الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المجموعة القصصية الأولى، احتراق حافات الروح، استهلال، [1] احتراق حافات الروح

صبري يوسف

2018 / 12 / 23
الادب والفن


المجموعة القصصيّة الأولى
احتراق حافّات الرّوح

الإهداء:
إلى روح أمِّي المتلألئة في روحي
وإلى روح والدي المبرعمة في قلبي

استهلال
مع قصص صبري يوسف (احتراق حافّات الرُّوح)

تعليق د. الأب يوسف سعيد

ودّعَ صبري يوسف ديريك،
حاملاً خرير سواقيها، وسقسقات شواطئها الهادئة في أذنيه .. وعبَرَ دروب أحلامه..
وكأنّه لم يودّعها.
وكأنّه ودّعها ..
تأقلـمَ مـع مـواكـبِ غـيـومِـها. كـانَ مـسـحـوراً بالمكان، متقمِّصاً رعشة متقطِّعة من الزَّمن.. مأخوذاً، مسحوراً فـي بـهـجـة الأرض. سبّـاحاً ماهراً في بحيرات من فضاءاتٍ لم تنتهِ بعد. أزقّتها أوسع من شهقةِ شروقِ الشَّمس. ولسعتها النُّورانيّة أكثر اتّساعاً من فتحة في صدر نارِ الأحلام.
كأنّه لم يسافر ..
وكـأنّـه قـد قـطع ملايين الأميال في مركبات، أشبه بصحون طائرة، تلفُّ بذراعيها على خاصرة الزّمن المتكوَّر فـي أعـمـاقِـهِ.
كـان هناكَ محتضناً خاصرتَي الحنان المتدفّق من أشواق أمّه .. كأنّها هي الوقت وكأنّها من الوقتِ على أرقامِ السَّاعة، وذبذباتٍ دقيقةٍ فوقَ أرقامِ الأيّامِ والشُّهورِ والسِّنين.
كانَ مشدوهاً فـي عـبـثيّةٍ، يريدُ الاِقتحامَ بكلِّ شيءٍ. ويريدُ الارتباطَ بكلِح هلوساتِ العشقِ في سفراتٍ لا متناهية نحوَ جبالٍ مجهولة.
كأنّهُ كانَ هناكَ ،
وكأنّه لم يكُنْ هناكَ ..
كـانَ جـسـدُهُ قـد تـحـوَّلَ إلـى روحٍ عـاقلة، ونفسُهُ إلى عضلاتٍ واقتناصاتٍ هائجة. كأنّهُ في الصَّباحِ قد ارتدى قميصَ البحرِ اللّازوردي، وفي المساءِ حبَكَ من أعشابِ الفرحِ خيمةً من ثآليلَ متدلِّية من حلماتِ أثداءِ السَّماءِ .. قاطعاً ملايينَ الأميالِ على بساطٍ سحري. ولكنّهُ كانَ في كلّ هذا الارتباط والارتحال .. والانشطارات النّديّة، لازال في ديريك، ولازال يـعـانـقُ وجـنـتَي أمّـِهِ، يترعُ حليبَ الرّحمة من بؤبؤي أبيه .. ويغرفُ كأساتِ الحنينِ من أثداءِ أمّه، يقصِّبُ زمهريرَ أشواقِهِ ويسافرُ إلى اللَّامجهول.
ولمّا حـاولَ أن يـكـهـربَ روحـَهُ بتياراتِ شروقِ كهربائيّات النُّجومِ، تجدهُ واقفاً في زقاقٍ ضيّقٍ من أزقّة ديريك ..
يجترُّ حزنَهُ الأبدي ويـدحـرجُ كـرة مـن دمـعـةٍ حـبـلـى بـأحزانِ أبيهِ، وشهقةٍ ممزوجةٍ بحنانِ أمّهِ .. مهرولاً بروحِهِ نحوَ سواقٍ مستعمرة من أسرابِ فراشاتٍ آتيةٍ من منعطفاتِ الجبالِ.
صبري يوسف لم يـكـتـبْ قصصاً أو قصّة، كانتْ قصصُهُ مرتويةً بينابيعَ حنانِ أشواقِهِ، وحزن يتفصّدُ من أعماقِ شـهـقـتـِهِ .. مراراً كانَ يصوِّرُ دموعاً صافية، ساقطة كنقاطٍ هتونةٍ على طُرْسِ يراعتِهِ، ولعلّها قد تحوَّلَتْ إلى قصَّةٍ مأساويةٍ في محاجر عينيّ أمّهِ .. والحزنُ عندَ أبيهِ آخرُ تقليعات الرَّعشة في صدرِ أبيهِ.
كأنّهُ كانَ هناكَ.
وكأنّهُ لم يكُنْ هناكَ ..
يـخـرجُ ( صبري يوسف ) مـن بـاحـات حزنه إلى خارجِ أسوارِ المدينة "ديريك"، يحلّقُ في أرضٍ طرّزتْهَا الملائكة بابرٍ سحريّة، وحوطتْها بأصـابـعِ الآكـام الـدّهـريّة حـول جبلٍ تسكّعَتْ عليهِ سفينةُ نوح .. ورفرفَتْ فوقَهُ حمامتُهُ النَّاصعة الجناحين ومن كوّةِ سفينتِهِ فرّ غرابُهُ في وهادٍ سحيقةٍ ولم يعُدْ .
سـيـبـقى صبري يوسف أسـيرَ خـيـالاتـِهِ وارهـاصـاتـِهِ وأحلامِهِ المتوهّجة بالشَّوق، يدورُ في أزقّةٍ صنعَهَا الصَّمتُ ورشّ عليها كآبةً من ليلٍ بهيمٍ .. وتركَ أفراسَهُ تمرحُ في تلك السُّهوبِ، حاملةً عطشَ البرّيّة إلى أعماقِها.
هـنـاكَ في مـديـنـةِ ديريك، طُرِح مِجَن الجبابرة .. وتَعالى صوتُ حارسَ المدينةِ، يبحثُ عن قبّراتٍ هاجرَتْ نحوَ المياهِ المسحوبة قهراً نحوَ المنحدراتِ السُّفليّة، حيثُ المياهُ الدّافئة والقصص الشَّفيفة والقصيدةُ البتول.
اكتبْ يا صبري! .. فكتابتُكَ تغدقُ على قلوبِنا عزاءً وسلواناً .

د. الأب يوسف سعيد
..............................................................
1. احتراق حافّات الرُّوح

تمعَّنْتُ فيهم واحداً .. واحداً، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، وأمَّا النِّساء فما كنتُ أستطيعُ الإمعانَ فيهنَّ لأنَّهنَّ تحوَّلنَ إلى كتلةٍ من الأنين.
توغَّلَ ألمُ الفراقِ في مساماتِ جلدي .. هذا القلم المتواضع لا يستطيعُ أن يعبِّرَ عمَّا كان يراودني يومَ الوداع. صوَرُ الأحبّة وهم يودِّعونني لا أستطيعُ أنْ أنساها أبداً .. مشهدُ والديَّ العجوزَيْن وأنا أودِّعهما، مشهدٌ له علاقة بأبجدياتِ الموتِ قبلَ الأوان.. آنذاك شعرْتُ أنَّ حافّات روحي تحترقُ بنارٍ ملتهبة، تتصاعدُ ألسنتها من مساماتِ قلبي .. هذا القلب الّذي تبرعمَتْ فيه خلاصة مراراتِ الحياة.
لا أصدِّقُ نفسي أبداً أنَّني مررْتُ بتلكَ اللَّحظاتِ الرَّهيبة .. عبرْتُ ضباباً كثيفاً، ثمَّ رحَّبَ بي سرابٌ بلا نهاية .. وتلوَّنَتْ مشاعري بألوانٍ بنفسجيّة مضمَّخة بعبيرِ الشَّوقِ. السَّراديبُ المظلمة ابتلعتني ولم أعُدْ أميِّزُ أبجدياتِ السَّرابِ الَّذي كنتُ أسبحُ فيه بدون مجاذيف .. والرِّياح العاتية لطمَتْ خدَّيَّ الحزينَين، فبكَتْ عصافيرُ الدُّوري من جنونِ العاصفة!
عبَرْتُ البحارَ .. وأكلني الشَّوقُ إلى أزقَّتي الضَّيِّقة. شجرةُ التُّوت الكبيرة تنهضُ أمامي وأراها ــ رغم المسافات ــ تنحني معلنةً الحداد، فتغضبُ (دجلتي) مرتِّلةً ترتيلةَ الرَّحيل .. الدَّهاليزُ المعتمة الطَّويلة عصرَتْ رحيقي وقمَّطتني الغربة ثوبَ الحِداد، ويجنُّ جنوني إلى نجمةِ الصَّباح .. وكم أتذكَّرُ السَّهرات الممتعة الَّتي كنتُ أقضيها معَ أحبّائي على ضوءِ النُّجوم، وهواءُ بلدتي العليل كانَ يبلسمُ جراحاتنا!
مشاهدُ الوداع تتراقصُ أمامي الآن وأنا محاصرٌ وسط أخطبوط الغربة. أتذكَّرُ اللَّحظة الّتي رجوتُ أمِّي وطلبْتُ منها أنْ تسامحَني قُبَيْلَ وداعي الأخير. اقترَبْتُ منها بقلبٍ مُدمى قائلاً:
أرجوكِ يا أمَّاه (اغفري) لي وسامحيني وادعَي لي بالتَّوفيق .. ها أنذا راحلٌ خلفَ البحار. كانت أمّي غائصةً بأحزانِ الدُّنيا. ما كانت تستطيع أن تحرِّكَ شفتيها، كان وجهها شاحباً للغاية، فجأةً ارتجفَتْ شفتاها بسرعةٍ قصيرة ثمَّ توقَّفتا عن الحركة. كان الإزرقاقُ بادياً على سيماءِ وجهها وشفتيها. اقتربْتُ منها واحتضنُتها .. أحْبَبْتُ آنذاك أن أُدْخِلَها في قلبي وروحي وأتركَها هناك معلَّقة بين ثنايا الرُّوحِ والقلبِ إلى الأبد. قبَّلْتُ يديها المعروقتَين وعيناي زائغتان تهطلان بغزارةٍ واضحة. حاوَلَتْ أمِّي أن تقبِّلني لكنَّها لم تستَطِعْ أن تفتحَ فاها. تجمَّدَ الدَّم في شفتيها وتحوَّلَ جسدها إلى (كتلةٍ يابسة) وجفَّ ريقها. آنذاك شعرْتُ بضآلة حجمي، وبضآلةِ الأهدافِ المرسومةِ في ذهني أمامَ الموقف الّذي أنا فيه!
كانت رغبتي الوحيدة في تلك اللَّحظة أنْ تقبِّلَني وتعانقَني عناقاً طويلاً بكلّ أمومتها الحانية، (ثلاثة أرباع) دمها كان متجمِّداً في جسدِها الّذي كانَ ينوءُ تحتَ خريفِ السِّنين. عيناها جاحظتان تحدِّقان في لا شيء. كانت تشربُ مرارةَ الوداعِ بشراهة.
وفيما كانت تسبحُ مع عذاباتِ الفراق أوشكَتْ أنْ تسقطَ على الأرضِ لولا أنَّ أخي وأختي تلقَّفاها على الفور!
موعدُ الإنطلاق وتوديع أزقَّتي قد حان وأمّي لم تقبِّلْني بعد، وضَعْتُ خدّي على شفتيها اليابستَين وقلتُ لها: أمّاه أرجوكِ أنْ تقبِّليني قبلةَ الوداعِ الأخيرة. كانَتْ تمعنُ النَّظرَ إليَّ ولم تنطقْ بكلمة.
ما كانت تصدِّقُ أنَّ فلذةَ كبدها سيودّعُها (إلى الأبد) بهذه البساطة. كانت تبكي بكاءً مرّاً. الألمُ الّذي توغَّلَ في شراييني، في تلكَ اللَّحظات، تعجزُ كلّ اللُّغات عن الإفصاحِ عنه. توسَّلْتُ لآلهةِ الحبِّ والرَّحمةِ أنْ تبعثَ الحياةَ والحركةَ في شفتيها .. ووضعْتُ راحةَ يدي على ثغرِهِا اليابسِ. فجأةً اِرتعشَتْ شفتاها، فقلْتُ لها: أرجوكِ قبِّليني يا أمَّاه! .. وبصعوبةٍ بالغة اِستطاعَتْ أنْ تقبِّلَني قبلةً يتيمةً واحدة!
الجَّميعُ من حولي يغلِّفُهم البكاء والصّراخ. أحدُ المارّة نظرَ إلينا مشدوهاً .. تصوَّرَ أنَّ ( كارثةً ) ما قد وقَعَتْ .. تمتمَ قليلاً ثمَّ تابعَ متعثِّراً في خطاه.
عبَرْتُ مطبخي المتواضع. شعورٌ عميق بالألمِ كانَ يهيمنُ عليّ. عيناي حمراوان وحزينتان. اِستقبلتني المرآة بعدَ أنْ غسلْتُ وجهي البائس.. لم أعرفْ نفسي .. كانَ وجهي شاحباً للغاية إلى درجةٍ ما كنتُ أصدِّقُ أنَّ ما أراهُ في المرآةِ هو وجهي. كانت عيناي تلخِّصان مرارةَ الفراقِ وتهطلانِ دونَ استئذانِ الغيومِ. ارتجفَتْ يداي وازدادَ قلبي خفقاناً، وكأنَّ وحشاً مفترساً كان يطاردُني. غسلْتُ وجهي ثانيةً .. تذكَّرْتُ أحبّائي الّذين كانوا يرتادونَ بيتي. تلمَّسْتُ برّادي ثمَّ فتحتُهُ وشربْتُ قليلاً من الماءِ. تألَّمْتُ جدّاً عندما وقعَ بصري على أدويةٍ قديمة لأمّي .. وبجانبِ الأدوية كان يوجدُ قليلٌ من اللَّبنِ وثلاثُ بيضاتٍ. إحداها كانت مكسورة من خاصرتِها، ولكنّي وضعتُها بهدوءٍ في الزَّاويةِ العليا من البرّاد.
أحدُ المودّعينَ كانَ يراقبُني دونما قصدٍ منه، تقدَّمَ نحوي ثمَّ حضنني بكلِّ عفويَّته، هطلَتْ عيناي دموعاً غير مرئيّة، كانت تخرُّ نحوَ القلبِ مباشرةً وتصبُّ أخيراً عندَ شواطئِ الرُّوح!
الآن! .. من خلفِ البحار، أتذكَّرُ العناقاتِ الطُّويلة، أتذكَّرُ كيفَ عبرتُ غرفةَ والديَّ، أبحثُ عن منديلٍ. كانَ والدي الّذي خلّفَ وراءَهُ أكثرَ من ثمانيةِ عقودٍ من الزَّمن، يصرخُ ويبكي كالأطفالِ. تقدَّمْتُ نحوهُ وحضنتُه بحنانٍ عميق، فازدادَ صراخاً وأنيناً .. قلْتُ له لماذا كلّ هذا البكاء؟
أجابني: سأموتُ ولن أراهُ مرَّةً أخرى! (قُشَعْريرة حارقة توغَّلَتْ في ظلالِ الرُّوح) .. ثمَّ قلتُ له: بلى ستراهُ.
أجابني باصرار: لا .. سوفَ أموتُ ولنْ أراهُ مرَّةً ثانية.
فقلتُ له: ها أنذا بينَ يديكَ.
فقالَ: ما شأني بكَ طالما ودَّعني ولدي وأنا في خريفِ العمرِ الأخير.. تركني هنا أجترُّ همومي وجهي بوجهِ الحائط!
شعَرْتُ أنَّ ناراً ملتهبة تشتعلُ تحتَ أقدامي عندما سمعته يقول: (تركني هنا أجترُّ همومي وجهي بوجهِ الحائط!) .. ثمَّ قلتُ له بحرقةٍ ابنكَ لم يودِّعْكَ بعد يا أبتاه .. وهاأنذا أمامكَ و ..
قاطعني وهو يبكي بمرارةٍ قائلاً: قبلَ قليل رحلَ ابني الّذي كنتُ أدلِّلُهُ.. وكم حملتُهُ على كتفي في مواسمِ الحصادِ الأخيرة .. وأدخلتُهُ المدارسَ .. وعندما أصبحَ شابَّاً قرَّرَ أن يرحلَ بعيداً عنّي .. رحلَ وتركني ميّتاً بينَ الأحياء!
آهٍ .. آهٍ .. آه! استوطنَتْ أحزانُ العالمِ في قلبي، ما كانَ والدي يعرفُ أنّي ابنهُ. لقد ذبحَهُ ألمَ الفراقِ وتصوَّرني أحدَ المودّعينَ. ما كانَ قادراً على استيعابِ تلكَ اللَّحظاتِ القاسية الَّتي حرقَتْ شيخوختهٌ الباقية. أقسمْتُ لهُ أنّي ابنه فلم يصدِّقْني، وكانَ يبكي ويقول ابني راح، مشى منذُ لحظات .. صرخْتُ بدونِ وعيٍ وأنا أبكي ( بـــــــابـــــــــــــــا! ) أَنسيتَني فوراً؟! .. وأَيقظَتْ صرختي غيبوبَتُهُ المنسابة في عالمِ الألمِ .. ثمَّ فجأةً حضنَني وهو يقهقهُ دونَ أن يكونَ لديهِ استعدادٌ لهذهِ القهقهاتِ المفاجِئة .. كانَتْ دموعُهُ تنسابُ بغزارةٍ وهو يردِّدُ: أشكرُ الله أنّي رأيتُكَ مرّةً أخرى وأنا حيّ!
المودّعون كانوا مايزالونَ ململمينَ حولي. والدتي كانت مرتمية بينَ أحضانِ أختي وأخي. كانتْ تظنُّ أنَّ أخي الّذي أخذَ دوري في احتضانِها هو أنا! .. اقتربْتُ منها ووالدي مايزال يعانقني ثمَّ حضنْتُ والدتي ووالدي سويةً وأصبحْتُ في وسطِهُمَا تماماً. أحدُ المودّعينَ التقطَ صورةً مركّزاً على غزارةِ الدُّموع. كانتْ أمّي تضحكُ من شدّةِ الألمِ .. ووالدي كانَ يزدادُ صراخاً.
طلبْتُ من أحدِ المودِّعينَ أنْ يقومَ بدوري حفاظاً على اِستمراريةِ الإحتضانِ .. فاِرتمى أحدهم بينَ أحضانِهُمَا وهما غائصانِ في بحرٍ من الدُّموع.
اِنسَلَلْتُ من بينِهُمَا بحزنٍ عميق وألقيْتُ نظرةً وداعيّة عليهما وعلى ساحةِ الدَّارِ .. وودَّعْتُ كلَّ الأحبّة الّذين تلملموا حولي واحداً .. واحداً. الطِّينُ الأحمرُ اللَّزجُ كانَ مكتظَّاً حولَ منـزلي. شَهِقتُ شهيقاً عميقاً .. وأمعنْتُ النَّظرَ بأكوامِ الطِّينِ الَّتي رافقتني ثلث قرن من الزَّمان! .. انحنيتُ متناولاً حفنةً منهُ ثمَّ وضعتُهُ على صدري .. آنذاك وقع بصري على صفٍّ طويل من الأطفالِ في عمرِ الزُّهور ..
وقفْتُ أنظرُ إلى عيونِهُم البريئة. كانتْ دموعُهم تنهمرُ كاللآلئِ على خدودِهم الحزينة .. وبدأتُ أقبِّلُهم .. وأقبِّلُهم .. وكانوا يحتالونَ عليَّ ويصطفّون بالتّناوبِ مرّاتٍ ومرَّات .. وعندما اِستدركْتُ اِصطفافهم المتناوب، سألْتُ أحدهم:
أظنُّ قبَّلْتُكَ منذُ قليل، أَليسَ كذلك؟!
نظرَ إليَّ وعيناهُ تلمعانِ براءةً وحزناً ثمَّ قالَ: بلى قبَّلْتَني.
ولماذا اِصطفَفْتَ مرّةً أخرى؟
لأنّني ربَّما لا أراكَ بعدَ الآن .. لهذا أريدُ أنْ تقبِّلَني كثيراً.
نظَرْتُ إلى عينيهِ الحزينتين وشَعَرْتُ أنَّهُ فجَّرَ أحزانَ العالمِ في قلبي وشعرْتُ أيضاً أنَّ شيئاً ما أكثرَ مرارةً من العلقمِ بدأَ يخترقُ سماءَ حلقي .. تابعْتُ أقبِّلُ الأطفالَ .. وعندما كنتُ أقبِّلُهُم، كانت دموعَنا تلتقي فوقَ خدودِنا مشكِّلةً خطوطاً عديدة تتسارعُ منسابةً نحوَ أعناقِنا .. وأتذكَّرُ جيّداً كيف كانوا يهجمونَ على يدي اليمنى ويزرعونَها قُبَلاً .. آنذاكَ شعرْتُ أنَّ رأسي يدورُ ويدور، وبعدَها لمْ أشعرْ بالزَّمن، اِبتلعتني غيبوبةً خانقة! ...
اِنطلقَتِ الحافلة، أنظارُ المودّعينَ كانتْ مشدودةً نحوي، وعندما غابَتِ الحافلة عن الأنظارِ، بدَؤُوا يتمتمونَ ويحدِّقونَ بحسرةٍ حارقة في الفراغِ الّذي خلَّفتْهُ الحافلة!

ستوكهولم: تشرين الثَّاني (نوفمبر) 1992








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب


.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ




.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش


.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا




.. الفنان عبدالله رشاد يبدع في صباح العربية بغناء -كأني مغرم بل