الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فتيات الرّمل

سيدأحمد إبراهيم
صحفي، قاص، وشاعر

2018 / 11 / 18
الادب والفن


حدثتكَ إحدى الفتياتِ عن جنس النساء ، أخبرتك أنهن جرداوات ، لك في الأنثى ما تزرعه بها ، كصحراء قاحلة ، شمسها دائمة الهيجان ، و رمالها نزاعة للشوى ، ما أن تطأها قدماك إلا و تكون على شفير الصراخ ، إما أن تواصل المسير أو تعلن انكسارك و استسلامك أمام عنفوانها و تتبخر كشيء لا لزوم له . أخبرتك أنهن لسن من صلصال ، بل إنهن الصلصال نفسه ، شكله كما تريد ، و لا تدعه يشكلك فأنت من صلصال أصلًا ، قالت لك في بداية حديثها : احذر فسبيلك إليهن محاط بجهلك بهن ، و ما أن أكملت حديثها ، حتى و أصبحتَ تعرف عنهن ما لا تعرفه عن القيامة ، و قبلتك بحنو على خدك الأيمن ثم نظرت في عينيك ملياً و انصرفت ، يومها أنصتَّ بعناية و باهتمام بالغ ، حتى أنك نسيت أن تمسح دمعتين منحدرتين من مقلتيك ، فتحجرتا ، و نمت في ذلك اليوم و أنت تتحسس موضع الدرس على خديك .

تتذكرُ جيدا حين شددتَ رحالك نحو صحراء تلك الفتاة ظناً منك أنها روضة غنَّاء ، لم تتزود بشيء عدا شوقك و حنينك للارتشاف من بحيرتها العذبة ، نسيت سيفك و درعك و نسيت كذلك أن تأخذ منديلك ، علك أخفيت دمعتيك اللتان أعلنتا انكسارك أمام غرور الفتاة ، و في طريقك لم تأبه لمناداتي لك ، وددتُ لحظتها لو أستطيع جرَّك من ياقة قميصك و أجلسك في مكانك ، لكن كما تعلم ، ليس بمقدوري سوى الحديث المكرر و الثرثرة ، أردت أن أخبرك كيف تتصرف ، أو بالأصح ، كيف لم أتصرف ، كنت سأقول لك : لا تأمن نسمات الخريف ، ففي طياتها تحمل العواصف ، لكنك لم تعرني انتباهك ، فذهبتُ أراقب الرياح و أتذكر كيف سارت الأمور ، حين كنتُ ضاجَّاً بالحياة ، قتلتني إيماءة من وجه ثلاثينية ، كان ذلك في نهاية صيف و بداية خريف ، شعرتُ برطوبة الأرض تحت قدميَّ ، و شممت رائحة المطر ، فانهمرتُ هاوياً على الأرض ، و حين أفقت ، وجدتها قد اختفت . في الليل ، حلمت بها ، حدثتني عن كيف تخرج الأرض من قحطها نباتاً ، أبدت إعجابها بشعري المجعّد ، حكت لي حكاية البشر ، و كلمتني عن ورقةِ التوت ، أشارت إليها على جسدي ، ثم أزالتها باستحياء و ذهبتْ . استيقظت في الصباح و وجدتُ نفسي عارياً من غير إزار ، و مازال طيفها يحوم حول عينيّ ، و ورثت من الحلم دواراً و قلباً منهكاً ، نهضتُّ متثاقلاً قاصداً حيث رأيتها في الحلم ، وجدتها جالسة على أرض خضراء ، تحمل بذوراً في يدها و تدس شيئاً منها في باطن الأرض ، و حين انتهت ، نظرت إليّ و علت وجهها الصافي ابتسامة لا شبيه لها في الكون ، وجهها المنير كسراجٍ شرقيّ ، و شعرها أسودٌ مسترسلٌ كنهر مياهه الليل ، تمشي مبتسمة بناحيتي بخطواتٍ متئدة ، ارتبكتُ حين لمحتُ حركة خصرها المتنقل كأرجوحة ملكية ، فقذفتني بسؤالها : ” ما بك ؟! ” ، و قبل أن أستجمع لساني ، قالت : ” أنا أصلح القلوب المنهكة ” ، تجمدتُّ مكاني و استطعت أن أقول : ” من أنت ؟! ” ، أدارت لي وجهها و مشت في البعيد ، ثم أسقطت ثوبَها و قالت هامسة كأنها لا تخاطبني : ” أنا ابنة الصحراءِ ، سليلةُ الحصارِ الرّمليِّ ، و الجبالِ الشاهقةِ التي صارت إسمنتية ” ، و اختفت كفقاعة صغيرة .

عدتُ إلى كوخي ، و رأسي أسير تلك الفتاة التي حارت معها قواي على الفهم ، كنت أرتب الأحداث في ذهني ، لكنها تتدخل بكل قوة و تبعثرها لأضيع في دهاليز معانيها ، يتملكني الإرهاق ، و الصداع يفتك براسي الأسير ، عيناي شبه مغمضتان ، وجفناي ثقيلان جداً ، توجهت ناحية ركن الكوخ عند زيري الفخاري الممتلئ ، شربت من ما قطرته يداي حتى سقط جفناي نهائيا و أظلمت عيناي ، وجدتُ نفسي سائراً بلا اتجاه ، في بقعة رملية لا محدودة ، و من بعيد ، ظهرت الفتاة مغطية وجهها بقطعة سوداء شفافة ، و تمتطي جواداً أصهباً و ترتدي فستاناً كلون الرمل ، أماطت عن وجهها اللثام ، و أشارت إليّ بأن أركب خلفها على الحصان ، أمسكتُ باللجام و أجلستها أمامي و انطلق الجوادُ الأصهبُ كخليط من الطين و الرمل ، يصارع الرمل بحوافره القوية ، كنت كفارسٍ حاذق فوق صهوة الفرس ، كنت فارسها ، و كانت أميرتي بلا شك . غصتُ في حلمي إلا أن رشقت الشمس الصباحية أشعتها في وجهي و نهضتُّ منهكاً جداً من عدوي على الرمل ، تعلو وجهي ابتسامة نصر لذيذ ، كنا معأ ، أجل ، قابلتها راجلاً و رجعت منها على جواد ، احتفى بنا الرمل الدافئ ، و باركتنا الشمس الصفراء ، و اليوم ، سأراها في نفس المكان ، رمالها الحانية ، و شمسها الحميمة . غسلتُ ما علق بعينيّ من شراب الأمس و توجهت نحو عالمها الذي قابلتها فيه ، محملاُ بما رأيته في منامي و بما دعتني إليه ، بصفير الريح الراحلة و أسراب النسور الطائرة بغنجٍ في سمائها الملساء حين لمستها ، و مثلُك تماماً ، ذهبتُ طائراً لا أستمع إلا لنداء أميرتي في أذني و في صدري خفقان عظيم .

وصلتُ إلى الصحراء حيث الفتاة ، رأيتها ، تعدو بمرح و تتأرجح عناقيد شعرها الأسود ، تدور راقصة على أنغام ضحكتها ، حافية القدمين ، حاسرة الرأس ، براقة الوجه و على صفحته اليمنى بعض ذرات الرمل العالقة ، و لكن ، من هؤلاء ؟ ، كثيرون هنا يمرحون برفقة الفتاة ، يرتدون الفضفاض من الثياب، على أكتافهم علامات متشابهة ، يدورون حول الفتاة بضجة و هي ترقص طرباً لذلك ، ربطوا خيولهم على مقربة ، جميعهم فرسان ؟ إذن ، لم أكن فارسها الوحيد ، شعرت بأن الرمل يمور غضباً من وقفتي عليه ، تقدمت ناحية الفتاة و صرخت : ” يا أميرة الصحراء ، أنا هنا بإزاري المَخِيط و شعري المجعد ” ، إنقطع حبل ضحكتها ، و نظرت إليّ بوجهٍ مستنكِرٍ و قالت بدون اكتراث : ” من أنت ؟! ” ثم مضت في ضحكها تلاعب فرسانها و تمتطي خيولهم ، أحسست كأني أسمع دوياً هادراً للرمل ينادي ، و شعرت بحربةِ الشمسِ الصحراويةِ الساخنةِ تنغرز في رأسي ، تمتمت بكلمات أدرك تماما أن الفتاة لن تسمعهن : ” أنا إبنُ الطينِ ، بقايا ما جرفه النهر من الوادي ، و ما حرسه الأجداد الذين صاروا آلهة ” ، ثم تَبَخرتُ إلى ما لا أدري ، و سقط مني صوتي هذا ، يحوم يثرثر و يحكي الحكايات ، فهل تسمعني الآن أحكي لك ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?