الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذبابة

حسين مهنا

2018 / 10 / 19
الادب والفن


ذُبابة.. – قصّةٌ قصيرة
قالَ لي صديقٌ ما بينَ جِدٍّ وهزْلٍ: يا صديقي يا خِرّيجَ المعاهدِ العُليا والمُثَقَّفَ؛ أَنتَ كالماءِ.. قلتُ: كيفَ؟ قالَ لا طَعمٌ لكَ ولا لونٌ، ولكنْ لا يُمكنُني الاستغناءُ عن صَداقَتِكَ! قلتُ: قاتَلكَ اللهُ على الأُولى، وغفرَ لكَ على الثّانيةِ؛ ولكنْ ما دافِعُكَ الى هذا التَّشبيهِ؟ قالَ: ترى وتسمعُ ما يدورُ حولكَ من أَحداثٍ ساخنةٍ فلا تُشاركُ في إضرابٍ أَو مُظاهَرةٍ أوحتّى لا تُبدي رأْيًا،وحياتُكَ لا تزيدُ عن عملِكَ وبيتِكَ وكَرْمِ زيتونِكَ، ودائَرةُ الحياةِ يا صديقي أوسعُ من هذا بِكثير! تبسَّمتُ وقلتُ تفاديًا لنقاشٍ قد يقودُنا الى ما لا تُحمدُ عُقباهُ: كفاكَ تبخيسًا ومُبالغةً، كأَنّكَ تُريدُ أَنْ تقولَ لي: هذا جُبنٌ وانهزاميَّةٌ! لِمَ لا يكونُ موقفي هذا حَذرًا أَو مداراةً منّي لِظالِمينَ أَبناءِ حرامٍ على حَدِّ قولِ والدَتي رحمَها اللهُ! فردَّ قائلٍا: دعكَ من مُبرِّراتِكَ السّاذِجَةِ هذهِ واقبلْ كلامي على أَنَهُ لفتُ نَظَرٍ من صديقٍ مُحِبٍّ؟ يُريدُ أَنْ يُذكِّرِكَ بِأَنَّ السّاكِتَ عنِ الحقِّ شيطانٌ أَخرس! ضَحِكَ وضحكْتُ.. وافترقْنا.
في صباحِ اليوم التّالي جلستُ لِأَتناولَ وجبَةَ الصَّباحِ وتفكيري يعودُ بي الى ما قالهُ صديقي لي؛ وبينما أَنا كذلكَ، وقبلَ أَن تمتدَّ يدي الى الطّعامِ، وإذ بذُبابةٍ تحُطُّ على طعامي مادَّةَ خُرطومَها الصَّغيرَ لتبدأَ بتناولِ طعامِها هي الأُخرى.. ذبَبْتُها فطارتْ، ولكنَّها سُرعانَ ما عادَتْ لتواصِلَ مُشارَكَتَها لي في طعامي.. فعلتُ ذلكَ بها ثانيةً فثالثةً وفي كلِّ مرَّةٍ تعودُ الى مكانِها وتواصلُ عملَها.عزفَتْ نفسي عنِ الطّعامِ وقمتُ لِأُعوَّضَها مِنْهُ بفنجانٍ منَ القهوةِ .
وإن كانتْ تلكِ الذُّبابةُ العنيدةُ قد غابَتْ عن عيني، فإنَّها لم تَغِبْ عن فكري.. قلتُ في نَفسي: ما أَشَدَّ إصرارَها على تحقيقِ ما تُريدُ، وما أَسْرَعَ هزيمَتي! لمَ لمْ أَطرُدْها شَرَّ طَردَةٍ وأُمْحُ آثارَ عُدوانِها وأَتناولْ فُطوري؟ وقفزَتْ صورةُ أُمّي وهي تقولُ لي كُلَّما رأَتني في ساعةِ ضِيقٍ من أَمرٍ ما، أَراهُ أَنا هامٍّا وتراهُ هي تافهًا، أو تُحاولُ تتفيهَهُ لِتأْخُذَ عنّي بعضَ ضيقي " الذُّبابةُ يا ولدي لا تَقتُلُ بل تُغَضْغِضُ المَنافس" (وتُغَضْغِضُ هذهِ من غَضْغَضَ أي نَقَصَ وغاضَ.. هذا ما عرفْتُه عندما بلغتُ مَبلَغَ الرِّجالِ) وتذكَّرْتُ صديقي وحديثَهُ أَمسِ، فخجلْتُ من نَفسي.. كيفَ لا أَخجلُ وأَنا بَشَرٌ والبشَرُ أَشْرفُ مخلوقاتِ اللهِ على هذهِ الأَرضِ! أَجدُ نَفسي مُنْدَحِرًا أَمامَ حشَرَةٍ ضَعيفَةٍ ولكنَّها تسعى الى غايَتِها بعزيمَةٍ وإصرارٍغيرَ آبِهةٍ بِصغيرٍ أو كبير، أو حتّى بِمَلِكٍ أَو وزير.
كتبَ عمْرو بن بحر الجاحظُ: " كانَ لنا بالبصرةِ قاضٍ يُقالُ لهُ عبدالله بن سوار لم يرَ النّاسُ حاكمًا قطُّ، ولا زمَيتًا ولا ركينًا" أي جليلًا وقورًا ثابِتًا. وراحَ يسردُ علينا بروحِهِ المرحَةِ كيفَ حطَّ الذُّبابُ طورًا على أَرنبَةِ أَنفِهِ، وطورًا في مَوْقِ عَينِهِ وهو "مع ذلكَ لا يُحرِّكُ يدَهُ ولا يُشيرُ برأْسِهِ" .. وظَلَّ صابِرًا وقورًا الى أَنْ أخرجَهُ الذُبابُ عن طورِهِ ومن ثَمَّ عن وقارِهِ، فقالَ: "أَشْهدُ أَنَّ الذُّبابَ أَلحُّ من خُنفَساء، وأَزهى من غُراب ، وقد علمتُ أَنّي عندَ النّاسِ من أَزمَتِ النّاسِ، فقد غلبَني وفضحَني أَضْعفُ خَلقِهِ".
أُودِّعُ شيخَنا الجاحظَ مُثْقَلًا بِضعفي البشرِيِّ ليقفِزَ أَمامَ ناظِريَّ المُتنبّي بِعَظَمَتِهِ وجبروتِهِ وهو يُنشِدُ: " ... الَّرَّأْيُ فَوقَ شجاعَةِ الشُّجعانِ". إذًا الرَّأْيُ الحُرُّ شجاعةٌ.. فَأَينَ أَنا من هذا!! ويأْخُذُني سِحرُ التّاريخِ الى خالِدِ بن الوليدِ وهو على فِراشِ الموتِ يندُبُ حَظَّهُ، وكانِ طامِعًا بالشِّهادةِ فبكى وقالَ: " لقد شهدتُ مئَةَ زحفٍ أَو إزاءَها، وما في بدني موضعُ شِبرٍ إلاّ وفيهِ ضَربةٌ بِسيفٍ، أَو رَميةٌ بِسَهمٍ، أَو طَعنَةٌ بِرُمحٍ، وها أَنا ذا أَموتُ على فِراشي حَتْفَ أَنفي كما يموتُ البَعيرُ، فلا نامَتْ أَعينُ الجُبناء"!
أَترُكُ التّاريخَ لِأَهلِهِ وأَعودُ الى نَفسي أُسائِلتُها: مَنْ أَنا؟ وماذا أُريدُ منَ الحياةِ؟ وماذا تُريدُ هي مِنّي؟ وإذا صَحَّ أَنَّ هذه الحياةَ صِراعٌ فَأَينَ أَنا من هذا الصِّراعِ؟ هل أَسيرُ في خِضَمِّهِ أم أَسيرُ على هامِشِهِ؟ وأَعودُ الى صديقي الّذي يجدُني بلا طَعمٍ وبلا لونٍ ولكنْ لا يُمكنُهُ الاستغناءُ عن صَداقتي، وأنا هل باستطاعتي أَن أخذِلهُ وأنا َأَراهُ في جُبِّ النّارِ يبتسِمُ لي، أو هكذا خُيِّلَ إليّ، فصِحتُ وأَنا لا أدري من أينَ لي هذه العزيمةُ ومن أين خرجَتْ صرختي ..أمِن حَنْجَرتي أم من هيجانٍ مُفاجِئٍ في دَمي؟ صِحتُ.. وصِحتُ: لا نامَت أَعيُنُ الجُبَناء!.. لا نامَتْ أَعيُنُ الجبناءِ!! أنا آتٍ إليكَ يا صديقًا يحمِلُ دَمَهُ على راحتِهِ .. أَنا آتٍ اليكَ وأَنا أَلَحُّ من ذُبابَةٍ، وأَزهى من غُراب.

البقيعة/الجليل 7/10/2018








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف


.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??




.. عيني اه يا عيني علي اه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي


.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو




.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد