الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبقرية طه حسين (10) هل يخرج من محبسي أبي العلاء؟

عمر أبو رصاع

2006 / 4 / 6
الادب والفن


استقبل طه حسين أيامه الأولى في فرنسا بسعادة غامرة ، سعادة تشعره بفرق الحال وكيف أنه نجح بعبور الخط الفاصل بين فسطاطين من الحياة ، الاول قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا يكابد شظف العيش وضيقه ، حياة مادية عسيرة قاسية مقفرة يضاف لها ضيق نفسي وفقر حياة معنوي ، كنهه شعوره بقتامة ما كان يختلف إليه من الدرس ذلك النوع المكرر المألوف المليء بالعنعنة ، نوع من المعرفة تكلس فإذا بهذا النوع يهجر سيرته الأولى ويتحول قيدا على العقل لا زادا له ، بل قل قيودا يشقا بها العقل وتشق عليه فكأنها صخور ثقيلة ألقيت لتحطيم الذائقة ، أين تلك العيشة التي شقي بها روحا وجسدا من الحياة التي يقبل عليها في مونبلييه.

ربما أحب ما لقيته نفسه التواقة للمعرفة أنه كان لا يسمع درسا إلا أصاب منه معلومة كان بها جهولا ، فأي فرق بين أن تجلس مستمعا لما تكاد تكون له حافظا بل ربما تسبق شفتاك مرددة بهمس ما سيقوله الملقن توا وبين أن تقبل على الدرس متوقعا أن تجد في كل مرة شيء جديدا لم تكن لك به معرفة من ذي قبل ، نوع جديد من تلقي العلم مسه مسا خفيفا في الجامعة في مصر ثم ها هو يجده العلم كما يؤتى في فرنسا ، يجد ذلك النوع من العلوم الذي أعد وفق مناهج ترعى أول ما ترعى ذوق المتلقي وبيئته هو ، وحاجاته في واقعه لأن المعرفة إنما تراد لمنفعة العارف في واقعه هو لا في لحظة مضت ، الباحث يقف في لحظته تماما ويجب أن لا ينسى ذلك أبدا وإلا أصيب بغيبة الوعي ، وعليه أن يحاكي ما مضى من مكانه ودون أن يفقد وعيه بمكانه ، وعلك تلمس جذر العطل العميق في المفاهيم السلفية المنغلقة للتراث ذلك أنها مصابة بعمى الزمن ولما كان استلهام التراث من مكانه وتصيره أداة لخدمة الواقع ليس من ما تقصد له تلك الحركة السلفية قامت بكل خشونة عاملتا على تحويل الواقع - نعم واقعها هي تماما – غافلة عن حركة التاريخ لتخضع الواقع الآني لتلك اللحظة الأسطورية الكامنة في ذهنها ذلك أنها لا ترى التاريخ حركة تطور مستمرة وإنما تراه منحنى ذروة سنامه هي تلك اللحظة الماضوية التي طمس واقعها وتم اضفاء الهالة الأسطورية عليها .

في بداية مشواره في فرنسا قرر طه حسين هدفه الذي قصد فرنسا من أجله ، وهو أن يجوز الإختبارات و "يظفر بالدرجات الجامعية التي لم يظفر بها أحد قبله من مواطنيه فلم يكن له بد من أن يظفر بدرجة الليسانس".

حتى حينه ما كانت القراءة للمكفوفين مما عرف في مصر ، لذا كان على طه حسين أن يتعلم تلك الأبجدية المكتوبة لمكفوفي البصر ، لكنها ما كانت له بيسيرة ليس من حيث تعلمها إذ سرعان ما أتقنها وبالغتين : الفرنسية واللاتينية ، لكنه وجد أن جل الكتب التي يحتاج لم تكن موجودة بهذه اللغة ، إضافة لكونه قد ألف تلقي العلم بأذنيه منذ البدء ، بدت له تلك الطريقة بطيئة تحتاج إلى وقت طويل وتشق عليك أكثر عندما تكون حديث عهد بها كطريق للتلقي ، فما كان له من محيص عن اتخاذ من يقرأ عليه ما يحتاج من الكتب.

مما يذكر بهذا الشأن دراسة أعدت في علم النفس تشير عن كثب إلى طرائق التلقي والتعبير ، كنت ممن يلتمسون تلك الفروق في أثر طريقة التعبيرعلى التعبير نفسه ، لدى الطلبة والأساتذة على حد سواء فلا أميز لتلك الفروق سببا ، فأجد طالبا مثلا يجيد إن عبر بالكتابة ولا يجيد إن عبر قولا أو العكس ، حتى أنك لتخاله كاتبا غيره متحدثا وغيره محللا وغيره شارحا أمام زملائه بالوسائل ، وهو قارئ غيره مستمع ، حتى سقطت هذه الدراسة القيمة بين يدي فأدركت أن ذلك إنما مرده في الأساس إلى الطريقة التي درج عليها الإنسان في تلقي المعرفة ، وفي التعبير عنها ووجدت أن خير طريق في تنمية موهبة الإنسان وقدرته على التعبير وتقوية حضوره وشخصيته وقدرته وحضوره بل وتحصيله عامة تحتاج أن نخرج بطلبتنا عن ما ألفناه من طريقة في الدرس خروجا كاملا ، واستحسنت فيما استحسنت أن نخلي بين الطالب والتعبير كيف كان ونقوم معه وبه وبزملائه مقام التقويم ، إنه النقاش و الحوار الحر الذي تضبطه قواعد الحوار وحاكمية العلم والحقيقة ، تلك الطريقة ذاتها التي ميزها الدكتور طه حسين باكرا ووجد أنه ما من إفادة إلا بالجدل والشك والحوار لفتح مجاهيل المعرفة وإضاءة الحنايا والزوايا التي ما نالت من ضوء المعرفة بعد ما ينير مجاهلها. فليس أجمل من سطوة النقد وفعاليته إلا فائدة ما ينتج عنه من حوار خلاق فهو إما يقود لتصويب الرأي وإما لتثبيته وتدعيم حججه بما لم يكن له سبيل لولا الحوار.

استقل عن طه أخوه في المسكن ، بعد خلاف كان بينهما فآثرا أن يفارقا بعضيهما في المسكن ، فعاد طه حسين لشيء من الوحدة كانت تذكره بتلك التي كان يخلو لها في حوش عطا أول عهده بالأزهر ، ولعله مما يذكر ذلك الأثر الحزين الذي خلفه أبو العلاء المعري في نفس طه حسين ، فأبي العلاء بينه وبين طه حسين قواسم مشتركة كثيرة أولها أن كليهما ضرير وكليهما أديب ، وكان أبو العلاء شديد الإيغال في الحزن فتلك طبيعة نفسه ولا شك أن دراسة طه حسين له بل واتخاذه أثره موضوعا لرسالة الدكتوراة أثرا عظيما ، فقد ترك هذا الشاعر العظيم بصماته على طبيعة طه حسين ، خاصة في نزعته الشاكة الحزينة بل قل المتشائمة ، وما كان تجاوز ذلك النزوع أو التعديل من طبيعته من التشاؤم إلى التفاؤل عند طه حسين بسهل ، إنما هو مما اكتسبه واكسبه، وليس أعظم في حقيقة الأمر من الحب طريقة لشفاء النفوس وتقويم ما اعتل من هواها. – يتبع –








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب