرجت منديلا ورقيا تجفف عرق الجبين والرقبة، أرسلت ابتسامة الى الشارع الغارق في الفوضى والأشباح المتجهمة المحتالة. الجميلة التي قررت قتل علاقتها بالرجل الغامض ما تزال حائرة، مترددة، اشاراتها للطريق ولسائقي الأجرة لم تجدي نفعا، ما يزال عرقها ينز سخونة واضطرابا وقلقا. من بعيد ظهر شبح الرجل الغامض المراوغ يشير بالتحية الى صاحبتها الجميلة المبتسمة التي تعلم جيدا اين تنظر؟ ولمن تبتسم؟.
اختباء
الآن فقط نجح في لفت انتباه العالم من حوله، مات. عثر عليه صبي في الغرفة الفقيرة الضيقة التي يقطنها. كان مستلقيا وسط كومة هائلة من القمامة والخرق القديمة البالية وأدوات الطبخ الصدئة. ليس هذا كل شيء بالطبع، هناك تفاصيل يتحتم سردها لاستجلاء الواقعة والخروج ببيان للعالم يعلن وفاة الرجل الذي لم يراه أو يشعر به أحد طوال حياته. اعتاد السير بجوار الجدار وأحيانا داخله، لم يترك من أثر وذكرى سوى مشيته العرجاء داخل الشارع متوجها أو عائدا من عمله الغامض، وتلك الابتسامة المبهجة التي تغرق وجهه وتشي لكل من يلتقيه ان الدنيا بخير. الصبي الذي عاين الواقعة اعتاد الانحراف الى غرفته كل صباح قبل ذهابه الى عمله، يطرق بابها الخشبي القديم شبه المفتوح، المفتت الأوصال من فرط التشيخ. يأتنس بصوت تزييقة الباب المزعجة كأنها مطرقة تدق النافوخ. يواجه عمه الذي تمدد على الأرض بين مخلفات الغرفة التي لاتزيد مساحتها عن متر في متر ونصف، هذه المساحة كانت عبارة عن منور منتنفس وحيد لنوافذ المنزل المخنوق المتهالك يدخل منها الضوء والشمس أحيانا. اكتشف اخوانه ورثة البيت وملاكه ان قامته تبتعد عن الأرض اقل من متر ونصف، وحجمه صغير لكن مدبلك أو نصف بدين، لذلك اعتبروا المنور نصيبه من ميراث ابيهم في البيت ويصلح غرفة مناسبة يأوي اليها آخر الليل، حيث يرمي جسده على ارضيته حتى الصباح. الصبي المترقب يحتضن العيون الضيقة للرجل الغطيط والتي تكون قد تفنجلت بفعل تزييقة الباب التي تضرب الشارع كله بالازعاج، يرميه بالصباح الطياري قبل ان يعيد الباب الى وضعه السابق ويتباعد وقع دبيب اقدامه في الشارع. هذا الصباح اختلف، لم يكن هناك فنجلة عيون، ولا حشرجة أنفاس، بل سكون تام مهيب ارعب الصبي. اقتحم باب الغرفة، طفق يقلب في الجسد المسجي، يردد من دون وعي "عمي عمي عمي"، لكن لاحياة لمن تنادي. الصبي المكلوم هو الوحيد في هذا العالم الذي كان يصاحبه ويتحدث معه أحيانا، اندفع بسرعة يخبر اباه وجميع من في البيت. استيقظ الناس في الشارع على جلبة حادث الوفاة واصوات النشيج المكتومة. في الجنازة سار خلق كثيرون، حضروا من اماكن كثيرة ومسافات بعيدة، وكان النعش محمولا على اكتاف أناس لم يتحدثوا معه بكلمة واحدة أثناء حياته، واخوانه خلف النعش يذرفون دموعا باردة ولديهم مشاريع لاستثمار غرفته التي مات فيها. اكتشف نفر من السائرين في الجنازة المهيبة ان هذا المشهد التاريخي يعتبر المرة الوحيدة التي نجح فيها "المرحوم" في لفت انتباه العالم له بعد حياة حافلة في عالم الظلام والنسيان، مكتفيا ببضعة كلمات يدفعها لمن يلتقيهم في الطريق على سبيل التحية، وفيض من الابتسامات يوزعه في الشارع وبين زملائه في العمل من دون هدف أو معنى سوى انها تبرق من داخله البسيط الطيب الذي لايعرف الحسابات ولا الطموح ولا المستقبل ولا الصراع، بل يعلم كيف يتنفس، وكيف يتصالح مع نفسه وعالمه الذي كان يتعمد دائما الاختباء داخله حتى لا يلحظه أحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم