الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفكيك نطاقات الكتابة

مجد العرافة

2018 / 11 / 28
العولمة وتطورات العالم المعاصر


"أعرف خطئي ، أنا مفرط الجِدة، مفرط الغنى ومفرط الشغف. أزرع البلبلة ، أملك كلمات تفتِّت قلب إله. أنا موعد لقاء تجارب لا يمكن أن تتم إلى على إرتفاع ستة ألاف قدم فوق كل تجربة إنسانية"

ف.نيتشه


لا يخفى على ناظرٍ أن قراءة سطور من ما يكتبه الشبيبة اليوم تبعث وبإطراد رائحة الخوف والسوداوية و الإستسلام رغم الصور و التراكيب اللغوية اللاواعية التي تريد إضهار عكس ذلك وهو مايمثل بحق نكتة إشكال تمثل فرصة للنقاش الداخلي بين الشباب من جهة و بين ذواتهم والعالم الذي يحويهم من جهة اخرى .

الكتابة والخوف أو المحرك الخفي للكتابة

سمعنا جميعا حكايات عن أناس جبناء تحولوا إلى محاربين شجعان عندما وجدو أنفسهم في مواجهةٍ مع "خطر حقيقي"، عندما وقعت الكارثة ظلوا يتوقعونها، وحاولوا من دون جدوى أن يتخيلوا صورتها، والخوف يأتي في أفظع صوره عندما يكون متفرقا، ومنتشرا، وغامضا، ومشتتا، ومتقلبا، وعائما، مندون عنوان واضح ومن دون سبب واضح ؛ وعندما يستحوذ علينا من دون سبب معقول ، وعندما نشعر بالخطر الذي نخافه في كل مكان ، ولايمكننا أن نراه في أي مكان. إن الخوف هو الإسم الذي نسمي به حالة "اللايقين" التي نعيشها و "نكتبُها"، وهو الإسم الذي نسمي به "جهلنا" بالخطر، وبما يجب فعله لمنع الخطر، وبما يمكن فعله لمنعه وبما لا يمكن فعله أو بالأحرى بما يمكن فعله لصده إذا لم يكن لنا طاقة لمنعه.
هذا الخوف يمثل الخيط الناظم لإنفعالاتنا و إبداعاتنا الخلاقة والتي تأخذ الكتابة قسطا وافرا منها من خلال الوقع التي تحدثه : تمثيلا و توصيفا وتأثيرا .
إن مجتمعنا الحديث "السائل" بتعبير باومان، مثل غيره من أشكال العيش الإنساني المشترك، هو أداة تعين المرء على تحمل الحياة المخيفة[1], إنه أداة تستهدف قمع رهبة الخوف التي يمكن أن تسلب المرء قوته، إنه أداة تستهدف إسكات تلك المخاوف الصادرة عن أخطار لايمكن منعها بنجاح، أو لاينبغي منعها بنجاح من أجل الحفاظ على النظام الإجتماعي, وهذه المهمة الضرورية تتم كما يقول توماس ماثيزن من خلال "الإسكات الصامت"[2]، كما في حالة المشاعر المؤلمة التي قد تحدث إضطرابا في النظام ، في عملية "هادئة خفية لانراها ولا نلمسها ولا نلاحظها"[3].
ولامشاحة في القول ههنا أن هذا الإسكات الصامت خلق بدوره "كتابةً صامتة" وسردية سوداوية و جنائزية، حذونا نحن الشباب حذوها بلا معية بتأثيراتها وتبعاتها، قابضةً بذلك على أرواحنا المتقدة، ذلك أنه هذه الكتابة الصامتة في حقيقة الأمر هي "إسكات هيكلي معمم"[4]، يمثل جزءا من حياتنا اليومية، وهو غير محدود، ويُؤثر فينا أيما تأثير ويحدث بلا صخب، ويمر من دون أن ننتبِه إليه، وهو يتسم بالحركة الدائمة، فينتشر في مجتمعنا، ويزداد تأثيره بإستمرار.

إنحطاط الكتابة الخفي أو الكتابة و الشبحية

إن مسيرة الكتابة عبر التاريخ لم تكن مسيرة منتظمة وواضحة المعالم، بل إنها تتسم بالغموض ذلك أنها قد تعرضت إلى ضربات عنيفة في تاريخ الفلسفة وبخاصة مع أفلاطون حيث إعتبر "الكتاب بمثابة معرفة ميتة وجامدة محتجزة داخل المكتبات [...] كل هذا غريب عن المعرفة الحية وعن الديالكتيك، غرابة الفارماكون (Pharmakon) عن علم الطب" [5]، ثم مع روسو الذي أقسى كل كتابة ليست مرتبطة بعلم الكتابة grammatologique, زد على ذلك دوسوسير الذي إعتبر الكتابة تحجب رُؤية اللسان : إنها ليست لباسا حقيقيا، بل هي لباس تنكري ، لكننا لاننظر ههنا في تفكيك داريدا لإنحطاط الكتابة L abaissement de l écriture، بل إننا نرصد نمطا آخر من الإنحطاط الخفي الذي يضرب أوصال الكتابة والثقافة التي تنشط في كنفها.
وما يحرك الهِمة للبحث في هذا الأمر العجال و الخطير هو أن الثقافة الراهنة -والتي تعتبر المُمول الروحي الأساسي للكتابة وفضاءها المرتحل و الغني- بوسائطها التقنية والرقمية هي ثقافة شبحية، ثقافة ليس لها من نموذج أو أصل غير الشبح، أيقونتها غاية في التشويه والإنحراف عن الأصل و عن المرجع، بعد أن تداعت براديغماتها وتفرقت في عدد لامنتناهي من الصور التي لانظير لها. فتاه الأصل فيها في كل الإتجاهات ولم يبقى سوى الأشباح، إنها ثقافة فسيفسائية فاقدة للعمق والسيرورة، تبعثرت عناصرها وتناثرت هنا وهناك، وساد فيها اللحظي والطيفي العابر.
هذه الثقافة تختزل الكتابة فتنتهكها وتقطع الأوصال السيرورة فيها - حيث أن لغة البرمجة الحاسوبية أضحت أكثر تداولية و تعبيرا وهو لشيء عجاب!- تغدو متعجلة وترُوحُ متعجلة فكأن بالبُطْئ يخنقها فتتبخر حالما يظل طيفها المرتحل أبدا. أما الفضاء فمجالها الحيوي، فلا تميّز فيه بين الخاص و العام. ولأنها لحظية عابرة ، تفتقد ثقافة الشبح إلى العمق فقوامها ليس إلا الفراغ الذي لاتعثر فيه على المركز. ولعل هذه الفكرة تلتقي مع معاينة مارك أوجيه "Marc Augé" في قوله
"لدينا الإمكانات التقنية للتبادل ولكن لم يعد لدينا الكثير لنتبادله" [6].
فنحن نلتقي يوميا بالصوت والصورة وبالمعلومة مع بقية أرجاء العالم لكن دونما شيء نتبادله غير الأشباح، فالتعايش الدائم مع الصورة يعزل الفرد ليُيستبدل بأشباح الآخر-هكذا يضيف مارك أوجيه.
نحن إذن، إزاء فترة إستثنائية تصاعدت فيها في رأيي صورة الأشباح [7]، وهو مايكشف لنا أن الثقافة الراهنة التي ساد فيها اللحظي العابر، قد عطلت بقفزاتها المتناثرة حيوية المخيال، فأسرته، وإنكمشت قدرته الإبداعية بتعبيراتها الحرة والمولدة بحرارتها الإجتماعية لضروب من الملامح والأساطير و الحكايات، هي في العمق دقات قلب المجتمع.
تدعو هذه الثقافة الشبحية العابرة إلى صياغة روح وأسلوب للكتابة جدي وطريف ومجازف ومقدام لا يهاب الفرق و التباينات ، إستنباط أدوات منهجية و معرفية جديدة تستطيع مسايرة الظواهر القصوى، وتحسس عناصرها الإفتراضية.

الكتابة ومطلب اليقظة و التفجّر

إن الكتابة تتجه صوب العالم والذات و الآخر والجسد والتاريخ والسياسة والمعرفة، مهمتها عسيرة ولا ريب لأنها تتجذر في عمق واقعنا وتهيج مع إنفلاتات إنفعالاتنا ومترجمةً بذلك أعمق أمالنا وتطلعاتنا.
إذا كان الإنسان كائنا في العالم فكتابته ليست في إحتقاره أو هجره بل في إنتمائه إليه وفي إعادة تشكيل طينته شأن مايفعل النحّات في المادة أيًا كانت حتى وإن لمْ يتحصل على المعنى الذي يريده إذ تجبره مادة فعله على تنسيب معنى إبداعه شأن مايُجبر الوضعُ الإنسانٓ على أن يكون معنى وجوده متناسبا مع تعقّل ذلك الوضع وتحمل عِبئه والعمل على إستثمار قدراته فيه. فالتهديد بموت القيمة هو تهديد بموت المعنى والكتابة و الحرية في حياتنا ذاتها وهو أمر يتأكد يوميا في التفكير و التعبير والعمل إذا ما سوّرتها الدغمائية والآلية والأنانية المنهمة ببذل الجهد الأدنى والإنشغال المحموم بمضاربات رأس المال وإمتداح التّفاهة ومؤازرة رهانات المتنفّذين بدءا من تربية الأطفال وحتى شؤون السّلم والحرب والهيمنة على العالم.

مراجع وإحالات :

1- Zygmunt Bauman, Liquid Fear, Arrangemet, Cambridge, 2006, p19 .
2-Thomas Mathiesen, Silently Silenced: Essays on the Creation of Acquiescence in Modern Society, London: Waterside Press, 2004, pp 9-14.
3-نفس المصدر
4-نفس المصدر
5-Jacques Derrida, La dissémination, Editions du Seuil,1972.
6-Marc Augé, Culture et déplacement, in qu est-ce que la culture?, Editions Odile Jacob, 2001, pp.(300-303).
7- Gilles Deleuze, Logique du sens, Les Editions de Minuit, Paris,1969, p.96.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات الهدنة: -حماس تريد التزاما مكتوبا من إسرائيل بوقف لإ


.. أردوغان: كان ممكنا تحسين العلاقة مع إسرائيل لكن نتنياهو اختا




.. سرايا الأشتر.. ذراع إيراني جديد يظهر على الساحة


.. -لتفادي القيود الإماراتية-... أميركا تنقل طائراتها الحربية إ




.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب