الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مركز التسوق

محمد جهاد

2018 / 12 / 3
الادب والفن


في مركز التسوق
صباح الاثنين ليس فيه اي جديد تحت قبة مركز التسوق المترامي الاطراف سوى هذه الطفلة القادمة من المجهول، تضحك تارة ثم تقف لتوزن خطواتها ولتستطلع الوجوه التي لم تالف، تميد تترنح تكاد تسقط فتستوي، تنظر بشيء من الاستغراب الى قدميها ولتتاكد من خلوها من العواثر وكانها تلوم الاهل لتركهم ارضية المركز دون فرشها بالسجاد، ولماذا تتغير الاشياء اذ كانت تبدا بالوهم وتنتهي بالسراب.
معطفي الصوفي يسحنني، الاضواء الملونة تلك تتغير مع همسات اليانعات الباحثات عن الاخبار العاجلة في عالم الازياء والاناقة دون اعتبار للكوارث الناتجة عن ارتفاع حرارة الاجسام، سروال ممزق وقميص مقدود وان لم يلبسهما احد، حمر شفاه ليست بحمراء تدمي القلوب وتنزع الاعتراف دون عناء، ظلال للاجفان التي تشحذ الهمم وتعلم الغزل، كحل غير داكن للعيون الناعسة تصدر احكاما بالمؤبد دون مرافعة، مساحيق للخدود النازفة تزيدها دموية، ملابس وملحقات ملابس بكل الوان الطيف تفرغ الجيوب ولا تستر لحما، واي لحم.
تسير الاخرى ويتبعها الطفل المشاكس حاملة معطفا بيد وتدلي بالاخرى كيسا مصنوعا من اللدائن الرقيقة، تتطلع الى السقف تارة وتارة الى النباتات المهملة هنا وهناك، تتوقف، تستدير لتراقب الطفل الذي ترك لتوه معاكسة الناس ليمد يده بالمياه الملونة الكاذبة، مشت الاكاذيب في كل شيء، لن يمضي وقت طويل حتى نبدا بتناول الاطعمة عبر الاضواء والايحاءات الكاذبة، كلما تطورت التقنيات كلما ازداد الغبار الذي يغطي جوهرنا اكثر.
كانني اعرفها، تقترب اكثر تتوضح معالم وجهها اكثر، أأعرفها، لابد ان الزمن فعل فعله، حتى الوشم المستلقي على اطراف ذوائبها هو بعينه، اقسم انها هي، ساكلمها، لن تهينني، ساكلمها وليكن ما يكون، وما الفائدة، ماذا لو احتقرتني، عشرات المتبضعون يحومون في الفسحة هذه، سيتصلون بالامن، لا ليس مبررا، ساسالها لست جبانا، لقد اقتحمت صعابا جمة ما هذا التهادن، عيناها لا توحي بالعدائية، لن تطيق الهرب، هو سؤال وحسب.
خطوط القرب والبعد مضطربة، اقترب لتبتعد، تناور بحثا عن الشقي الذي لا يهدا وانا اتبعها حتى وجدته منهمكا في تسلق احدى مقاعد الاستراحة وسط مركز التسوق، جلست بمقربة منه وحجزت المتبقي بمعطفها وكيس اشيائها، تزداد بطئا خطواتي كلما تقدمت اليها، ها انا امامها ماثلا ومخاطبا نفسي، صمتك سيكون حديثا وحديثك قد لا يتحمله ضيق المكان، تريث ايها الراهب الذي الف الصمت.
مرحبا، كيف حالك، تتاملني بوجهها الخالي من التعابير دون رد، توقف كل شيء حتى الدم الذي كان يجري في عروقي قبل لحظات تجمد، لحظات كانها سنوات عجاف، ماهذا الوجه المبتل بالشامات، ما هذه الاجفان التي لا تفارق، اين الجبال والبحيرات، اين الاشجار والمحار، اين الفراشات، اين هذا الكون المزدحم بالنجوم والكواكب، اين انت ايها الثلج المتغلغل في عروقي، اكاد اشتعل ولو لم تمسسني نار.
هل انت كاثرين، بكل سخف الحضارة سالتها، بحماقة الصبية رسمت ابتسامتي، بهدير النهر الجاثم على صدري سالتها، وكانني اقول لها احبك منذ الازل، ولم الكذب لم احبها يوما، كانت مجرد عشبة في متاهات القرية تلك، العشب المنتشر في كل المرافق هناك، العشب الذي يمد جذوره حتى في الصخر، هل تذكرين اوكلاند، نيوزلندة، قبل ثلاثين عاما كنا معا في النزل المخصص للشباب، كنت ترتدين كنزتك الزرقاء طول الوقت، انت وشعرك المجعد المتشرد المجنون وزرقة عينيك التي لا تهون، هل تذكرين كيف كانت تتقاذفك الرسائل والظنون، كنت تسرّين الي بكل الوجع عندما كان ساعي البريد يخذلك، كنت تعودين كل يوم بخفي حنين، هل تذكرين.
لا لا اذكر ذلك، من انت، لا اذكرك، في اي عام كان ذلك، مضحك كيف نسيت، نعم كنت صغيرة لابد اني كنت صغيرة، صغيرة جدا، جائز، ذهبت الى هناك، اتصور، تحدثني بلا انتباه متطلعة الى المارة المتتابعين يسرة ويمنة ثم تنحني بشرود منقطع النظير وكانها تبحث عن اغفاءة بعد هذا السهر الطويل الطويل، تتلفت بكل الاتجاهات وكانها تتجاهلني، ترفع راسها ثانية محدقة بي، بالكاد المح شيئا من مساحيق التجميل بوجهها كما كانت دائما، كنتُ بائسة، ما عاد يهم، هل انت متاكد، ما الذي جاء بك هنا.
يقفز الصغير فجاءة ليزيح الغمام الذي يتوسطنا، بكلمات غير مترابطة يحادثها وبصلف العاشق المتهور يسألها عن مستقبله معها، تتجاهله وتستدير نحوي لتكمل، براحة يده الصغيرة تلك يتلمس وجنتها ليسحب وجهها اليه وليكمل هو، تحاول التملص، تبعده ببعض القسوة، لا مفر الا ان تطمئنه بانه الاول والاخر ولتستكمل مجريات الاشتباك معي، تتحدث وكانها تحي الاشياء المؤجلة عندها، الحياة برمتها، نعم لقد كنت هناك، كانت الدروب موحشة، البنايات القديمة لا تصمد بالزلازل، كل شيء هناك يجعلك تثق بالارض ولكن الارض غامضة.
تشرد قليلا وتعود محدقة بوجهي وكان زورقها تحطم على الساحل للتو، تناور باحثة عن الجذع الذي ينقذها من الغرق المحتم بلا جدوى، تخفي رعشات اصابعها بمداعبة خواتمها المفصصة بالاحجار والبلور، تنحني اليها وبحسرة تستطرد، ماعدت اتذكر الاشياء وهما كانت السنوات كلها ام حقيقة، تلملم اشياءها بسرعة وتنهض من كرسيها، يقترب الطفل الشرود منها، يمسك اناملها، يرفع براسه مبتسما ليحدثها، هل نذهب، هل اتصلت، هل تكملين معنا، تجيبة متيبسة من ترح، لا.
تبتعد ببضع خطوات دون وداع ، تتجمد، تستدير الي، بنظرتها الحزينة التي اعرفها تحدق بي وكانني حادي العيس سرق منها خولتها وها هي الذكريات تلوح كبقايا الوشم في ظاهر اليد، تبتسم بحسرة طرفة ابن العبد على اطلال برقة ثهمد، تستدير نحو باب المغادرة دون انتظار الجواب، ترتدي معطفها الذي يكاد يخفق لاحتوائها ثانية وتتاكد من من ازرار معطف الصغير الذي يصاحبها، بخطوات واثقة تغادر مركز التسوق وتخترق ساحة وقوف السيارات المدثرة بالثلوج والقسوة والخلجات المبهمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم


.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24




.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو