الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثالثُ مقاوِمان إذ هما في مهب الريح

زياد بوزيان

2018 / 12 / 10
الادب والفن


‏ يصل فجأة إلى محطة الوقود بسيارته‎ ‎، فتتناهى إلى مسامعه أصوات البقيّة الباقية ‏من مجموعة كانت تتجاذب أطراف الكلام وينسحب أفرادها واحدا تلو الآخر. وإذ ‏بأحدهم يقول للآخر: « حتى أن رئيسا أمريكياﹰ ظل يقاوم الصحافة والرأي العام لوحده ‏دون جدوى ، معتقدا بالمرة أن أصحاب الصحافة الصفراء المهوسين بأخبار الجنس و ‏التابوهات لا يفيد معهم سوى نزع الثياب والتجوال عرياﹰ داخل البيت الأبيض حتى يكفوا ‏عنه ، فكيف بي أنا الإنسان البسيط وقد هرولت يومها عاريا في ليل أزقة مدينة ‏مجنونة ، قيل أن الشياطين الخرساء قد استوطنتها منذ ما يربوا عن الاثنا عشر قرنا ، ‏غير أن دولاب المدينة الخشبي المعلّق على مدخل شارع شياطين الجنس ذاك ما انفك ‏يتوقف عن الدوران قط ؛ غير مكترث بي تماماﹰ كأن أحد المتظاهرين في مرائيتهم ‏المُخزية هو الذي يعمل على تدويره عنوة لشغل الأعين المارة عن أمور أخرى تجري ‏ورائه »‏

ــ " إنه لَجنس وظلم لِمرتدي لباس العهر والتديُّن وهم سواء بسواء" ردّ عليه أحد ‏المقاومين الشيوخ المتشبّعين بقيم الحضارة الغربية ، وكان محارباﹰ و رحالة في أيام ‏شبابه ، معتكفا كثير المطالعة لِأبوم صور شبابه في حدائق واشنطن الواسعة في أيام ‏شيخوخته ، ثم انصرف من أمام جمع صغير كان احتشد حوله إلى حيث يقضي معظم ‏أوقاته.‏

وبالكاد كاد أن يفعل حتى أمسكه مقاومٌ متزمّت يريد الرّد على ما تفوه به : " انتظر يا ‏سيدي العجوز، انتظر..." بيد أن رجلا يدعى بينهم ﺒ "المقاوم الأول" قاطعه ولم يترك له ‏فرصة مواصلة كلامه : « لا لا ، أنتم إذا فعلتم ذلك فعلتموه في عز اللّيل ، فلم يرَكم ‏أحد ومن رآكم حينها يكون قد سُرّ بمنظركم ، فليل هذه البلاد كما تعلمون قفرٌ إلاّ من ‏المنحرفين و المتعربدين القاصدين مقاصف المجون و الخلاعة ، بيد أني أنا و الرئيس ‏أيّها الغفر الكريم قد فعلنا ذلك في عزّ النهار، و الفرق بيني و بينه هو أني كنت ‏أرتدي ثياباﹰ بالية قديمة وكان شعري أشعث . ولمّا أطلقت وأنا أمُر بشارع الحضارة ‏العنان لعاقلة العُري فيّا ظنّ القوم بدون أي شك أنني مجنون قد تهت في عوالم الخبل »‏

‏ في اللحظة التي يترجّل فيها رجل ثالث في منتصف العمر تبدو عليه ملامح الثقافة ‏والتحضُّر ودون أن يأخذ معه شيء أردف قائلاﹰ : « غرّ الشيخ وناء شيخ المقاومين ‏عن الحق والله ، كِلاكما أراد لفت الانتباه إلى المستور الخفي في مجتمع تحكمه قوانين ‏المادة وشريعة تنبو نصوصها عن الواقع مسافة دهور، تشعشعت وتشعبت فيه معتقدات ‏بالية وتقاليد رثّة ملازمة إيّاه كأنها هي الدين نفسه ، غير أنها لا تعدو أن تكون مجرّد ‏عادات أخلاقية جبل على ممارستها بالعادة منذ عهده على هذه الأرض ، فما عسى قوم ‏يغوصُون في تلك‎ ‎العادات منذ أمد أن يفعلوا ؟ بل الأدهى والأمر من ذلك كلّه أنهم ‏يستحمُّون في "بحر الرمل" و في لعاب بعضهم بعض ويدعون ذلك تحضراﹰ وعقلانية ! ‏و لربّما أن الكثيرين‎ ‎ممّن لا حول ولا قوة لهم يدركون الأوجاع بينما لا يستطعون لها ‏حراكا ، فكأنما التستّر على أخلاق وإبداء أخرى والتي أصبحت عادة طُبع عليها العقل ‏البشري ، لابدّ لزاما من الإنسان أن يبديها و يسير في‎ ‎دربها وإلا يُنبذ ويُدعى ملحدا أو ‏خارجا عن العرف والقانون أو يقهر ويُدعى المتديّن المتزمّت‎.‎‏ ‏

‎ ‎فأنا بالأمس القريب كنت مثلكما أُجابِه حظي التّعس وحدي حين تقطّعت بي السُّبل ‏وأنا أقطع إحدى شوارع المدينة المشبوهة ، فحينها لا أدري لماذا لم أتريّث وقد كنت ‏متجها إلى الشارع الذي يسكن فيه ابن عم لي ، فقد أخذتني الدّهشة وأنا أجد الدّكاكين ‏مقفلة والمحلاّت والمتاجر مطفأة المصابيح إلا بعض المقاهي والحانات ، فبمجرّد أن ‏شاهدت في الطرف الآخر من الشارع لافتة مُضيئة بمدخل العمارة حسبت أن هناك من ‏المحلاّت داخلها من مازال مفتوحا ، وعندما بلغت منتصف الطريق وإذ بشخصان ‏يسارعان مهرولين إلى الداخل ، يبدو أنهما رجل وامرأة ، فتبعتهما وما هي إلا لحظات ‏حتى كانت الشرطة تطوّق المكان وتضع الأغلال في يديّ و أيدي الشخصان اللذين ‏صدفتهما عند مدخل تلكم العمارة الملعونة. ‏
وعندما سُقنا ثلاثتنا إلى مركز الشرطة كانت مظاهر الخجل والدهشة تعلو محيّا ‏الأعوان، بينما ظل الشخصان اللذان كانا برفقتي مطأطئا الرأس ، فحاولت إقناعهما ‏بقول شيء والتفّوه ولو بكلمة واحدة حتى يزول الالتباس الذي وقعت فيه الشرطة ، إلاّ ‏أنه وعلى ما يبدو قد كان مُجرمين مُتمرّسين ، من عصابة تتاجر بالجنس والمخدرات أو ‏ما شابههما فقد وجدا الفرصة للتنصّل من جرمهما بدّعائهما معرفتي ، فحاولت إقناع ‏الشّرطة بأنه لا علاقة لي بالشخصين كل ما في الأمر أنّ التباساﹰ ما يكون قد حدث لها ‏؛ حيث أدركتنا الشرطة صدفةﹰ ثلاثتنا عند باب العمارة وأنا أحاول شراء بعض حاجاتي ‏لقضاء السهرة عند ابن عمي ، ولمّا ألححت في الاحتجاج زاد إحمرار خدود أعوان ‏الأمن و خجلهم ففهمت أني قد وقعت لسوء حظي في حضرة متاجري الجنس.‏

‏..وفي الحقيقة، يا سادة يا كرام ، أصبح في هذه البلدة الجميع مشبوهون إذ ما تجولوا ‏ليلاﹰ عبر هذا الشارع أو ذاك ، إنها للأسف الشديد أوضاع حياة هذا الزمن المرّ والقذر، ‏أين يُهان فيها المرء وتداس كرامته ويتحوّل فجأة من شخص شريف إلى شخص دنِس ‏مرذول ، ولولا أن ابن عمّي سمع بما جرى بعد أن أخبرته عائلتي لزُجّ بي في ‏السجن، أو قل لذهبت في مهب الريح و رحت ضحية لأحد الفريقين ، و الحال أن هاتفه ‏قام بتسجيل المكالمة التي تمت بيني وبينه أوتوماتيكيا قبيل حادثة الإعتقال بلحظات ، ‏فقدمها كشاهد للشرطة فأطلقت صراحي و نجوت من كيد المجرمَين الخبيثين اللذين أراد ‏عنوة إلصاق تهمة المشاركة في بيع الهوى بي ، في ذلكم المتجر المتخفي كالعش داخل ‏أدغال من الخرسانة المسلّحة ، بين عائلات فقيرة وأخرى مسكينة تقطن فيه حيّة في ‏عالم الأموات ، ولا هي دارية بالشبكة التي تمارس الدعارة والفسق بين ظهرانيها »‏
ــ"عفوا سيدي.. يبدو أنك "مقاوم" من "الطراز الأول" قال "المقاوم المتزمّت" مضيفاﹰ : « ‏لولم يكن هناك من شاهد على براءة بيل كلينتون والرئيس " دومينيك ستراوس" حسب ما ‏فهمته لجننّا مثلهما أو قمنا بجريمة ضد المرأة التي ادَّعت أنها كانت في انتظارنا»‏
‏ ــ « من المؤكد أني كنت سأكون في حالة هيستيريا ، كريح هوجاء أمام هيئة المحكمة ‏، كما كنتما وأنتما تحاولا المقاومة والدفاع عن نفسيكما ولا دليل مادي ملموس ‏بحوزتكما، إلاّ ما حاولتما إظهاره من خلال نزع ثيابكما و كمحاولات أخيرة ، تعبيرا عن ‏ما تتوق إليه نفساكما جرّاء خوالج السقم والقنوط اتجاه الظلم و المرائية » ردّ المقاوِم ‏بالعري. ‏
ــ بلىَ يا صديقي ا...!، ‏
ــ مصطفى ، اسمي مصطفى. ‏
ــ اسمع يا مصطفى إنّ كلامك كلُّه كان عين الصّواب ، فقد كنت أوّد منذ البداية ‏مُشاطرتك الرأي ، عندما كنت تسرد قصتك مع الشوارع الخبيثة المندسة تحت حجاب ‏التصنع والرّياء المحسوب بالميليم أناء النهار والترنح و التعربُد الخرافي أطراف الليل ، ‏بيد أنه قاطعني كما رأيت ... ولكن هيَّوا بنا نمُر إلى الساحة المقابلة و نُكمل حديثنا ، ‏هي يا مصطفى وأنت يا ا.. ! يا أيّها " المقاوم الأول" هيُّوا و أقدّم لكما نفسي: أنا رشاد ‏‏"كبير المقاومين المتدينين"، فتفضلا إلى هناك.‏
و هناك يلتف حول مائدة الشاي ، رشاد كبير المقاومين المتزمتين و مصطفى كبير ‏المقاومين العلمانيين و"المقاوم الأول" الذي لم يشأ ذكر اسمه قائلا لهما عندما ألحا ‏الطلب : ما أنا بينكما إلا ثالث مقومان إذ هما في مهب الريح! فلماذا تلحان على ‏معرفة اسمي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل


.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف




.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس


.. أحمد فهمي عن عصابة الماكس : بحب نوعية الأفلام دي وزمايلي جام




.. عشر سنوات على مهرجان سينما فلسطين في باريس