الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية دوركايم والانتحار الاجتماعي ... الأردن نموذجا

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2018 / 12 / 26
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


العالم الاجتماعي المعروف اميل دوركايم (1858-1917) اهتم في فكرة الفاصل الزمني القصير بين السعادة والشقاء والحياة والفناء، واخذ يدرس اللحظة الفاصلة بين الجنون والانتحار، ودرس مسألة الاندماج الاجتماعي وعلاقته بالانتحار في مجتمع يتحول بسرعة من نمط زراعي بسيط الى انفتاح نحو الصناعية، وتهمين عليه الكنيسة، فرأى ان مكونات المجتمع لم تستطع التخلص من ترسبات الموروثات الاجتماعية القديمة بسهولة ووقفت عاجزة امام استيعاب التحولات السريعة اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا، وهذا ما يجري اليوم في الاردن، تحولات وتغيرات سوسيولوجية واقتصادية كبيرة يمر بها المجتمع الاردني حولته بقدرة قادر من ثقافة "الرعوية" والنفعية، كإطار يرسم علاقته بالدولة، الى مجتمع متحرر اجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا، وجد فيه المواطن نفسه يدور في حلقة مفرغة، تعرض خلالها لتهميش الدولة اقتصاديا، وتفكيك منظومته الاجتماعية والأخلاقية بوتيرة متسارعة، انتجت في غضون عقدين، جيل يتطلع الى تجربة الاقتراب من الموت في غياب دولة المواطنة والرعاية والرفاهية !!
حاول دوركايم ان يطور منهجه العلمي في دراسة قضية الانتحار في مجتمعه، والتي وصلت ارقاما مذهلة انذاك، فركز على قضية وحدة المجتمع في لحظة اعادة "تهذيب الاخلاق" والتربية بوصفهما مدخلا هاما لإعادة تنظيم المجتمع، فأخذ يدرس حالات الانتحار على حده ، واعتمد على منهج التحليل في قراءة الظواهر انطلاقا من دراسة العوامل والدوافع، فألف كتابا عظيما يعتبر لليوم مرجعا في علم الاجتماع، اسمه "الانتحار" وصدر في عام 1897م، وقدم فيه دراسة علمية جريئة لم يسبقه أحدا في هذا المجال، وانتقد فيه كل التوصيفات والمبررات التي كانت تسوقها الحكومات انذاك بشان الانتحار ، كما يجري في الاردن اليوم، ورفض فكرة ان الانتحار مرتبط بالجنون او الهلوسه او الادمان او الافلاس الاخلاقي او الابتعاد عن الله او الالحاد، وهي توصيفات كل حكومات العرب للأسف ، بل اعتبر الظاهرة مسألة اجتماعية بحته، ودرسها في اطار علمي فلسفي مفاده "لا يمكن اثبات رابطة علم بمعلول بين ظاهرتين استنادا الى وقائع معزولة ومثيرة للفضول.." بل برأيه ان دراسة ظاهرة الانتحار تتم "وفق توافقات وتوازنات وتغيرات متزامنة بالعلاقات المتبادلة".
لذلك قدم دوركايم نظريته الاجتماعية للانتحار وفق قاعدتي: الدمج (التكيّف) والضبط، أي دمج المجتمع أو تكيفه في كتلة واحدة متماسكة تزيل الفوارق بين فئات المجتمع، وضبط رغبات الافراد في اطار المجتمع الواحد من خلال تلبيتها كهدف من اهداف المجتمع الصالح او المواطنة ان جاز التعبير اليوم، وهنا مكمن العلة في الاردن والدول العربية، فالمواطن لا يشعر انه جزءاً من تركيبة المجتمع حينما يجد نفسه معزولا عن حياة الرفاهية التي تروج لها الحكومة بشان المشاريع الوهمية ومعدلات النمو، وفي نفس الوقت لا تلبي الدولة رغبات المواطن او الحد الادنى منها: (العمل الكريم، التأمين، الضمان، المسكن، العدل، المساواة ..الخ) ليشعر انه منضبط في ايقاع مجتمع واحد يتكافل فيه المواطنين سواسية لخدمة الوطن، بل بات الوطن بالنسبة لكثير من الأفراد، مزرعة خاصة لفئة محدودة، والبقية الباقية رعايا وسماسرة لخدمة المزرعة وأصحابهما !!
فكيف تقنع اذا من يقدم على الاقتراب من الموت انه مجنون او يتعاطى حبوب الهلوسة وهو يبحث عن لقمة عيش مغموسة بالكرامة، او يحاول ان يهرب من ظلم المجتمع والوطن، او أن يكسر بموته تقاليد الصمت العاجز عن تحقيق أدنى مفاهيم السعادة والحياة!!
ان ضعف الانتماء وضياع الهوية والاستهانة بالكرامة الآدمية والشعور بالاغتراب في الوطن، كلها أسباب تؤدي الى انتشار ظاهرة الانتحار في المجتمع، بل وأسباب ايضا لانتشار ظاهرتي "العنف المجتمعي" و "البلطجة" لان فقدان التوازنات الاجتماعية تدخل المواطن او الفرد في فلسفة عدم الاستقرار الذهني والحكم المنطقي على سلوكه وتصرفاته، فتؤدي الى "جنون عقلي" عضوي، أي فقدان القدرة على التحكم بهوى النفس الذي يدفع صاحبها الى البحث عن حلول نهائية توقف نزيف تفكيره المشلول بأسباب البقاء، مادام البقاء ارتبط بالشقاء !! فمن لم يفكر بالانتحار بحثا عن الحياة، يفكر في العنف أو "البلطجة" وسيلة لاستمرار الحياة، مهما كان شكلها او لونها او مستقبلها !!
أما مبررات الظروف الاقتصادية والمعيشية، فهي الأسباب الظاهرة للانتحار، وهي أسباب حقيقية بلا ادنى شك، لكن القصة اعمق من ذلك، كما وضحنا، لان الاحصائيات تبين ان الانتحار ينتشر ايضا في الدول التي تحقق مستويات نمو ورفاهية عالية، كالسويد وسويسرا وألمانيا والولايات المتحدة مثلا، لكن في الاردن واغلب الدول العربية، القضية مرتبطة بالبعد الاجتماعي اولا واخيرا، فالبطالة وغلاء الاسعار وتفشي الفقر ...الخ اسباب تندرج تحت مظلة تغير انماط السلوك المجتمعي وغياب مظاهر التكافل والمجتمع الواحد، فضلا عن غزو المجتمع الأردني بمكونات اجتماعية وافدة انعكست سلبا على مفاهيم التحدي والبناء والوعاء الثقافي الخاص.
فالمجتمع الأردني تعرض خلال العقود الثلاثة الاخيرة لموجات من الهجرة البشرية، من ثقافات متباينة، ساهمت في رفع نسب التفكك الاجتماعي والأسري، وزادت ايضا معدلات الفقر والبطالة والغلاء... وسط بيئة اجتماعية لم تتشكل هويتها الوطنية في اطار حضاري قادر على استيعاب التغيرات الاجتماعية وإحداث توازن توافقي يعكس قوة تلك الهوية، فليس على سبيل الدعابة ان يتندر الأردنيون اليوم بأنهم أصبحوا أقليه في وطن لكل العرب، فلو كان لدى الأردنيين اليوم هوية وطنية جامعة تكون مصدر فخر واعتزاز، بغض النظر عن توازنات البعد الديموغرافي، لما شكى اليوم عشرات الكتّاب والصحفيين وآلاف المواطنين، وشق بعضهم الجيوب، وذرف الدموع، على ما يسمونه "هيبة الدولة" وضياع "حقوق المواطن" و"الشعور بالاغتراب" وضعف مفاهيم "الولاء والانتماء" !! فلنفتش عن الهوية الوطنية الأردنية أولا .
العالم دوركايم عايش الانتحار في وطنه، ووصف له العلاج ونجح بعد ذلك في اقناع العالم بنظريته الاجتماعية للانتحار، والتي استفادت منها دول لاحقا لدراسة ظاهرة الانتحار والعمل على الحد منها، دوركايم نظر للانتحار ليس بوصفه مسألة فرد يرغب بالتخلص من حياته، كما ينظر بعض الجهلة اليوم الى المنتحر، سواء في الاردن او الوطن العربي، بل نظر اليه بصفته معركة حياة او موت للدول! فالانتحار ان تمكن من دولة ، بات انتحارا للوطن بأكمله ، فهل لدينا بالأردن القدرة على خوض معركة الحياة او الموت؟ وهل لدينا أيضا القدرة على حل ظاهرة الانتحار أو الحد منها، قبل استفحالها، بعيدا عن الإسفاف والتسويف؟
بلا شك نحن لا نملك ان نغير ما جرى، او نعيد الحياة لمن انتحروا، لكن بيد الدولة برمتها من اليوم أن تحول دون انتحار آخرين، مهما كانت الأسباب، وربما نستفيد من العلم قبل أن نفكر بالعشوائية والتخبط، فدوركايم يقول أن أكثر من 70% من الذين انتحروا كانت لديهم علامات انذار مبكر للمجتمع ولمن حولهم، لكن أحدا لم يلتفت إليهم او يشعر بمعاناتهم !! فكم لدينا من حالات فردية اليوم تفكر أو من المحتمل أن تفكر بالانتحار في الأردن؟!!
علينا ان نقبل التحدي، كدولة وحكومة وشعب، ونعلن الحرب الاستباقية على ظاهرة الانتحار، ونساعد ونعالج الانتحار في اطار علمي منهجي معتمدين على نظرية دوركايم، وننقذ من يفكرون بالاقتراب من تجربة الموت، والمدخل الهام لذلك هو تعزيز شعور الكرامة الشخصية والوطنية والقوة لمكونات الشعب الأردني من خلال عنصري التكيّف والضبط الاجتماعيين، ومساعدة المواطنين على تخطي الازمات الاقتصادية تحديدا، بشتى السبل، وعلى الدولة ايضا تعزيز الهوية الوطنية الجامعة في اطار دولة المواطنة فكلما تعززت فرص الأمل، تعززت معها فرص السعادة والتشبث بالمستقبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي على مركز رادارات في سوريا قبيل الهجوم على مدينة


.. لماذا تحتل #أصفهان مكانة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإي




.. بعد -ضربة أصفهان-.. مطالب دولية بالتهدئة وأسلحة أميركية جديد


.. الدوحة تضيق بحماس.. هل تحزم الحركة حقائبها؟




.. قائد القوات الإيرانية في أصفهان: مستعدون للتصدي لأي محاولة ل