الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[6]. اللّص والقطّة، قصّة قصيرة

صبري يوسف

2018 / 12 / 24
الادب والفن


6. اللّصّ والقطّة

اِستيقظتُ من نومي على صوتِ المنبّه. السَّاعةُ أشارَتْ إلى الرَّابعةِ صباحاً. اِرتديتُ ملابسي بسرعة وألقيتُ نظرة سريعة على أولادي، اِقتربتُ من اِبنتي الصَّغيرة وقبَّلتها بحنان، ثمَّ غطّيتُها وأمعنْتُ النَّظرَ فيها.
أزقّةُ المدينةِ وشوارعها كانت تنتظرُني. ركبْتُ درّاجتي .. الهواءُ كانَ منعشاً، والحارسُ اللَّيلي كانَ يسيرُ بتمهُّلٍ في إحدى الشَّوارع العريضة من المدينة. خفَّفْتُ من سرعةِ الدّرّاجة ثمَّ دخلْتُ إحدى الأزقّة. الأضواءُ كانَتْ خافتة .. ترجَّلْتُ ووضعْتُ درّاجتي على الرَّصيفِ. القططُ كانتْ تموءُ بصوتٍ عالٍ، شعرْتُ أنَّ مواءَ إحدى القططِ يشبهُ بكاءَ الإنسان، وتبادرَ لذهني فيما إذا كانتْ القطط تبكي فعلاً أم لا؟.. وهل البكاءُ من نصيبِ الإنسانِ وحده؟
براميلُ النّفاياتِ كانت كثيرة .. والقططُ كانتْ أكثر، ينافسُ بعضُها بعضاً. مواءُ القطط ِعكّرَ صفوَ اللَّيلِ، عدْتُ إلى درّاجتي، لا أسمعُ سوى صوتَ العجلاتِ والرّفرافِ الأمامي، كانَ الرّفرافُ يصدرُ زعيقاً مزعجاً، خفَّفْتُ السُّرعةَ قليلاً .. تمتمْتُ لنفسي: هذا هوَ المكانُ المطلوبُ، ثمَّ وضعْتُ درّاجتي جانباً وأسندْتُها على جذعِ شجرةٍ عاليةٍ، وألقيْتُ نظرةً شاملةً على المكانِ، فوقعَ بصري على برميلٍ كبير، البناياتُ من حولي كانتْ عاليةً جدّاً وفاخرة .. توجَّهْتُ نحوَ البرميلِ، وجدْتُ كلباً قريباً منهُ، نبحَ الكلبُ بصوتٍ خافتٍ وكأنّه يريد أن يُشعرني أنّه موجود، تابعتُ أسير باتّجاه البرميل متجاهلاً نباحَ الكلبِ. وفيما كنتُ ألقي نظرةً على محتوياتِ البرميلِ، فجأةً خرجَتْ منهُ قطّة وارتطمَتْ بوجهي وخربشتْني ثمَّ توارَتْ عن الأنظارِ ودخلَتِ الأزقّة .. اِضطربْتُ جدّاً واِقشعرَّ جسمي لهجومِها المباغت، وعندما خرجَتِ القطّة من البرميلِ أصدرَتْ مواءً عالياً، فنهضَ الكلبُ ونبحَ بتوحُّشٍ وغضبٍ وهجمَ عليّ، فهرعْتُ نحوَ درّاجتي هرباً منهُ، وفيما كنْتُ أمسكُ مقودَ درّاجتي، كانَ الكلبُ يمسكُ سروالي بأنيابِهِ. تمزّقَ السّروالُ وخوفٌ ما بعدَهُ خوف دخلَ إلى أعماقي. الدّرّاجةُ أصبحَتْ بيني وبينَ الكلبِ. نباحُهُ لم يتوقَّفْ، كانَ متواصلاً ومخيفاً، اِرتعدَتْ أوصالي وأوّل مرّة أرى وجهاً لوجهٍ شراسةَ الكلابِ. ما هذا البلاء الّذي وقعْتُ فيه؟ أحدُ القاطنين في ذلكَ الحيِّ اِستيقظَ من نومِهِ، والحارسُ اللَّيلي سمعَ نباحَ الكلبِ وجاءَ بسرعةٍ نحوَ مصدرِ الصَّوتِ .. وفجأةً سمعتُهُ يقولُ:
قِفْ مَنْ أنتَ؟ لا تتحرّكْ وإلَّا رميتُكَ بالرَّصاصِ! فُوَّهةُ البارودة موجَّهة نحوَ صدري! .. سمعْتُ صوتَ سيارةٍ تسيرُ بسرعةٍ فائقة في الشَّارعِ القريبِ من الزّقاقِ، والكلبُ توارى عن الأنظارِ، وأنا تسمَّرْتُ في مكاني!
اِرفَعْ يديكَ!
رفعْتُ يدي، الدُّرّاجةُ وقعتْ على الأرضِ، الحارسُ اللَّيلي اِقتربَ منّي وصرخَ في وجهي قائلاً:
أعطنِي هويَّتَكَ!
وفيما كنتُ أضعُ يدي في جيبِ سترتي العلوي، تدفّقَ ثلاثةُ مواطنين من منازلِهم.
اِمسكوهُ، أنّهُ لصّ، قالَ أحدهم .. ثمَّ بدأ يبربرُ قائلاً: منذُ شهرين اِقتحمَ اللُّصوصُ دكّاني .. وقالَ الآخر: سُرِقَ دولابُ سيارتي منذُ يومين. "يدي ممتدّة" .. سحبَ الحارسُ اللَّيلي الهويّة من يدي، قرأ اسمي بصوتٍ مسموع.
في هذه اللَّحظة ترجّلَ شرطيَّان من سيارتِهِم بسرعةٍ، وبصوتٍ واحد قالا: ماذا حصل؟
مشهدُ القطّةِ وهيَ ترتطمُ بوجهي، كانَ يتراقصُ أمامي .. قطراتٌ من الدَّم على جبيني، جرحٌ خفيف على خدّي الأيسر .. اِنكسرَتْ مرآة درّاجتي .. اِمتعضَ قلبي وشعرْتُ بالغثيانِ!
فتّشوهُ! قالَ أحدُ الشّرطة.
هويّة عمل، خمسة عشرة ليرة ودفترٌ صغير. قلّبَ الشّرطي صفحاته، في أعلى بعضِ الصَّفحاتِ اسم ثلاثي، وبحذاءِ كلّ اسم بعض الأرقام ...
تفضَّلْ ع المخفر! بلهجةٍ آمرة.
رئيسُ المخفر: ماذا كنْتَ تعملُ في السَّاعةِ الرَّابعة والرُّبع صباحاً؟
كنتُ أتمشّى أقودُ درّاجتي ..
تقودُ درّاجتكَ "باِنفعال"، لقد قالَ الحارسُ اللَّيلي أنّهُ وجَدَكَ تصارعُ كلباً، كانَ ينبحُ عليكَ بوحشيّةٍ، وذلكَ أمامَ دكّانِ صاحبِ الكلبِ، هل هذا حصل؟
نعم حصلَ ذلك.
إذاً قُلْ لنا بالتَّفصيلِ لماذا خرجْتَ من المنزلِ في وقتٍ كهذا؟ وماذا كنْتَ تنوي بالضَّبط؟
بصراحة يا سيّدي كنتُ أقودُ درّاجتي في شوارعِ المدينة، ثمَّ عبرْتُ أحدَ الأزقّةِ وترجَّلْتُ بجانبِ بعضِ البناياتِ العالية ووضعْتُ درّاجتي جانباً، متَّكئةً على جذعِ شجرةٍ و ...
وماذا يفيدُنا إذا كانَتْ درّاجتُكَ متّكئةً على الرَّصيفِ أو الجدارِ أو جذعِ الشَّجرة؟ ماذا يفيدُنا ذلك؟ هـاآ! صرخَ رئيسُ المخفرِ في وجهي باِنفعال.
هذه الحقيقة يا سيّدي.
رئيس المخفر: تابعْ!
بعدَ ذلكَ وقعَ بصري على برميلٍ كبير، تقدّمْتُ نحوَهُ، وفيما كنتُ أهيِّئُ نفسي لإلقاءِ نظرة، فإذا بقطّةٍ تخرجُ من البرميلِ بشكلٍ مفاجِئ .. جفلْتُ وخفْتُ جدّاً، وكادَتْ أنْ تلتهمَ وجهي، لولا أنّني أبعدْتُها بيدي فخربشتني .. وبعدَ ذلكَ أسرعْتُ نحوَ درّاجتي و ...
قاطعَني رئيسُ المخفر قائلاً: أيّةُ قطّة وأيُّ برميلٍ تتكلَّمُ عنهما؟ إنّني أحقِّقُ معكَ الآن وكلّ كلمة تتفوّهُ بها يتمُّ تدوينها في المحضر. يجبُ أنْ تكونَ صادقاً معنا، وكلّما أخفيتَ الحقيقة تضاعفَتْ عقوبتكَ.
أقسمُ بشرفي يا سيّدي أتكلّمُ الحقيقة.
تتكلّمُ الحقيقة؟ "بصوتٍ عالٍ" .. برميلٌ وقطّةٌ في تمامِ السَّاعةِ الرَّابعةِ والرُّبعِ صباحاً، تسمّيها حقيقة؟.. يخرجُ من وراءِ طاولته مبربراً: أنا لم أجدْ أبداً رجلاً يخرجُ من منزلِهِ في وقتٍ كهذا، ويُقبَضُ عليهِ متعاركاً مع كلبٍ ثمَّ يأتي ويقولُ .. برميل وقطّة، وإلى آخر ما هنالك من الكلامِ الفارغِ، الّذي لا يفيدُ المحكمة بشيء. ماذا بينكَ وبينَ القطّة؟ هاآ! أيُّ منطق هذا الّذي تتكلّمُ فيه؟
آنذاك تذكَّرْتُ زوجتي واِبنتي وأولادي الصِّغار .. ليلةُ أمس وعدْتُ زوجتي أنْ أجلبَ دواءً لاِبنتي الصَّغيرة .. صوتُ سعالِها يرنُّ في أذني كما كانتْ ترنُّ السَّاعةُ يوميّاً في أذني.
رنَّ رئيسُ المخفرِ الجَّرسَ. نظرْتُ حولي فرأيتُ قامةً طويلة تقفُ باِستعدادٍ. أوامركَ سيّدي.
اِحجِزْ درّاجتهِ وخُذْهُ إلى السّجنِ!
وبينما كنتُ أسيرُ إلى السّجنِ، تذكّرْتُ اِبنتي الصَّغيرة .. آهٍ .. يا اِبنتي، إنَّ صدى سعالِكِ يرنُّ في أذني الآن ولا يمكنُ أنْ أنساه .. اعذريني فلا أستطيعُ أنْ أجلبَ لكِ الدَّواءَ هذا اليوم أيضاً، ولا أعلمُ إلى أينَ سينتهي بي هذا؟
مَحْـكَـمَـة!
القاضي: أنتَ متَّهم بمحاولة السَّطو على دكّانٍ عن سابقِ إصرارٍ وتصميم، ما هيَ أقوالُكَ؟
يا سيّدي والله أنا مظلوم.
تفضَّلْ قُلْ لنا ما هيَ أقوالُكَ؟
حاضر سيّدي: لقدْ خرجْتُ من منزلي السَّاعة الرَّابعة صباحاً .. كنْتُ أقودُ درّاجتي ومرَرْتُ في أحدِ الأزقّة، وهناكَ وجدْتُ قططاً يهاجمُ بعضُها بعضاً، لقد خُيِّلَ إليَ يا سيّدي أنَّ بعضَ القططِ كانت تبكي .. "جحظَتْ عينا القاضي" .. وترجَّلْتُ بعدَ ربعِ ساعة تقريباً من ركوبي الدّرّاجة، بعدَ أنْ تركْتُ القططَ وشأنها .. ووجدْتُ برميلاً كبيراً فتوجَّهْتُ نحوهُ، وفيما كنْتُ أهيّئُ نفسي لألقي نظرةً على البرميلِ، فجأةً خرجَتْ قطّةً من البرميلِ واِنقضَّتْ على وجهي، وبصعوبةٍ تمكَّنْتُ أنْ أبعدَها عن وجهي. اِضطَربْتُ جدّاً وما وجدْتُ نفسي إلّا وأنا أهرعُ صوبَ درّاجتي .. وعندما وجدَني الكلبُ أركضُ، فجأةً سمعتُهُ ينبحُ عليّ كالمسعورِ وهجمَ عليّ ومزّقَ سروالي! .. أنظرْ سيّدي، أقسمُ لكم بشرفي، سروالي مزّقه الكلب .. وعلى صوتِ نباحِ الكلبِ جاءَ الحارسُ اللَّيلي وهذهِ إفادتي!
"يضحكُ كلّ مَنْ في القاعة".
يمسكُ القاضي "داقوقه" ويدقُّ على الطَّاولة .. هدوءٌ تام يخيّمُ على القاعة.
القاضي: لقد تقدَّمَ صاحبُ الدكّان بعريضةٍ، متَّهماً إيّاك بأنَّكَ ضُبِطْتَ أمامَ دكَانِهِ بقصدِ السَّرقة، ولولا أنَّ كلبَهُ كانَ يقظاً، والحارسُ اللَّيلي كانَ يقظاً هو الآخر، لكنْتَ قد سطوْتَ على دكّانِهِ.
بماذا تجيبُ على هذا الاتّهام الموجّه إليكَ؟
لا أعلمُ كيفَ أجيبُ عن هذا الاتِّهام.
هل تريدُ أنْ توكِّلَ قضيَّتَكَ إلى محامٍ؟
لا سيّدي.
ولماذا لا تريدُ ذلكَ؟
لأنَّني بريء من جهة ولا أملكُ نقوداً من جهةٍ أخرى، وأنا متأكِّد بأنَّني بريء ومظلوم.
أنتَ متأكّد شيء، وأن نتأكّدُ نحنُ شيءٌ آخر.
أقسمُ لكم بأنَّني بريء وقلتُ الحقيقة يا سيّدي.
يقفُ صاحب الدُّكّان، بعد أنْ استأذنَ القاضي قائلاً: لقد وكَّلْتُ المحامي (.... .....) ولديهِ أقوالٌ تفيدُ المحكمةَ الموقّرة.
يقفُ المحامي ويسترسلُ طويلاً.
كنتُ أنظرُ إلى المحامي تارةً، وإلى القاضي تارةً أخرى. تذكَّرْتُ زوجتي .. واِبنتي الصَّغيرة لم أستطِعْ أن أجلبَ لها الدَّواء .. واِبني! هل ذهبَ إلى المدرسةِ جائعاً؟ .. أشعرُ وكأنَّ نباحَ الكلبِ يرنُّ في أذني الآن! .. وتتوالدُ الهمومُ والأسئلةُ في ذهني ثمَّ تدورُ ولا تتوقَّفُ عن الدَّوران.
القاضي: ما هو ردُّكَ على أقوالِ المحامي الّتي تؤكِّدُ بأنّكَ كنتَ تنوي السَّرقة؟
أبدأ مرافعتي بشهيقٍ عميق! .. سيّدي القاضي: أنا ما كنْتُ أنوي السَّرقة كما يزعمُ المحامي .. أنا والقطّة كانَ لنا هدفٌ واحد ونيّةٌ واحدة، فإذا كانَ هدفي السَّرقة، فالقطّةُ كانَ هدفُها السَّرقة هي الأخرى!
أيُّ هدفٍ وأيّةُ نيّةٍ تتكلّمُ عنهما؟ وكيفَ تسمحُ لنفسِكَ أنْ تشبِّهَ أهدافَكَ ونيّاتكَ بأهدافِ ونيّاتِ القطط؟ وهلْ للقططِ غاياتٌ وأهدافٌ كالإنسان؟
لا سيّدي، معاذ الله أنْ يكونَ للقططِ أهدافٌ وغاياتٌ كالإنسان، ولكنْ عندما ينافسُ الإنسانُ القططَ تحتَ جنحِ اللَّيل على برميلِ النّفايات، عندئذٍ تلتقي النِّيَّات وتصبحُ أهدافهما سيّان!!

ديريك: شتاء 1986








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج حسام سليمان: انتهينا من العمل على «عصابة الماكس» قبل


.. -من يتخلى عن الفن خائن-.. أسباب عدم اعتزال الفنان عبد الوهاب




.. سر شعبية أغنية مرسول الحب.. الفنان المغربي يوضح


.. -10 من 10-.. خبيرة المظهر منال بدوي تحكم على الفنان #محمد_ال




.. عبد الوهاب الدوكالي يحكي لصباح العربية عن قصة صداقته بالفنان