الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعب لا يريد...

محمد عمامي

2018 / 11 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


طوال طفولتي السياسية تعلمت تقديس الشعب. وقيل لي أنّ هذا الشعب هو من سيقوم بالثورة ومن سيحقق سعادته على الأرض بعد أن يعي أوضاعه ويصوغ أهدافه ويأخذ مصيره بيده فيقوم بمهامه الثورية... كم التهمت من كتب تمجد الشعوب وتنسب لها البطولات، ولكن قليل جدا من يقرّ تلك الحقيقة الفاقعة ألا وهي ترسّب كل أنواع الصفات المقزّزة في الغالبيات الساحقة من تلك الشعوب. العنصرية حدّ الصادية، الجشع والغش والتملق والنفاق والتذلل أمام القوي والاستقواء على الضعيف. في الشارع ترى الجميع قوارض تتآكل وجوعى تتناهش.
يحدث أن تندفع الروح الثورية فتكسر قيدها وتنتشر في صفوف واسعة قياسا بما كانت عليه على امتداد السنين الطوال. وما أن تجتاح عدة آلاف أو مئات الآلالف حتى يعطي ذلك الانتشار المتصاعد والمتسارع الانطباع بكونه عاما وشاملا. وهكذا يبدو للكثيرين أنّ الشعب كله أو جله قد اعتنق الثورة. إنّ ذلك محض سراب. فسريعا ما تخبو تلك الروح الثورية وتتضاءل قاعدتها الاجتماعية من جديد وتعود الثورة الى الوضع الأقلي. من زعزع، إذن، كيان دولة الاستعباد والاستبداد حدّ التهديد بتفكيك أوصالها؟ أليس الشعب العظيم؟ نعم، ذلك هو الشعب حين يعي مصيره فيتغير تغيرا جذريا ويصبح ثوريا لا علاقة له بما كانه قبل فترة وجيزة، يجيبني بعضي المتفائل السمج.
ولكن، بمجرّد فشل الثورة وتمكّن الثورة المضادة من امتصاص هيجان اللحظة الثورية، وعودة النظام القديم بأثواب جديدة، يتبخر كل ذلك المزاج الوهمي ويحلّ محله سقوط مريع ايتيكي ومعرفي ووجداني، وتنشب القوارض البشرية مخالبها من جديد في أجساد بعضها البعض بأكثر حدة وأشد وحشية. إذن، لا يمكن لبعضي المتفائل السمج أن يقنعني بعد اليوم بترهاته حول الشعب الثوري. فالثورة فعل خارج عن معقول تلك الغالبية المتوحشة المسماة شعبا. وهي، إذن، فعل أقلي يتبع مسارا معقدا لا متناه تصارع طواله الأقلية الثورية، لا فقط المنظومة السائدة والدولة القائمة وركام هائل من الموروث الأظلم، بل وتصارع أيضا نفس الشعب الذي هو حامل ذلك الموروث وحامي حمى الدولة والمنظومة الاستبدادية السائدتين. إنّ الأقلية الثورية تدخل في صراع مرير ومتواصل ضد أغلبية الشعب، قبل الثورة وأثناء الثورة وبعدها. أنّ الأغلبية/الشعب تمثل العائق الأكبر أمام تحقق الثورة فعلا لا بهرجا إعلاميا أو إيمانا وتصورا وهميا ينتهي بفاجعة. إنّ ثورة منتصرة هي ثورة قد تخطت مسخها الذي عادة ما يسبقها، وهو عبارة عن إنتاج، واع أو لا واع، للمهزومين/منظمي الهزائم، وهم الغالبية المنافقة المطبّعة مع النظام القديم المتجدد. وهي، إذن، ثورة يجب أن يكون لها من الدوام وطول النفس ما يجعلها تطيح بجميع الحواجز حاجزا حاجزا، خالقة في سيرورة تقدمها أجيالا جديدة تنخرط في الفعل الثوري فهما وسلوكا وممارسة يومية بقدر تحررها من ركام الموروث والمعتاد و"الطبيعي" والمعقول في نطاق المجتمع السائد. وطبعا، ومن بين أخطر الموروثات "الثورية" ما قبل الثورية هو مركزة وتكثيف قوى الثورة وحشدها من أجل هدف وهمي آخر، هو مقبرة كل ثورات القرن العشرين، عنينا به القفز إلى سلطة الدولة والتحكم فيها من قبل أقلية الأقلية الثورية، منصبة نفسها قيادة وحكومة على الثوريين من جهة وعلى المجتمع ككل من جهة أخرى. وهنا نهاية الثورة وانحطاطها إلى دكتاتورية جديدة قد تكون أشد بأسا من سابقاتها وككل سلطة أقلية ستعيد لا محالة انتاج الفوارق الطبقية ورسكلة الاستغلال والاضطهاد.
وهنا المفارقة. فلئن كانت الثورة تبدأ فعلا ثوريا أقليا يعاند الأغلبية المطبعة مع النظام القائم وتتبع مسارات متشعبة ومعقدة لفرض عديد المنجزات الثورية، ضمن سياقات ومراحل متعددة، تصبح بموجبها تلك المكاسب شيئا فشيئا أمرا واقعا، فإنها لا يمكنها النجاح في مهمتها الثورية الشاملة أي قلب المجتمع السائد رأسا على عقب وبناء مجتمع جديد أكثر تحررا وعدلا بدون إدراكها هدفا أوليا هو تخريط الأغلبية في ذلك الفعل أثناء تحققها كثورة ودون ذلك لن تكون ثورة اجتماعية شاملة وبالتالي ستضطر إلى الانتكاس عاجلا أو آجلا نحو هيمنة جديدة للثورة المضادة سواء القديمة المتجددة أو المنبثقة عن انحطاط الثورة نفسها. ولا يجب أن نغفل الدور الأساسي للجهل في حالة البؤس الذهني والثقافي للشعب. لذلك فنصيب التربية والتعليم الشعبيين كبير في الإسهام في رفع العوائق وفتح أفق الخروج من المأزق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز