الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسرحي السوري وليد فاضل وشؤون مسرحية

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 4 / 12
الادب والفن


- انتصارُ الجوهر على العرَض-

يمكن للقارىء بعد الانتهاء من متابعة مسرحيات وليد فاضل قراءةً، أن يستعيد في ذهنه وبسرعة مجموعة من الأسئلة المتعلقة بفن المسرح من قبيل: ما جدوى المسرح؟ ما مصير مسرحيات كهذه في هذا العصر؟ لمن يكتب وليد فاضل مسرحياته: للخشبة أم للورقة؟ وبين مجموعة الأسئلة تتفتق أفكار تنشغل ببعض إشكاليات مسرحنا العربي الذي أصيب بكثير من الأمراض كباقي الأجناس الإبداعية والنشاطات الثقافية في مجتمع عربي لا نعرف إلى أي حد هو مجتمع منتج للمسرح أو لشروط الثقافة والإبداع.
ففي الوقت الذي تزداد فيه الشكوى من موت المسرح يمكننا أن نعيد التساؤل إلى شيء مما نعتقد أنه سياقه الطبيعي. فنقول: إن المسرح العربي يموت - إذا مات - بفعل المفهوم الملتبس الذي أحيط بهذا المسرح منذ اطلاع العرب عليه واستيرادهم هذا الجنس واعتماده كمعبّر عن قضايا المجتمع والسياسة والأخلاق والصراع بين الجهل والنور ... إلى آخر هذه الموضوعات التي رضع منها المسرح الأول (أي أول نصوصه العربية) ونما فيها.
وما نقصده بالمفهوم أن العرب درّبوا – على يدِ كتاب المسرح ونقاده ومخرجيه ومتابعيه – هذا المسرحَ على أن يكون مرتبطاً دائماً بسواهُ، منذوراً لوظائف قد تنأى به – ونأت فعلاً – عن طبيعته الأدبية كنشاط جمالي يمارسه المبدع في لحظة خاصة استثنائية. فطغت عبارات (المسرح السياسي – المسرح العسكري – المسرح الاجتماعي – المسرح الدرامي - المسرح التجاري - المسرح الترفيهي...) فصارت كلمة المسرح تابعة دائما لفعاليات من خارج مفهوم المسرح كإبداع. وذلك مثلما حصل تماما في الشعر والرواية على سبيل المثال. إن شعر النضال المباشر والتحريض السياسي انتهى ومات، ولم يمتِ الشّعرُ الحقيقي. كما انتهت رواية تبشر بالنصر والقومية والوحدة وظلت رواية تحافظ على مصداقية انتمائها لمقتضيات فن الرواية وغاياتها الجمالية في الأساس وقبل كل شيء.(وقسْ على ذلك الأغنية السياسية المباشرة وعدم صلاحيتها للبقاء في مضمار الفن الراقي. كما يمكن أن نضع أي نشاط فني أو أدبي في السياق نفسه).
يفصح هذا الوضع عن نظرة عربية مسطَّحة للأدب وضرورة ربطه دائما بأنساق تتعارض مع بنيته وقوانينه. إننا ورثنا تقاليد تفيد بتوظيف الأدب (الشعر خصوصا) من أجل القيام (برسالة) أو بوهم رسالة. لأننا بذلك نخون الرسالة الحقيقية للأدب (كما خانَها الكثير من شعراء العرب القدماء).
في هذا الإطار لا يمكن التسليم بأن المسرح العربي يموت لأسباب يطرحها عادة المختصون بالمسرح تأليفا وإخراجا... وإن نظرة فاحصة لمجمل الأسباب المطروحة تبين أنهم ما زالوا يحيلون المسرح إلى ما هو (خارجه) وكأنهم لم يتّعظوا من الدرس!.
ننطلق في شهادتنا على مسرح وليد فاضل من أسباب أخرى لموت المسرح (هذا إذا مات فعلا وتم تأبينه. ولا نريد تعميم التشاؤم هنا).
إن مسرح وليد فاضل في كتبه المنشورة مسرح لا يبشّر بموت المسرح، بل هو يصرّ على ممارسة هذا النشاط الإبداعي بكامل أبَّهته وعطائه وتدفقه، وكأنه غير معني بكل ما يقال عن انحسار المسرح أو مواته. فما السر في ذلك؟ باختصار كثيف ومن خلال معاينتنا لمسرحه بكل ما يعنيه يكمن السبب في أنه بالأصل يغرّد خارج السرب... خارج الفهم العربي السائد للمسرح. لا يلبّي وليد فاضل في مسرحه رغبةَ من يريد التبشير بقضية راهنة تزول بزوالها مسوغات المسرحية. لا يعطي مسرحه إمكانية تحويله إلى منفعةٍ مؤدلجةٍ، أو تعبير مباشر عن معارضة أو مظاهرة أو ثورة أو حزب أو طبقة... إنه يعلن انحيازه إلى (نظرية الأدب) لا إلى (استثمار الأدب)، إلى مملكة الأدب والجمال، لا إلى دكان القضايا الصغيرة التي أغرق المسرح نفسه بها. لذلك هو يعمل على تحقيق المعادلة في أصعب متطلباتها مضحّيا بذلك بكل أسباب شهرته وبقائه خارج الأضواء والشهرة. لأن المسرح العربي الذي يريد اللعب على الخشبة اليومية لم يكن في بال وليد فاضل.
وليد فاضل ترك (معالجة قضايا) الطبقات الكادحة والمسائل اليومية والتكتيكية لأصحاب الاختصاص وانشغل الرجل بما يعنيه. وهو ينطلق في ذلك من حسّ معرفي عالٍ بأهميّة الإبداع الذي ينفصل عن الواقع مسافةً ما تسمح له بالتقاط أنفاسه وتأمّل ذاته وممكناته وتحديد خياراته، بما يثري (مسيرة المسرح) لا (مسيرة الكفاح والبناء والتحرير)... وهذا لا يعني أنه غير معني بقضايا الكفاح والبناء والتحرير وسواها مما يظنون... بل على العكس من ذلك. هو يهجسُ به دائما، ولكن من زاوية على النقيض مما هو معترف به ومشغول به ومستهلك. ولا يلتقي الاستهلاك مع وظيفة الأدب. إن هذه القضايا تفرد ظلالها على مسرح وليد فاضل على أنها قضايا تخص مسيرة الروح البشري في أعلى أحواله وأرقى لحظاته. وكذلك على أنها شؤون تخص الإنسان بشكل عام في سيرورته الكبرى. في صراعه الأساسي مع القبح والدمار وانتهاك الروح. لا على أنها مطايا تركب عليها مسرحية نضالية أو سياسية أو اجتماعية. الأدب في أي زمان ومكان يأخذ نصيبه من كل ذلك على طريقته ليغتني به لا ليفقر إمكانياته.
وإذا أردنا ربط هذا الجانب بما يعنيه انتماء المسرح للحداثة (خاصة وأن مسرحنا العربي هو من الأجناس الوافدة ككيان أدبي مستقل وإن كانت ذات بذور قوية أو ضعيفة حسبما يرى أصحاب المسرح) فنقول إن مسرحه أدرك العلاقة بين اليومي والأبدي. بين الحدث والرؤيا. بين المعقول واللامعقول بين الوعي واللاوعي بين الوضوح والسوريالية...الخ وكل هذه ثنائيات يمكن أن تحدد مدى صلة الأدب بالحداثة. فكان من أهم ما عناه ذلك عند وليد فاضل أن يبحث في المساحة الواقعة بين روح ولاوعي الإنسان وغموض حاجاته وتناقض أحواله وصراعه الوجودي وبين الواقع المرئي والمعاش. فالتقط لحظة ما ساعدته على تشييد عمارة مسرحية ترتفع فيها المسرحية عن اليومي المباشر لتلتصق بالقضية الكبرى للإنسان على أنه كائن ذو احتياجات خالدة (حتى ولو كانت يومية ومن الطبيعي أن تكون كذلك وإلا فليس الإنسان إلا نصف آلهة وهذا مفارق للشرط البشري) لكن وليد التقط هذه اللحظة ليتمكن من الهرب من الحاجة الراهنة والاشتراط لنثريات الحياة والأفكار والقضايا. وعلى أهمية هذه النثريات فلا بد أن تؤخذ في سياقها الكلي الذي تفرضه طبيعة الإبداع.
بصورة أخرى عنت الحداثة في مسرحه ارتباطا بين الأسطورة والواقع، بين الرمز والوضوح، بين المفترض والمتحقق. لهذا لم يفرط بالتقنية الفنية لصالح الفكرة ولا الموضوع، ولم يتنازل لأي فكرة التنازل الذي يعني خسارة للرسالة الفنية الجمالية للفن. هنا يمكن أن نرى في مسرح وليد فاضل قيامه بإنتاج أدب راقٍ يربّي الروح ويبثّ فيها القيمَ الكبرى التي لا تتعلق بزمان ومكان مخصّصين. أي أن تربية الروح عنده كانت جزءا من رسالته الأدبية، وخلق الفرح لدى القارىء كان كذلك هاجسا من هواجسه الأساسية. ولا شك أن وليد استثمر حتى آخر نقطة ثقافتَه العميقةَ وجانبَه المعرفيّ، في شحن مسرحه بعوالم لا يمكن للقارىء العادي الذي لا يعنيه الأدب، أن يتمتع بها أو أن يتواصل معها، وخاصة إذا كان قارئا متعودا على البحث عن الهموم اليومية في الأدب، والتي يعبر عنها بوضوح ومواعظ وتبشير. من هنا جاءت نخبوبة مسرحيات وليد فاضل. والنخبوية – للتوضيح – لا تعني هنا سبّةً بل على العكس تماماً، فإن هذا ما نريد أن نصوغه عبر سطور هذه الشهادة. فوليد فاضل في النهاية مبدع ليس للجماهير. كما كان مسرح سعد الله ونوس ومسرح وليد إخلاصي في سورية. (ولا نريد الادعاء بمسح شامل للمسرح العربي) وعلى العكس من ذلك كان مسرح فرحان بلبل مسرحا مشغولا بالتواصل مع جمهور مسرحي في أبسط قواعد الجمهور. وهذا يعني نمطا آخر من المسرح اشتغل فيه فرحان بلبل على مسرح ليس للنخبة. ولكن مع تغليب فرحان للموضوع والرسالة الاجتماعية المباشرة أو السياسية فإنه كان يقدم مسرحية نموذجية في شروطها الإخراجية والتقنية والتمثيلية. ولا ننسى حجم الانفعال والتوتر اللذين كنا نصاب بهما ونحن نتابع عروضه أو حتى ما أخرجه أو ما أعده.
حتى مسرحيات سعد الله ونوس الأخيرة - رغم انشغاله عبر تاريخه المهم - بالعلاقة مع المشاهد، فإنه أبعد أي مشاهد عادي وعابر في هذه المسرحيات، وعاد إلى التأكيد دون وعي منه أو بوعي على أن الإبداع في النهاية للنخبة.
ونعود إلى وليد فاضل لنتابع التأكيد على ارتباطه بالحداثة أكثر من الكتابات المسرحية التي كانت تتوجه إلى مستويات جماهيرية. حتى أننا نرى من وجهة نظرنا أن هذا الارتباط أهَّل مسرحه ليكون مثالا نموذجيا على ما يسمى (المسرح التجريبي)، مع التحفظ على هذه التسمية، لأنها توحي بشكل مضمر أن هناك مسرحا عاديا لا تجريب فيه. ونحن نؤمن أن كل عمل إبداعي هو تجريبي بامتياز، فما معنى قرن المسرح بالتجريب وكأن التجريب صفة طارئة عليه؟ وربما أدت هذه الفكرة إلى مزيد من الأوهام حول المسرح، فارتأى الكثيرون أن المسرح الذي يخرج على الأطر التقليدية أو السائدة أو لا يقدم رسالة واضحة مباشرة بشكل مباشر تحريضي، هو خارج المتن الأساسي للمسرح العربي أو العالمي، فأطلقوا عليه اسم التجريبي لأنه يجرب خارج النسق السائد وبعيدا عن المعطيات الموروثة عن المسرح، بينما نرى أن المسرح الحقيقي هو تجريبي بالدرجة الأولى، ومن هنا رأينا في مسرح وليد فاضل أنه تجريبي لأنه أمين على مقتضيات الخطاب الإبداعي بلغته ورسالته وأدائه وغايته. حتى ولو اعترضت الموضوعات اليومية مشروعَ وليد فاضل فإنه ينتقي منها ويصطفي حسبما يتحقق من أن ذلك يخدم الخطاب المسرحي بالدرجة الأولى. إن طبيعة موضوعاته كانت مجالا رحبا للتجريب، حيث يفرض الإبداع ذاته ويتحكم بلحظته كيفما يشاء. بحيث لا يكتب على نسق سائد ولا يدخل منطقة التشابه مع سواه ويرسل تجربته في طريقها الخاص بها مؤكدا على فرادتها. لذلك فهو تجريبي مرة أخرى. وفي تناول وليد فاضل لموضوعات سبق واشتغل عليه الآخرون – قبله أو معاصروه – فإنه يقدم معالجة جديدة ورؤيا مختلفة ويضع ما سبقه الآخرون إليه في سياقه الذاتي بما يؤكد خصوصيته هو. وهذا مرة أخرى تجريب لأن التجريب يتعاطى مع المسألة بلبوس مفاجىء، فيه هوامش متسعة لتقديم الجديد والمختلف عن القانون المسرحي الموروث أو المتعارف عليه بحكمِ الأعراف المسرحية التي تتواضع عليها مجموعات المؤلفين والمخرجين في زمن معين.
مسرح وليد فاضل من جهة أخرى - ومن موقع جديد يكمل موقع الرؤيا الذي ابتدأنا به - يعيد للنقاش قضية طالما تداولها نقد وتاريخ ونظرية المسرح عبر الأجيال وباختلاف الثقافات وتباينها، وهي: هل المسرح أدب أم عرْضٌ مسرحي؟ وما الذي يحدد أهمية المسرح: أن يكون أدباً أم أن يتحوّل إلى عرض بصري للفرجة على خشبة المسرح؟
لقد عانت نصوص وليد فاضل في سياق هذه القضية الكثير من التهميش والتعتيم، لأن خيار وليد فاضل كان أن ينحاز إلى المسرح كأدب مكتوب أكثر مما هو نص من السهل تحويله إلى الخشبة. هذا من حيث المبدأ. ولكن هذا لا يلغي أبدا أن نصوصه تحمل كافة مسوغات عرضها، ولكن هذا العرض لن يكون موائما للخلفية الذهنية السائدة في المجتمع العربي، ولن تساعد إمكانيات المسرح كما هو سائد في مجتمعنا على تحويل مسرحه إلى عروض ممكنة، تحقق المتعة للجماهير لأنها بالأصل غير معنية بمفهوم (الجماهير) ككمّ عدديّ هائل، بل هو يتجه إلى (جمهور من نوع خاص) يتلاءم مع خصوصية كتابته.
لماذا غاب المسرح العربي وتراجع؟ على وجه الدقة - في زعمنا - نقول لأنه لم يكن يكترث بالمسرح كأدب يبقى مشروعه الأهمّ والأنضج على الورق لا على الخشبة. ولأن وليد فاضل لم يكن يعمل في سوق المسرح والدعاية فقد غاب مسرحه عن التواجد لأنه لا يلبي متطلبات السوق باختصار، مثله مثل الشعر مثل الفن التشكيلي مثل النص النقدي الذي لا ينشغل بالسوق والاستهلاك، فلا يجد له مساحة كافية ليتواصل من يجب أن يتواصل معه. ولكن مسرح وليد فاضل فقد الحضور حتى في أوساط النقاد والمخرجين أصحاب الشأن، مما يدل على انغماس الكثيرين في قضايا هي على النقيض مما يشتغل فيه مسرحه، أو مما يدل على أنه مسرح يتضاد مع الآخرين.
نعتقد أن علاقتنا مع المسرح أساسا كما ترسخت، هي علاقة مبنية على الخلل الذي أشرنا إليه في ثنايا هذه الصفحات، وهو لهاث المعنيين بالمسرح وراء تسييسه، أو توظيفه لأهداف يمكن أن يحققها أصحاب اختصاصها لا المسرح، فبتنا نطالب المسرح بالتوعية والموعظة والموقف القومي والوطني والطبقي والـ... وصار المسرح يحاكَمُ من خارج سياقه. في هذا الوقت كان مسرح عربي آخر – ليس وليد فاضل إلا واحداً من ممثليه القلائل جداًُ – يعمل بصمت وخارج أسباب الدعاية، ولكنه أثبت أنه المسرح الأبقى. لأن القارىء سوف لن يتذكر بعد عقود من السنوات العرض المسرحي وطريقة الإخراج وتقنيات الإضاءة والسينوغرافيا واللباس والموسيقى... الخ. بل سيتعامل في النهاية مع المسرح كنص أدبي مكتوب مثل أي نص شعري أو روائي... ووحده الأدب سيمنح المسرح – وغير المسرح – مبرر بقائه بين أيدي الناس الذين يضطرون الآن لقراءة يوربيديس وسوفوكليس وشكسبير وراسين وإبسن و... الخ من خلال أدبهم لا من خلال عروض مسرحياتهم. وفي هذا وحده دليل لا يحتاج إلى كثير من محاججة نقدية ولا غير نقدية على أن المسرح في النهاية (نصّ أدبيّ). وسواء مثلت مسرحيات وليد فاضل أم لم تمثل فهي لا تفقد شيئا من قيمتها ولا سماتها. فقيمتها وسماتها ساكنة في بنيتها اللغوية وفي خطابها الأدبي بكل ما في ذلك من تفاصيل تتعلق بالبنية والخطاب.
لا شك أننا نتعامل مع الموضوع بعينٍ ترى أهمية (الصورة) في العصر الحديث، ولا نغمط قدرة الصورة على مزاحمة الأدب مكانته، ولا نغفل عن أن العرض يحقق متعة لا توصف من خلال تحويل اللغة المكتوبة إلى لغة بصرية (يتفرج) عليها المشاهد، ولكن ذلك ليس الأساس. هذا شيء آخر لا يمكن خلط قيمة المسرح به، أو لا يمكن اعتباره الشرط الأساسي لبلوغ المسرح قيمته وخلوده. فأنا لا أرى إلى خلود شكسبير مثلا من خلال عروضه كما قلنا بل من خلال أدبه. ووليد فاضل (مع قلة قليلة جدا) من المسرحيين الذين تجاوزوا عقدة شهوة العرض ليصلوا إلى ضرورة ترسيخ تقاليد كتابة مسرحية في المقام الأول، وسواء ذهبت للخشبة أم لم تذهب فليس ذلك مهما أبداً.
إن ثقافة (الصورة) هي إنجاز أخذ في العصر الحديث الكثير من أهميته، حيث توفر له مبدعون ومنظّرون ومختصّون في مجاله. ولكن أين كانت الصورة في عصور سالفة؟ هل كانت هي المحدد لأهمية هذه المسرحية أم تلك؟ إذا خدمت الصورة المسرحية (من خلال تحويل اللغة إلى عرض) فليكن، وإن لم تخدمها فنحن لا نرى مشكلة. فالصورة قد يعتمدها مؤلف حديث أو مخرج أحدث في تقديم نصّ خالٍ من الحوار أيْ خالٍ من اللغة أي لا بنية له يتم التقاطها لاختبار خطابها وإمكانيته، ونقد الأدب لا يتعامل مع الشيء العرَضيّ، ونحن نعتبر التركيز على الصورة وحذف اللغة من العمل المسرحي إبداعا حديثا لا يمكن اعتباره المنطلق في تحيد ودراسة خطاب المسرح العالمي عبر آلاف السنين.
إن من يعتبرون أن تراجع المسرح يعود في أحد أسبابه إلى هيمنة الصورة على اللغة ويعطي الأولوية للصورة على الأدب، هم كمن يقرّ بقتل المسرح. وهم كمن يقرّ بأن الشعر – على جانب آخر – لا قيمة له خارج إنشاده ومسرحته ودرامية إلقائه، مع أننا نتفق في أي مكان على أن الشعر في كل أنحاء العالم يذهب – وقد ذهب – إلى أن يكون (كتابةً) لا إنشاداً. ونكرر أننا لا نغفل عن أهمية مسرحة القصيدة، ولكن هذا ليس شرطا أبدا لتبيان أهميتها وهكذا المسرح تماماً.
لقد اتهم مسرح وليد فاضل بأنه في جزء كبير من مسرح ذهنيّ. وربما وجد النقاد في هذه الذهنية السبب الذي يبحثون عنه لتبرير إقصائهم لمسرح وليد فاضل أو الانشغال عنه، وقد نجد أن المسرح الذهني يعني - فيما يعنيه - أن المسرحي يلجأ للتجريد والرمز‍!! مما يحقق صعوبة في نقل ذلك إلى الخشبة!! وفي ذلك في زعمنا (اعوجاج) في رؤية وظيفة الأدب – مع الاعتذار عن الكلمة –
ما هو الأدب الحقيقي إن لم يتعامل مع رمز؟ لا ليكون من أتباع المذهب الرمزي (في هذا أيضا اعوجاج) ونحن لا نؤيد تصنيف الأدب إلى مقاعد في مدارس مختلفة. ونؤمن أن الأدب من طبيعته التجريد والترميز والبحث في القضايا غير المرئية وخلق واقع افتراضي أو مفترض، الأدب يغادر لحظة الواقع ليبتكر لحظته الخاصة، في الوقت الذي كان فيه وليد فاضل يرى الواقع بعين بصيرة ورؤية حاذقة كان كذلك ينفصل عنه ليبدأ دور الإبداع. وهو في كل مسرحياته يدخل مع الواقع في علاقات مختلفة كلها تدعو لتغييره والتغلب على أسباب القبح والقمع والجدب فيه. لماذا نهجو الشعر الواضح والمباشر والرواية المباشرة والقصة ذات المضمون الواقعي جدا دون معالجة فنية، وعندما يصل الأمر إلى المسرح نتهمه بالذهنية؟ إن مرجع ذلك كما نعتقد أننا تأثرنا بتسييس المسرح وتوظيفه وجعله خادما لأغراض أخرى. ولذلك تدربت حتى الذائقة النقدية عندنا على رفض ما هو مختلف عن ذلك وهذه مسؤولية نقاد المسرح الذين فوّتوا – ويفوّتون على أنفسهم – اكتشاف تجربة مسرحية فريدة لوليد فاضل...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع