الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متاهة الوجود

يحيى نوح مجذاب

2018 / 12 / 2
الادب والفن


رغم أنها ما زالت حيّة تتنفَّس في تلك البقعة النائية من الأرض التي كان يقطنها أصلاً الأبورجين(1) تحت قُبة السماء المترامية، لجأت إليها بعد أن تزلّزَلت الأرض تحت أقدامها في مهد الحضارات الأول، إلاّ أن الزمن الذي ابتلع معظم كيانها وأحالها الى كتلة مبهمة غامضة في ذلك البُعد الذي لم يعد قريباً عن ناظريه في رحلة المسافات بقياس الفراسخ والأميال البحرية التي يعتمدها ربابِنة الفُلك، وُلدت من جديد وحلّت في جسد آخر بعد أربعة عقود مُضنية احتدمت فيها أحداث جِسام غيّرت معالم التاريخ والبوليتيكا(2) والديموغرافيا(3) والسيبرنطيقا(4)، فتمثلت أمامه بكيانٍ إنساني آخر في جسدٍ غضّ آسر، وسمرةٍ رهيفة قاتلة، ومشاعرَ مُترعة خارقة.
هكذا يُعاد كل شيء من جديد ويُصَبُّ بثوب قَشيب آخر. نظريات حُلول واستنساخ لبني البشر، فكيف إذاً تُوقَظُ الأحاسيس وينهضُ الجسدُ البالي من رقدته وتستعر الذكورةُ التي اختزلتها زخّات البَرَد المتوالية، إذْ لا خلق بدون حرارة وتوهّج، ولا إبداعَ دون خلْقٍ عظيم. الخطُّ الزمني الآيل للخفوت لا تشعله الأماني الضالة ولا الأحلام الغاطِسة في الجحيم حيث يرقد الشياطين، وفي الليل الأخرس تنبثق الأفكار الهوجاء وتنطلق في فَلَوات الإبهام.
كان الجسد يتوسّد أكوامَ كراريس وصحف وأجلاد معاجم ومخطوطات كتب قديمة تتنشق غبار الأزمان. الأعين مغمضة على بآبيئها، قافلة مصاريع الأجفان على حدقاتها، فهي لا ترى العالم المنظور بكلِّ أشكاله في انكسارات الضوء أو انعكاساته، بل هي منفتحة إلى الداخل حيث أعماق الذات المنبثقة نحو العوالم الأثيرية اللامحدودة التي وَسِعَت كل شيء. قد يتلاشى مكنونُ الأفكار ويتبخر إذا غابت عنها شموس نهارين صقيعين، فإيقاظ خلجات النفس من سباتها الطويل قد لا يُصيب مرماه عندما يأخذها مسار الزمن في رحلة اللاعودة حيث العَماء الأخرس مُدلهم الظلمات في غياهب القدر.
صورة الجسد القديم الذي كان يتوق لقطرة ماء حيث العطش الأكبر، إنه في لُجّة احتدام الشفاه الناعضة.
الحمدُ كلّ الحمد، بل السّخطُ كلّ السّخط لهذه الأجهزة الرقمية التي نقلت البشر الكسالى إلى عوالم افتراضية من خيال غريب، وآفاق واسعة للسوفت-وير(5) في النُظُم التي ابتدعتها عقول الغاوين فأَسَرَت الملايين من الأنفس المتصارعة المتجمدة ردحاً، المحترقة أرداحاً، تلك التي لم تُوَظِّف سُنن الكون في نَسق الديمومة والصلاح المُبين.
عندما كانت الرسوم تلتقطها عدسات الكاميرات الصندوقية الكبيرة ذات العباءة الحالكة السّواد وتُطبع على الورق المُقوّى بلونين اثنين لا ثالث لهما حيث نصاعة البياض وحلكة السواد كانت تتوسّط زملاءَ وزميلات دراسة في رحلة براري ربيعية خَضِرة شاسعة فسيحة حيث طراوة الهواء النّدي والشمس الدافئة الحانية، وَجَدَتْ كفّها تلتقط لُقَيمة في خوان مدور أحاطه الغارقون بالوجد. وبعد أن قامت الدنيا ولم تقعد كانت روحها الأثيرية التي خَبرت لعبة العشق في سنين الجمال لم تعد تسكن جسدها الرائق الذي تَحَوَّل بفعل حِراك الأجرام والكواكب إلى كتلة لحم متشحمة غابت عنها استداراتها التي أشعلت ذكورة الغاطسين بالخيال والغواية، فحلّت بنظاراتها السوداء، وابنتها الوحيدة ذات العشرين ربيعا تتمايل مُنتشية مع عريسها الأنيق في حفل زفاف مُبهر نقلها من مدن القنابل المتفجرة إلى بلاد الكناغر الناطّة ممتداً إلى زمن آخر ستحرق فيه سليلتها أربعة عقود أخرى حتى ترث كتلة الجسد المتغضن في طريق الغموض المُبهم حيث الوافدون الجُدُد يُزيحون القُدامى في متاهة الوجود العجيبة.

يحيى نوح مجذاب

الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأبورجين : سكان استراليا الأصليون.
(2) البوليتيكا: تعني السياسة وتطلق أيضاُ على الذين يتقنون فن التهريج والمكر والكذب.
(3) الديموغرافيا: علم السّكان.
(4) السيبرنطيقا: علم التحكم الآلي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا