الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكان المغيّب ومثالية الجسد .. كتاب المراحيض

مرتضى هاتف بريهي

2018 / 12 / 26
الادب والفن


طالما حفلتْ تقاليد الأمم اللّغوية وأعرافها بتغييب بعض الأفكار والألفاظ بعدّها (تابوهات/محظورات) لغوية، وأفرطت في حساسيتها تجاه المتحدثين بها أو حولها، وحاولتْ أنْ تلطف هذه الألفاظ ما أمكنها مرةً، وهجرانها تارةً أخرى.
وكأنّ الحديث بها أو عنها يعدّ خروجاً عن الذوق الإنساني، متناسين حاجات الإنسان الطبيعية ومصيره، مع علمهم أنّ المحظورات اللّغويّة تتعلق بـ( الموت، والجنس، والمراحيض)، وكلّ ذلك لا مفرّ منه، وهو مرتبط بالجسد الفاني، لذلك اتجهوا للحلم بالـ( يوتوبيا) ، وبحسب فوكو فإنّ ((اليوطوبيا هي المكان الذي يقع خارج كل الأمكنة، لكنه المكان الذي نحظى فيه بجسد بدون جسد، جسد سيكون جميلاً، رائقاً، شفافاً، نورانياً، جباراً في قوته، لانهائياً في زمنيته، نحيلاً في قوامه، نحيلاً في قوامه، لامرئياً، محروساً، ودائماً مُجمّلاً ...))1، في حين أن الجسد الطبيعي يعدّ في نظر فوكو "نقيضاً لكل طوباوية"، وهذا ما أكده د.لؤي حمزة في (كتاب المراحيض) حينما ربط الجسد بالمكان، وأيّ مكان، إنّهُ المكان الذي يقصيه الكتّاب من المركز، إلى الهامش المغيّب عن التلفظ قبل التفكر والتأمل والنظر؛ خشية الوقوع في المحظور ، إذ يحضر فيه الجسد العاري من جهة، والمكان المنبوذ من جهة أخرى.
كتاب المراحيض .. هكذا يصدم القارئَ عنوانُ الكتاب، فيجافيه أو يعانقه، أو يتسلل إليه خلسة ليقتنيه، وربّما بعد حين يقدح أو يمدح، وربّما لايهم الكاتب مدح القارئ أو ذمه؛ لأنّهُ كما يبدو قد كتبه مدفوعاً بوعي بأهمية هذا المكان في حياة الإنسان؛ لأنّ ((المرحاض علامة ثقافية تتعدى حيزها المكاني، لتصبح مؤشر وعي وإشارة انتماء))ص56، فالاهتمام بالمراحيض وأماكنها وأشكالها ونظافتها دليل ثقافة ووعي بأهميتها للإنسان وجسده الواقعي لا المثالي، إذ تمثل ((لحظة المرحاض لحظة مصيرية في زمان الجسد))ص77، الجسد التي تختلف صورته ووظيفته باختلاف زاوية النظر، إذ ((تقول الكنيسة: الجسد خطيئة، يقول العلم : الجسد آلة، تقول الإعلانات: الجسد مشروع تجاري، يقول الجسد : أنا مهرجان))ص111.

يرى د.لؤي أن المرحاض هو المكان المزدوج بين النظافة والنجاسة، لذلك لايمكن النظر إليه على أنّهُ المكان المقرف المقزز، بل بوصفه المكان الذي يرتبط بأمان الإنسان، والذي لا غنى للإنسان عنه في الأسفار أو الحروب أو المنافي أو السجون ، فـ((المراحيض بوابات الأوطان البديلة، عتبات سلامتها ومفاتيح طمأنينتها، فليس للمهاجرين حاجة أشد ضرورة ومضاء من حاجة أجسادهم وقد أنهكتها سبل القهر وأساليب العدوان))ص59، وكذلك يرتبط المرحاض بتحرر الجسد من طاقاته السلبية، ويرتبط بالرقي والتمدن والحضارة.

يقارب الكاتب فكرة المراحيض مقلّباً الأفكار، مع فلسفة مكانية واقعية مدهشة، ومتأملاً الأماكن وتبدلاتها وأشكالها، من مراحيض الحروب إلى مراحيض السجون، إلى مراحيض المدن، إلى مراحيض الطرق…الخ..كاشفاً الإذلال الذي تمارسهُ الحاجة للمراحيض في الحروب والسجون.. يتناول ذلك كلّه بلغة أدبية بديعة خلّابة وأسلوب ساحر، مازجاً السرد بالاستشهادات والاقتباسات التي تغني النص ولا تثقله، تُلمح اللغة الشعرية بجمالياتها في مواضع كثيرة، لكن السرد هو النسق الطاغي تتكاتف فيه الأفكار وتتلاقح فيه الآراء وصولاً للمقاصد والغايات.

.
1- كتاب (الجسد الطوباوي، أماكن أخرى)، فوكو : 23

★ملحظ : كتاب المراحيض في طبعته الأولى عن دار ألواح 2004 ، وفي طبعته الثانية عن دار أزمنة 2007، قُدّم في عنونته تصنيفاً ((رواية تعرُّف)) ، في حين أن طبعته الثالثة عن دار المعقدين 2018 ، قد حذف التصنيف الكتابي، وظل بعنوان (كتاب المراحيض) فحسب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي