الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هم أيضا ضحايا العنف------

سلطان الرفاعي

2006 / 4 / 14
حقوق الانسان


مر أكثر من عام على رؤيتي له، المرة الأخيرة، أخبرني فيها، كيف أنه سيُقدم استقالته من فرع الأمن السياسي، هو برتبة مساعد، أمضى سنين حياته، في خدمة الأمن. دخل إلى مكان عملي بالأمس، ملامح الذهول تبدو عليه، لم أر إلا حطام رجل، يتلعثم في الكلام، يرتجف، يكاد يتمزق مع كل كلمة تخرج من فمه. قال: أنا لم أسرق ولم أرتش، ولم أضرب أحد، وخرجت بمعاش خمسة ألاف ليرة، ماذا ستفعل معي؟ أصبحت منبوذا في قريتي، الجميع يتحاشاني، ويبتعد عني، رغم أنني في كل حياتي، لم أتسبب في أذية أحد. هذا ما يقوله المساعد، ولكن الحقيقة لا يعرفها إلا الله.

ضحية أخرى من ضحايا العنف، هو أيضا، أنا أُصدقه، ولكن غيري لا يُصدقه، وينظر إلى يديه، كم من الضربات، سدد إلى وجوه من اعتقلهم، ومن استجوبهم، صحيح أن كان عبد مأمور، لعبد مأمور، ولكن ذكريات الصرخات، ستبقى ترن في أذنه، وأين منها صوت ناقوس كنيسة نوتردام في فرنسا. سيذكر دائما تلك العصي، التي أدمى بها أقدام الكثيرين، سيذكر صراخهم وألمهم أبد الأيام.

ضحية أخرى من ضحايا العنف، ذلك الضابط، الذي أصدر الأوامر، وحضر مجالس العنف، واستجوب المعتقلين، وغادر الزنزانة، تاركا خلفه حطام رجال، وأشلاء شباب. هذا الضابط، أيضا من أكبر ضحايا العنف، فهو ينتظر كيف سيكبر ابنه، وكيف سيُعلمه، وسيُربيه، في أفضل المدارس، ومن ثم يخطب له ابنة ضابط آخر مارس أيضا العنف تجاه إنسان آخر، وستكون حفلة الزفاف، في أفخم الفنادق، تقدمة وهدية من شخص آخر، يخاف عنف والد العريس والعروس، وسيذهب العروسان إلى إحدى الدول الأجنبية والتي لا تُمارس العنف على مواطنيها، ومن ثم يعودان إلى وطنهم، وفي حادث أليم يذهب الاثنان ضحية لعنف السرعة الزائدة من قبل ابن ضابط آخر يُمارس العنف بطريقة السرعة المتهورة. ويجلس كل ضابط أمن على حدة، ويتذكر، يتذكر، كم من الضحايا، مارس عليهم العنف، كم من الضحايا، وبكلمة منه، أو إيعاز، تعرضوا للعنف والبطش والقمع؟ مسكين هذا الضابط، سيُمضي حياته الباقية، خائفا، مرتعدا، يتذكر كل ضحاياه، هذا بكى، وذاك صرخ، وآخر أغمي عليه، ورابع بال في بنطا له، وخامس وسادس--- ويلتفت إلى أولاده، ويبدأ كابوسه اليومي، من الصباح إلى آخر الليل، متسائلا: ماذا أفعل ليغفر لي ربي، هذا إذا كان مؤمنا بوجود رب، وإذا لم يكن مؤمنا بوجود اله، فهو يعرف أكيدا أن هناك من سينتقم منه، في حياته هذا، ولن ينتظره حتى يُحاسبه، بل سيكون حسابه، مرتبطا، بشخص عزيز عليه، قد يفقده، ويذوق لوعة الفراق، التي أذاقها لغيره.

لا أعتقد أن هؤلاء الضباط، الذين يُحالون على التقاعد، أو أولئك المساعدين والعناصر، الذين أمضوا حياتهم، في ممارسة العنف ضد الغير، وأصبحوا اليوم ضحاياه، لا أعتقد أنهم ينعمون بلحظة سكينة واحدة في حياتهم الباقية، أو بنظرة احترام واحدة من الآخرين، إنهم كما قلت لكم أيضا ضحايا للعنف.



لبضع سنين خلت، قرر عدد من الباحثين أن يدرسوا بطريقة علمية أسباب انتحار عدد من ضباط الأمن. فتتبعوا مسار مئة ضابط بعد إحالتهم إلى التقاعد، وأجروا المقابلات مع ذويهم وحللوا بكل دقة ما استحصلوا عليه من معلومات، آملين أن يكتشفوا ما يجمع بين هؤلاء الأشخاص وأن يجددوا العامل المشترك في سبب انتحارهم. أتت نتائج هذا البحث للوهلة الأولى، مخيبة للآمال، إذ أن الباحثين أخفقوا في إيجاد عامل يجمع بين هؤلاء الأشخاص، لا في تربيتهم ولا في النواحي الأخرى من أنماط حياتهم. بعضهم ما تخطى المرحلة الابتدائية بينما بعضهم الآخر استحصل على شهادة أعلى. العامل الوحيد الذي بدا وكأنه يجمع في ما بينهم هو كون سبعين بالمئة منهم أتوا من بلدات عدد سكانها لم يبلغ الخمسة عشر ألفا. ولكنهم بعد أن أعادوا التدقيق في المعلومات مرة أخرى عثروا على عامل واحد مهم وجامع، آلا وهو أن كلا من هؤلاء الضباط كان يجهد في كل ظروف عمله ممارسا العنف تجاه ضحاياه، من المعتقلين.



يقول شيشرون: ماذا يمكن العمل ضد العنف من دون عنف؟

العهد الجديد يسعى إلى التخلي عن العنف، ورموز العهد القديم وللضرورة السياسية يسعون للجوء إلى العنف. فالدولة يبدو أنها لا تستطيع التخلي عن العنف. ولكن عليها أن تستخدم أقل عنف ممكن. فان مرافق الدولة تميل دوما إلى اللجوء إلى العنف أكثر مما هو ضروري، لذلك هي بحاجة إلى أصوات تنتقد تصرفها. وهذه الأصوات هي بنوع خاص جمعيات حقوق الإنسان، وجمعيات دعم ضحايا العنف. ولكن لتستطيع الاضطلاع بهذه المهمة لا يجوز لها أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بسلطة الدولة.

السؤال الأساسي: بحسب أية معايير أخلاقية وقانونية يجب الحكم على الوضع الذي يُبرر اللجوء إلى العنف؟

إن مهمة الجمعيات الإنسانية الداعمة لضحايا العنف. تقوم على أن تتخذ في مختلف الأوضاع الواقعية مواقف من شأنها تخفيف العنف أو حتى إيقافه. ماذا يعني هذا بالتفصيل، هذا أمر يتعلق بصورة أساسية بتقدير الوضع السياسي. وهذا قد يؤدي إلى آراء مختلفة بين تلك الجمعيات.



الدولة تحتج دائما، بعدم رغبتها بأي تدخل أجنبي، وحتى لو كان في الشأن الإنساني، ولسان حالها: هؤلاء هم مواطني، وما أفعله معهم لا شأن للآخرين به. فمع هذا التصور لدى الدولة للتدخل لدواعي إنسانية نكون قد تجاوزنا بصورة حاسمة التصور التقليدي لاحتكار العنف من قبل الدولة. وهذا يبدو اليوم الطريق الوحيد الممكن. ولكن السؤال هو كيف يمكن القيام بهذا التدخل بأسرع ما يمكن وبطريقة يقبلها الجميع.



نتساءل في الوقت نفسه كيف يجب أن نحدد العنف بالضبط؟

هل هو صفة للأعمال نفسها، أم هو نتيجة لتحديد الوضع كما يقول علم الاجتماع ؟ وهذا يعني أن ممارسة العنف هو في حالة معينة عمل إجرامي، وفي حالة أخرى يمكن أن يُعد عملا يُعيد استتباب العدل.



يمكن القول على وجه العموم إن الأعمال تكون أعمال عنف متى دمرت حياة الناس أو ألحقت بها أضرارا جسيمة، والمثل الصارخ بيننا اليوم، هو العنف الذي لحق بالشعب الكردي في حلبجة، حيث ألحق أضرارا جسيمة بالشعب والممتلكات، ودمر الكرامة الإنسانية تدميرا كاملا. هذه أعمال عنف واضحة لا يمكن تبريرها، أما ما يمكن تبريره مثل الدفاع عن النفس. في هذه الحالة أمارس العنف تجاه الآخر لأنه تعدى علي. فإذا ألحقت أضرارا بالمعتدي وربما قتلته، فهذا العمل في هذه الحالة هو عنف، غير أنه عنف شرعي (حالة الرد على عصابات الأخوان المسلمين). وهذا يؤدي إلى السؤال عن المعايير الأخلاقية التي تحدد في أية ظروف وبأي قدر يصير اللجوء الشخصي(السياسي) إلى العنف شرعيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رشوا السياح بالمياه.. سكان برشلونة يتظاهرون ضد السياحة المفر


.. لحظة اعتقال الشرطة الإسرائيلية لمتظاهر في تل أبيب




.. رئيس وزراء بريطانيا الجديد ينهي خطة لترحيل اللاجئين لرواندا


.. شهيدان بينهما موظف أونروا جراء قصف إسرائيلي قرب مخزن مساعدات




.. رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر ينهي خطة ترحيل اللاجئين ?