الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
كمال الجزولي: عَبُودُ يُهْدِي غُرْدُونَ وَكِتْشِنَرَ بَاقَاتِ الزُّهُورِ الصَّبَاحيَّةِ اليَانِعَة!
كمال الجزولي
2018 / 9 / 25مواضيع وابحاث سياسية
وددت لو ان القاص والمترجم البارع الزبير علي الذي نقل إلى العربيَّة كتاب أليك بوتر، مؤسِّس قسم العمارة بكليَّة الهندسة بجامعة الخرطوم، وزوجته التشكيليَّة مارقريت، والموسوم بـ "Every Thing is Possible: Our Sudan Years"، قد اختار لترجمة العنوان الجَّانبي "Our Sudan Years" عبارة "سنواتنا في السُّودان"، بدلاً من عبارة "سنوات في السُّودان التي لم أفهم الحكمة من إيثاره إيَّاها، حرفاً وروحاً، رغم أنها، وقد أكون، بالقطع، مخطئاً، تفتقر إلى الحميميَّة المائزة ليس للعنوان، فحسب، وإنما لمجمل المتن. تلك، على كلٍّ، ملاحظة طفيفة لا أخالها تقدح في قيمة التَّرجمة التي اتَّسمت، كما وصفها يوسف فضل في تقديمه لها، عن حق، بالجَّودة والسَّلاسة.
من أمتع فصول الكتاب، وأكثرها، في ذات الوقت، للمفارقة، إثارة للغبن، الفصل الذي يورد فيه المؤلفان بعض الرِّوايات عن صنع تمثالي غردون على ظهر جمل، وكتشنر على ظهر حصان، ونقلهما من انجلترا إلى السُّودان. فالتِّمثالان ليسا أصليَّين، كما قد يعتقد الكثيرون، بل تقليدان لتمثالين آخرين: أحدهما من اعمال أونصلو فورد لغردون، "البطل القومي" بنظر البريطانيِّين، والذي كان حاكماً عامَّاً على السُّودان، وقد ذبحه الثُّوَّار الأنصار على دَرَج سرايه لدى اجتياح جحافلهم المنتصرة للخرطوم، وكان عُرض لأوَّل مرَّة عام 1889م بالمعرض الصَّيفي للأكاديميَّة الملكيَّة بلندن، قبل نقله ليُنصَب في فناء مدرسة الهندسة العسكريَّة بشاثام؛ أما الآخر فمن اعمال سدني مارش لكتشنر، قائد الجَّيش الاستعماري الغازي في معركة كرري، صباح الثَّاني من سبتمبر 1898م، وكان منصوباً في كلكتا بالهند.
حتَّى عهد عبود، كان تمثال كتشنر قائماً في السَّاحة الموسومة، الآن، بـ "ساحة الشهداء" جنوبيَّ القصر الجُّمهوري القديم "سراي الحاكم العام"، وتمثال غردون في باحة وزارة الماليَّة على شارع النِّيل. وفي الحقيقة كانت حكومة الاستقلال قد أصدرت قراراً بإنزالهما وإعادتهما إلى لندن، لكنه لم ينفذ إلا بعد انقلاب عبود عام 1958م!
إستهجن الجُّمهور الإنجليزي، أوَّل عرض تمثال غردون بلندن، تصوير "رمزهم الأسطوري" على ظهر حيوان "متخلف" كالجَّمل! لكن المثَّال فورد برَّر ذلك بقوله "إن الجَّمل كان وسيلة مواصلاته المفضلة"!
نُصِبَ التمثال المُقلد، أولاً، عند زقاق القدِّيس مارتن بلندن، جوار الصَّالة الوطنيَّة للفنون التَّشكيليَّة، قبل أن يُرحَّل إلى الخرطوم. ويورد المؤلفان العديد من المواقف الطريفة التي صاحبت ترحيله، حيث استقرَّ، ابتداءً، في قاع نهر التَّايمز، ضمن حمولة الباخرة "سيداردين"، جرَّاء اصطدامها بباخرة أخرى! وتصادف مرور الباخرة "ليسبيان" التي انتشلته وأقلته إلى الاسكندريَّة، ليقطع، من ثمَّ، ستمائة ميل على القطار حتى الشَّلال، حيث سقطت، مرَّة أخرى، كتلة البرونز التي تزن خمسة عشر طناً، وابتلعها النيل، أثناء نقلها إلى باخرة نهريَّة! لكنها انتُشلت، ووُضعت على ظهر الباخرة، لتشق طريقها، جنوباً، حتَّى حدود السُّودان، ومن هناك، بالقطار، إلى الخرطوم بحري! وبما أن جسر النِّيل الأزرق لم يكن قد شيِّد، وقتها، فقد نُقل التِّمثال إلى باخرة نهريَّة أقلته إلى موقعه المُقرَّر، حيث بُنيت له قاعدة حجريَّة عالية قبالة "سراي غردون"! غير أن القاعدة انهارت تحت ثقله، وغاصت في التُّربة الرَّخوة تحته، مِمَّا استوجب معالجات مُعقَّدة حتَّى أمكن، في النِّهاية، نصبه!
أما تمثال كتشنر المُقلد فحكايته حكاية! إذ كان كتشنر نفسه في رحلة إلى السُّودان عام 1911م لصيد الأفيال والأسود ووحيد القرن، حين عرض عليه خلفه ريجنالد ونجت إقامة تمثال له على سبيل تكريمه. وافق كتشنر، مقترحاً الاستفادة من القالب الذي استخدم في صبِّ تمثاله الأصلي. ورغم أن من شأن ذلك تقليل النَّفقات، إلا أن الخـزينة لم تكـن لتتحمَّـل كلفة مـلء القالب بالنحاس المصهور! لكن ونجت توصَّل لحلٍّ ذكي! كانت ثمَّة أطنان من النُّحاس في هيئة مظاريف فارغة للطلقات النَّاريَّة التي جُمعت من ساحة معركة كرري، وأرسلت لإنجلترا! فما كان من ونجت إلا أن وجَّه بصهرها وصبِّها داخل القالب! هذه الفكرة استدعت إلى ذاكرة المترجم النبيه قصَّة صبِّ المثَّال الإغريقي الشهير فدياس لدرع تمثال الرَّبَّة "أثينا بروماخوس" من برونز دروع الأعداء الفرس المهزومين!
عطَّل نشوب الحرب الأولى عام 1914م نقل التِّمثال من لندن إلى الخرطوم حتى عام 1920م. وكان كتشنر قد لقي مصرعه قبل ذلك بأربع سنوات، عندما قصفت باخرته خلال الحرب في بحر الشَّمال! ولأن وسائل المواصلات كانت قد تحسَّنت شيئاً، وقتئذٍ، فقد أمكن ترحيل التِّمثال من انجلترا، إلى قناة السويس، فبورتسودان، ومن ثمَّ بالقطار إلى الخرطوم، عبر جسر النِّيل الأزرق الذي كان قد شيِّد آنذاك.
هكذا تسلم مكتب السِّكرتير الإداري، ذات صباح، إخطاراً روتينيَّاً لاستلام طرد من مخزن البضاعة بمحطة السِّكَّة حديد بالخرطوم. لكن السَّاعي المسكين، عندما ذهب، كالعادة، لإحضار الطرد بدرَّاجته الحكوميَّة، فوجئ بحاوية خشبيَّة ضخمة، وبداخلها كتشنر على صهوة جواده بحجم أكبر من الطبيعي مرَّة ونصف!
وعندما روى المؤلفان للمرحوم ثابت حسن ثابت، أوَّل مدير سوداني للآثار والمتاحف، حكاية صبِّ التِّمثال من نحاس فوارغ رصاص كرري المصهور، أطلق "إحدى ضحكاته العميقة .. وأجاب بصوت يُذكِّر بصوت الفنَّان بول روبسون: إذن هذا ما قالوه! أنا لم أسمع بذلك أبداً"!
أخطر ما في رواية "كرري بروماخوس" هذه، لو صحَّت، أن قرار إعادة التِّمثال إلى بريطانيا يُعتبر ضرباً من "الخراقة السِّياسيَّة"، إن لم يكن أكثر من ذلك! فالتِّمثال، في حقيقته، مصبوب من نحاس الذَّخيرة التي أفضت لاستشهاد عشرة آلاف، وجرح ستة عشر ألفاً آخرين، من أجدادنا الأشاوس الذين تدافعوا في ساحة الوغى كما الضَّوارى الكواسر، لا تعوزهم البسالة، ولا الاستعداد للفداء، فأبدوا من ضروبهما ما أذهل المراسلين الحربيِّين ومؤرِّخي معركة أم درمان، لولا أن العزلة الخانقة عن وقائع عالم كان ما ينفكُّ يتطوَّر من حولهم، مع مغارب القرن التَّاسع عشر، فرضت عليهم ألا يبلغوا من عِلم السِّلاح أكثر من بقايا مدافع هكس، وبنادق الرِّيمنتون، وأبو صرَّة، وأبو روحين، وما إليها، بينما جيش كتشنر يحصدهم حصداً برشاشات المكسيم، ودانات المنثار، وشظايا الخراطيش، ونيران البوارج المدرَّعة! فكيف تنازلت الارادة الوطنيَّة، تحت رايات الاستقلال الذي تحقق بعد ما يربو على نصف قرن من ذلك، عن نحاس الذَّخيرة التي قضت على تلك الأرواح الزكيَّة، لتعيده، طائعة مختارة، إلى دولة المتروبول التي جثمت على صدر بلادنا من فوق كلِّ تلك التَّضحيات؟! ألم يخطر ببال أيٍّ من القائمين على الأمر وقتها، مدنيين وعسكريين، أن الواجب كان يقتضي إعادة إذابة تلك الكتلة ليُشيَّد منها نصب تذكاري ضخم تُنقش عليه أسماء أولئك الشُّهداء الأماجد، بدلاً من الصَّرف البذخي على الاحتفال بإنزال التِّمثالين وتسليمهما إلى بريطانيا؟! ومِمَّا يزيدك غبناً أن تطالع تفاصيل المراسم الملوكيَّة التي أحاط بها جنرالات عبود إنزال التِّمثالين، وحفظهما، لشهرين، في فناء خلفي بمبنى متحف الآثار القديم، قبل ترحيلهما، معزَّزين مكرَّمين، إلى موطنهما! بل وقد حرصوا، أيَّما حرص، على الطقوس المبهظة لإسدال السِّتار عليهما، تمهيداً لإزاحتهما من قاعدتيهما، وترتيب طوابير الشَّرف الفخيمة أمام كلٍّ منهما، وتنظيم فرق الموسيقى العسكريَّة في ستراتها البيضاء الزَّاهية، وتنُّوراتها الزَّرقاء ذات الثَّنيَّات الطوليَّة، تستقبل السَّفير البريطاني بالمقاطع الافتتاحيَّة من نشيد "حفظ الله الملكة!"، وتعبِّق الأجواء بالألحان "الاسكتلنديَّة!" الصَّدَّاحة، ثم تختم بـ "لحن الوداع" التَّقليدي!
وكما لو ان كلَّ ذلك لم يكف "حفنة الجَّنتلمانات"، كما لقبت التَّايمز اللندنيَّة، وقتها، جنرالات عبود، فقد واظبوا على أن يبعثوا إليهما، كلَّ صباح، بباقات الزهور النَّضرة على حساب دافعي الضَّرائب! وفسَّر خادم دولة يسكن في الجُّوار ذلك المسلك للمؤلفين بقوله، لا فضَّ فوه: "السودانيُّون بطبعهم يحترمون البسالة والشَّجاعة"! على أن المترجم الوطني الذي فاض به الغبن، ولا بُدَّ، أضاف التَّعليق التَّالي على النَّصِّ: "عندما يتعلق الأمر بالغزاة والمحتلين فيستحيل على سوداني أصيل أن يحترم تلك الصِّفات"!
***
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت
.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا
.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و
.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن
.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا