الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


[7]. احمرار السَواقي، قصّة قصيرة

صبري يوسف

2018 / 12 / 25
الادب والفن


7. اِحمرار السّواقي

كنّا نتواصل معهم عبر خيطٍ من الدُّموع .. نسمعُ نحيبهم المتواصل فتتلظّى قلوبُنا من الاِحتراقاتِ المتفاقمة هناك حولَ مهودِ الأطفال.
آهٍ وألف آه .. أيَّتها النّيران المتربِّصة بأرواحِ الشُّبَّان! وأنتِ أيَّتها المعارك الغادرة، لماذا أرخيتِ جسدَكِ الثَّقيل بوحشيّةٍ بربريّة على أقدامِ الأطفالِ الطَّريّة، تهشِّمينَ أصابعَهم الرَّفيعة تارةً، وتهرسينَ أجنحتَهم المخضوضرة تارةً أخرى.
توغَّلَ الحزنُ شيئاً فشيئاً في جذوعِ الأشجارِ، وارتعشَتْ شفاهُ الطَّبيعةِ من الغضبِ، والكهولِ! .. غاصوا في بحرٍ من القلقِ والغيظِ وأعلنوا حدادَهم، رافعين أيديهم للسَّماءِ، مستنجدينَ بالآلهةِ، لكنَّ الآلهة كانت منهمكةً بجنازاتِ هذا العالم!
تناهى نحيبُ النِّساءِ إلى مسامعِ الأشجارِ، الأشجار الَّتي تكسَّرَتْ أجنحتُها الشَّامخة وبدأتْ هي الأخرى تبكي كالأطفالِ، وترمقُ التُّرابَ المخضَّبَ بالدِّماءِ بحزنٍ عميقٍ .. عميق!
وقفَتِ الأمَّهاتُ بجانبِ إحدى السَّواقي الفائرة بدماءِ الشَّبابِ. الشَّباب الَّذين طحنَتْهم المعارك الحمقاء تحتَ عجلاتِها الثَّقيلة، تاركةً خلفها عيون الأمَّهات متورِّمةً ومحدِّقةً في الفراغِ .. الفراغ!
إزاء هذه السِّيمفونيّة الألميّة أعلنَتِ السَّماءُ بكاءَها المستديم، وغضبَتْ من الشَّراراتِ الملتهبة الَّتي أدمَتِ خاصرةَ المساءِ الحنون.
أشارَتْ إحدى النِّساء بيدِها المرتجفة نحوَ ساقيةٍ مخضّبةٍ بالدِّماءِ قائلةً:
هوذا ابني، هوذا ابني! ثمَّ توجَّهَتْ باندفاعٍ غامض نحوَ السَّاقية.
اِندهشَتِ النِّساءُ وغمرهنَّ البكاء متسائلات: أينَ هو اِبنكِ يا أختاه؟
أجابتْ بقلبٍ منكسر، أما رأيتم ذلكَ الشَّاب الَّذي كانَ يطفو فوقَ الدِّماءِ الجَّارية، مادَّاً يديهِ نحوَنا بتلهُّفٍ كبير؟
هزَّتِ النِّساءُ رؤوسهنَّ ناحباتٍ، وأخذهنَّ الشُّرودُ بعيداً. شعرَتِ الأمُّ في تلكَ اللَّحظة أنَّها روحٌ بلا جسد .. وجسدٌ بلا روح، ثمَّ اقتربَتْ من السَّاقيةِ وعيناها تقدحانِ ألماً .. رفعَتْ يديها للسماءِ مردِّدةً:
اللَّعنة عليكِ أيَّتها الحرب الغادرة .. الغادرة! .. وملعونٌ كل مَنْ كانَ سبباً في تشكيلِ اِحمرارِ السَّواقي. "اجتاحَتِ الأشجارُ موجةً من البكاءِ!".
كانتِ الطُّيورُ آنذاك مترامية على اِمتدادِ السَّاقية .. كم كانت عطشى! .. لكنّها أبَتْ أن تشربَ من مياهِ السَّاقية الممزوجة بالدِّماءِ السَّميكة!
مزَّقَتْ أصواتُ الدّبّابات والطَّائرات أغشية الآذان، وتوغَّلَتْ في مخِّ العظامِ. الشَّبابُ في خنادقِهِم الضَّيّقة يتخيَّلونَ شبحَ الموتِ يحومُ حولهم، ويتمنَّونَ العبور في باطنِ الأرضِ، بعيداً عن مخالبِ الإنسان!
وفيما كانَ الشَّباب ينتظرونَ الموتَ، كانت قامات آبائهم وأمَّهاتهم تتماثلُ أمامهم فتكتملُ معهم سيمفونيّة الموت على إيقاعاتِ هذا الزَّمن المجنون!
وأمَّا فراخُ الطُّيورِ! فكانتْ تفتحُ مناقيرَها الغضَّة، تنتظرُ أمَّهاتها كي تبلِّلَ ريقَها الجَّاف، ولكنَّ أمَّهات الطُّيور ماتَتْ وهي في طريقها إلى فراخِها.
مَنْ سيبلِّغُ الفراخَ على موتِ الأمَّهات؟
ومَنْ سيبلِّلُ ريقَها الجَّاف بعدَ موتِ الأمَّهات؟
فجأةً تكسَّرَتْ أغصانُ الأشجارِ وبدأتْ تتهاوى على الحشائشِ المحروقة، وسقطَتْ أعشاشُ الطُّيورِ وتكسَّرَتْ بيوضُها قبلَ أن ترى النُّور!
.. وعلى اِمتدادِ الأقبية العميقة، كانت الخرائطُ الطّبُّوغرافيّة ترتعدُ تحتَ الأيدي القاسية. أحدهم أشارَ إلى أحدِ الأمكنة يريدُ اِختراقه وإبادته تماماً. وآخرون ترتجفُ قلوبهم، ويهزُّون رؤوسهم نحو اليمينِ واليسار، ويتخيَّلون الأطفالَ الَّذينَ هناك، يمدُّونَ أعناقهم نحوَ أثداءِ أمَّهاتهم.
دقَّتْ أشجارُ النَّخيل ناقوس الموتى .. وأعلنَتْ نفيرَها العام بغضبٍ شديد. نهضَتِ الأمّهاتُ الثُّكالى وبدأنَ يرتِّلنَ ترتيلةَ الأحزانِ، فجاءَتْ ترتيلتهنَّ كأنَّها صدى لخريرِ السَّواقي الّتي تراكمَتْ فيها أجنحةِ الشَّبابِ المهروسةِ وجماجمِ الأطفالِ الغضَّة، مفقوءة العيون و ...
آهٍ يا أيُّها الزَّمن الأحمق! .. لماذا يأكلُ الإنسانُ بعضَهُ بعضاً؟!
وهناكَ! .. بجانبِ أحدِ الشَّواطئ البعيدة، وقفَ جنرالٌ أهوج يمسكُ "قصبةً" وينظرُ إلى وجهِ المياه .. ينتظرُ اِهتزازاتِ الخيطِ المتدلّي في الماءِ .. وعلى مقربةٍ منهُ راديو صغير. كانَ المذيعُ يقرأ نشرةَ الأخبارِ .. وكانَ الجنرالُ الأهوجُ يمعنُ النَّظرَ في صفحةِ المياهِ ويقهقهُ بأعلى صوتِهِ، وكأنَّ الجماجمَ البشريّة الَّتي أكلَتْها نيرانُ الحربِ، دُمى خشبيّة يتسلّى بها كما يتسلّى "بقصبتِهِ" على شواطئِ البحار!!

غوثيمبورغ: صيف 1990








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز


.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال




.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا