الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيها الماغوط .. هل أخذت الملف ؟

علي شبيب ورد

2006 / 4 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


ما الشعراء سوى جوّالي مشاعر إنسانية ، وربابنة رحلات عاطفية ، ورائين تمادوا كثيرا في التطلع خارج المعقول ؟! وما الشعر سوى تجربة حسّية للإكتشاف الأبدي في المجهول ؟ وما جدوى الشعر إذا لم يكن تواصلا جنونيا لخرق ظلمة المألوف ، بقناديل المخيلة ؟ وما معنى الشعر بلا أسئلة مرعبة حد الذهول ؟ وما سر تواصله إلى الآن وغدا ، إن لم يكن مجديا ؟ وإذا كان غير ذلك ، لِمَ توقف الأنبياء ، وتواصل الشعراء ؟!!!! وهل تتوقف الأسئلة عن كنه وجدوى كتابة وقراءة الشعر ؟ أشك في ذلك لأنه اشتغال وجدانيٌ فلسفيٌ في آن بحثا عن أسرار دائمة الضياع ، وعبقة التحريض على الهرولة وراءها وبلا هوادة . وهو تقصٍّ مؤذٍ
في المطلق عن جوهر الحكمة ومعنى الوجود ، وربما أفدح من ذلك .
أبن السلمية .. المدينة ( الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه ومات حنينا إليها.. والطفلة التي تعثرت بطرف أوربا ....وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين : دميتها في البحر وأصابعها في الصحراء ) حرّض فينا جذوة التلذذ بقراءة شعر التمرد ، منذ أن كنا نلتهم ما يفد الينا من جمرات قصائد النثر الأولى . وحفضنا له كثيرا ، لدهشتنا بغرائبية هكذا شعر ، شعر أبعدنا عن سكونية العمود بصالونات مديحه وأقبية أغراضه السلفية .
عندما قرأنا له ، لم نتصوره إلاّ صعلوكا يفترش الأرصفة ، ويتسكع في المقاهي ، ويسامر البحر ويجوب في شوارع مدينة يحاصرها الرعب والحزن والغبار والأطلال والغربان . وبعد سنين أطل علينا دريد لحام بأعماله المسرحية ، غربة / كاسك ياوطن / شقائق النعمان .
شاعر ومسرحي وناقد سياسي لاذع ، لايمكن ان تنسى أعماله / حزن في ضوء القمر / العصفور الأحدب / سأخون ياوطني / المهرج . ولا يمكن ان ينسى بموته ، لأنه لم يمت جائعا أو سجينا كما توقع هو ، بل مات غنيا بأرثه وحرا في رأيه . ويا لكبريائه وتفرده وعشقه وإخلاصه لفنه ( فليذهب القادة إلى الحروب ، والعشاق إلى الغابات ، والعلماء إلى المختبرات ، أما أنا ، فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق .. لأعود كما كنت ، حاجبا قديما على باب الحزن ، مادامت كل الكتب والدساتير والاديان ، تؤكد أنني لن أموت ، إلاّ جائعا أو سجينا )
هل مات حقا ذلك المتغرب الجوال في صحارى الألم الإنساني ، والمتشكك الواخز ، والمنفلت من ريب أصابع الرقيب ، يقول ما يحلو له ويهذي بما تعرضه عليه مخيلته الجامحة من صور شعرية بلغة بسيطة وفكرة لاذعة ، حتى ولو طالت قداسة القيم ( أحلم بسلّم من الغبار ، من الظهور المحدودبة ، والرّاحات المضغوطة على الرّكب ، لأصعد إلى أعالي السماء ، وأعرف ،
أين تذهب آهاتنا وصلواتنا ؟ .. ) كما أن بساطة لغته الشعرية ، ومرانه الكتابي ، أبعدته عن التقليد الأعمى لقصيدة النثر الأوربية ، ليخلق صورا شعرية غاية في الغرابة والبوح ، معتمدا في ذلك على آليات السرد ( في زمن العطر والغناء والأضواء الخافتة ، كنت أحدّثها عن حداء البدو ، والسفر إلى الصحراء على ظهور الجمال ، ونهداها يصغيان إليّ ، كما يصغي الأطفال الصغار لحديث ممتع حول الموقد ) إن شاعريته المتفردة خلقت من مفردات بيئته المحلية لوحة شعرية بروح متمردة وخيال ثوري ورؤى تنبؤية نقية ، رافعا سلاح الجوع وأنهار الدم والدموع بوجه الجرائم البشرية ، معلنا ثورته إلى كل العالم وكأنه نبي ( أعرف أن حد الرغيف ، سيغدو بصلابة الخنجر ، وأن نهر الجائعين سوف يهدر ذات يوم ، بأشرعته الدامية ، وفرائصه الغبراء ، فأنا نبي لا ينقصني إلاّ اللحية والعكاز والصحراء ، ولكني سأظل شاكي السلاح في (( قادسيّة العجين )) في (( واترلو الحساء )) التي يخوضها العالم ، هكذا خلقني الله ، سفينة وعاصفة ، غابة وحطابا ، زنجيا بمختلف الالوان كالشفق كالربيع ، في دمي رقصة الفالس ، وفي عظامي عويل كربلاء ، وما من قوة في العالم ترغمني على محبة ما لا أحب ، وكراهية ما لا أكره ، ما دام هناك ، تبغ وثقاب وشوارع ) حقا لديه الأداء الشعري ، تجربة متواصلة مع الذات والعالم كشف لنا فيه انه ذلك السهل الممتنع ، وهو يعمد إلى الإشتغال على المفارقة في الصورة الشعرية وببساطة متناهية ( أيها المارة ، اخلوا الشوارع من العذارى ، والنساء المحجّبات ... سأخرج من بيتي عاريا ، وأعود إلى غابتي )
وبقدرة عالية على الإيحاء ، يتقمّص شخوصه شديدي التنوع في آن وفي قصيدة واحدة ، موغلا في مضارب أخيلته ، موحيا إلى قرفه وحنقه من حياته وعبث وجوده ، وبسياق تهكّمي أخّاذ ( أنا أمير ، ها سيفي يتدلّى ، وجوادي يصهل على التلال ، أنا متسول ، ها أنا أشحذ أسناني على الأرصفة ، وألحق المارة من شارع إلى شارع ، أنا بطل .. أين شعبي ؟ أنا خائن .. أين مشنقتي ؟ أنا حذاء .. أين طريقي ؟ ) وما أدهى لعبته الشعرية وهو يمعن في وصف ضياعه وغربته في هذا الكون ، ويزيد في تأكيد تشرده ودوام إقامته في المقهى . إذ يقول
( إنني لست ضائعا فحسب ، حتى لو هويت عن أريكتي في المقهى ، لن أصل إلى سطح الارض بآلاف السنين ) وفي خطابه الطريف لقبر شاعرنا السياب ، يوميئ إلى مدى تعلقه بالسياب وحبه له ، ومدى تأثره الشديد بتجربة وفنه يقول ( يا زميل الحرمان والتسكع ، حزني طويل كشجر الحور ، لأنني لست ممدّدا إلى جوارك .... لا تضع سراجا على قبرك ،
ساهتدي إليه ، كما يهتدي السكير إلى زجاجته ن والرضيع إلى ثديه .. أيها التعس في حياته
وفي موته ، قبرك البطيء كالسلحفاة ، لن يبلغ الجنة أبدا ، الجنة للعدّائين وراكبي الدراجات )
حتى لو هاجمك الدبيب ، وغيّبتك الأرض ، ستبقى فارسا مهرتك المخيلة ولجامك البحر ودليلك المروق ضد العاصفة ، تخلق من الصحراء فردوسا ومن الغيمة مطرا ومن العاصفة نسيما ومن الجنون نبوءة ومن التيه يقينا ومن النسيان ذاكرة ، وتضيف للموتى حبيبا وللأحياء كوكبا وللشعراء قنديلا . شيء واحد عملته بموتك ، أنقصت الغرباء واحدا ، غير أنك رغم هذا وذاك ، كنت للصابرين شاعرا أيوبيا تفرد في تمرده كيانا ومنجزا . كيف لا تكون كذلك وأنت القائل للسجناء والصيادين والفلاحين أبعثوا لي بكل ما عندكم من عويل ورعب وضجر / من شباك فارغة ودوار بحر / من زهور وخرق بالية ... إلى عنواني في أي مقهى ، في أي شارع في العالم ، إنني أعدّ (( ملفا ضخما )) عن العذاب البشري ، لأرفعه إلى الله .
غير أننا نسأل ، بميتتك هذه ، ماذا تفعل لو اكتشفت صدق ما كنت تتوقعه في قولك (( جلّ ما أخشاه )) ونتساءل أيضا : هل أخذت الملف ؟ أم نسيته ؟!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط